إجازة على مضض.. كيف يكشف تجاهل عيد القيامة أزمة المواطنة في مصر؟

في مساءٍ من مساءات يناير الباردة، وقفت مريم، طالبة في الفرقة الرابعة بكلية التربية بجامعة المنيا، أمام باب مكتب شؤون الطلاب، تحمل عبءَ دفعتها التي تضم خمسين طالبًا وطالبة، منهم ست طالبات مسيحيات فقط. لم يكن هذا المشهد جديدًا عليها؛ فمنذ عامها الدراسي الأول، باتت تعرف أن اقتراب عيد الميلاد المجيد يعني معركة جديدة — ليست مع الأسئلة الامتحانية — بل مع تجاهلٍ مؤسسي لصوتها وصوت زميلاتها، ومعركة لاسترداد ما يُفترض أنه أبسط الحقوق: “احترام العيد”.

تكررت القصة هذا العام. وُضِعَ امتحان في السادس من يناير، عشية العيد، واضطرت مريم، مرةً أخرى، إلى التنقل بين المكاتب، من مدير الشؤون إلى وكيل الكلية، فإلى رئيس القسم؛ تطلب، تشرح، تذكّر، وتُطالِب.
الاستجابة لا تأتي إلا بعد إثارة ضجة، وكأنها تطلب امتيازًا لا حقًّا.

هذا بالنسبة إلى عيد الميلاد، الذي تعترف به الدولة المصرية كإجازة رسمية، أما بالنسبة إلى عيد القيامة، فالأزمة مضاعفة، إذ إن عدم الاعتراف به كإجازة رسمية، والسماح لخطاب ديني متشدد يرفض المعايدة على المسيحيين في عيد القيامة تحديدًا، لا يمرّ دون كلفة.

كلفةٌ نفسية، وجسدية، واجتماعية، يدفعها طلابٌ وطالباتٌ مسيحيون ومسيحياتٌ كل عام، ويواجهون بها عنفًا صامتًا يتجلى في وضع الدكاترة امتحانات لاعتبارهم اليوم عاديًا، أو على أقل تقدير، وجود محاضرات هامة قبل الامتحانات، بخلاف حالة الاستهزاء والاستهانة التي تخبرنا مريم بأنها تنتشر كل موسم أعياد بين الزملاء.

مشكلة تبدأ بشكل هرمي من تجاهل رسمي لعيد القيامة، لتتردد أصداؤها في صور عدة، منها التلاسن وأجواء الشحن والنكاية بين الطلاب، من خلال ترديد كلمات باردة بين البعض من الأكثرية المسلمة تجاه زملائهم الأقل عددًا، ما يجسد ازدواجية صارخة حين تُؤجَّل امتحانات بسبب الأعياد الإسلامية بلا نقاش، بينما تتحول مطالبات المسيحيين إلى عبءٍ أو مشكلة.

تقول مريم: “كل مرة تحدث المشاكل والمضايقات نفسها، وينفتح باب النقاش حول أحقية إجازة المسيحيين، والأغلبية من الطلاب والطالبات المسلمين يرون أن الأمر مفتعل، ويقولون لنا: ‘هما ساعتين، تعالوا امتحنوا، ومش هنعطّل الدنيا عشانكم’، في حين أنهم يرفضون بشكل قاطع وجود امتحانات في يوم عيد الفطر أو الأضحى، بل حتى بعد كل عيد منهما بيومين، ويسبقه شهر كامل من الصمت الدراسي أثناء رمضان”.

وسط كل هذا، تواصل مريم، وغيرها، النضالَ الصغيرَ اليومي، لكنه نضالٌ يكشف حجم ما تبقّى من طريقٍ نحو مساواة حقيقية، تبدأ من الاعتراف، لا فقط بالدين، بل بالإنسان وحقه في إجازة أهم عيد بالنسبة إلى المسيحيين.

ما الإشكالية؟

فلنبدأ من البديهيات، والتي، على بساطتها، نضطرّ – بكل أسف – إلى تكرار ترديدها عامًا بعد عام، كأننا نطرحها لأول مرة.

المسيحيون، كما المسلمون، مواطنون كاملو الأهلية، يدفعون الضرائب، يدرسون، يعملون، ويتأثرون بالأزمات الاقتصادية نفسها. يشاركون في بناء هذا الوطن، ويؤدون ما عليهم من واجبات. ومن المفترض – وفقًا لمبادئ الدولة المدنية – أن يحصلوا على الحقوق نفسها. هذا ما ينبغي أن يكون، وهو ما يُفترض ألا يكون محلّ نقاش.

أن يُترَك حقّ ديني بهذا القدر من الأهمية للتقدير الشخصي، لا يعبّر فقط عن خلل إداري، بل عن مشكلة أعمق في فهم معنى المواطنة الحقيقية.

المواطنة ليست شعارًا نعلّقه على الجدران، بل ممارسة يومية تُقاس في التفاصيل الصغيرة، كأن يتمكّن الطالب/ة من الاحتفال بعيده/ا دون خوف أو مساومة، وكأن يشعر المسيحيون أنهم ليسوا لاجئين يستجدون أبسط حقوقهم في كل عام.

المواطنون هنا واللاجؤون هناك

على ذكر اللاجئين – شاهدتُ مقطع فيديو لـ”بلوجر” مهاجر مصري في أمريكا، يتلقى أسئلة المصريين واستفساراتهم عن الهجرة وحال البلاد والعباد. أرسل له متابعٌ سؤالًا حول احترام المؤسسات الأمريكية للأعياد والمناسبات الدينية الإسلامية للمهاجرين، وهل إذا قرر السفر سيتمكن من الاحتفال بالأعياد ويُسمح له بإجازات تتناسب مع معتقده الديني.

فجاءت إجابة البلوجر لسائله أن عليه، عند إمضاء عقد التعاقد، توضيح تفاصيل المعتقدات الدينية، من إجازات أعياد، ومواعيد استثنائية في شهر رمضان، وصلوات خمس يوميًا، وكلّها ستُقابَل بالترحاب، لأن إدارات المؤسسات الأمريكية ضمن مجتمعات تحترم المعتقدات والحريات الدينية بشكل عام.

للتو عقدتُ مقارنةً بين حالنا وحالهم، ثم تذكّرت أن حالهم “هم” مهاجرون، غرباء، ليسوا أهل بلد ولا مواطنين أصليين، يعيشون في كنف دولة علمانية تحترم الأديان وتقف على مسافة واحدة من جميعها، لا أحد مفضّل على آخر، أما نحن فأبعد من ذلك، أبعد من أن تكسب المقارنة لصالحنا ضد مهاجرين، فلا نزال، كل عام، نستجدي إجازة في العيد.

مريم ليست في كلية منعزلة، فما يحدث معها يتشابه مع “متري”، الرجل الأربعيني الذي يعمل في شركة صغيرة مختصة بتوزيع المستلزمات الطبية.

مقر شركة متري في عمارة باهتة على أطراف القاهرة، ويعمل بخلافه ثلاثة موظفين مسيحيين من أصل 120 موظفًا/ة.

كل عام، مع اقتراب عيد القيامة، تبدأ طقوس التوتر بين الموظفين الأربعة وباقي الموظفين والمدير، الذي يتعنّت كثيرًا في منحهم الإجازة، ويضاعف عليهم العمل عند عودتهم من هذا اليوم “الأحد”، ويعود السؤال المعتاد: “هل يمكننا التغيب يوم السبت، ليلة العيد؟ لأنها الأهم وتشمل الصلاة في الكنيسة، ونودّ الاحتفال مع أسرنا في محافظاتنا، لأن يومًا واحدًا غير كافٍ؟”.

رغم أن الطلب منطقي، خاصة وأن العيد موعده يوم الأحد، إلا أن المدير يتفنّن في جعل الأمر يبدو وكأنه تفضّل منه، لا حقّ.

“بصّوا يا جماعة، أنا والله قلبي أبيض… بس الشغل شغل”؛ يقولها وهو ينفث دخان سيجارته، واضعًا يده على قلبه، وكأنه يمنحهم منحة سماوية لا يوم راحة.

اعتاد الموظفون الأربعة هذا السيناريو، ومع ذلك، كانوا في كل عام يحاولون كتم الضيق واللعب على وتر مشاعره.

هكذا، كانت الإجازة لا تأتي بالقانون، بل بالمعجزة السنوية… على يد متري وزملائه.

ما يضير الدولة في مواطنة حقيقية؟

ما يحدث على أرض الواقع مختلف تمامًا عن الخطاب الرسمي للدولة. ففي كل عام، يتحوّل طقس ديني مقدّس، مثل عيد القيامة المجيد، إلى مساحة تفاوض فردية، يكون فيها الطالب أو الموظف أو المحامي رهينة تقدير شخصي من دكتور في الجامعة أو مدير/ة في العمل. هل سيُمنح يوم العيد؟ هل سيتغاضى عن الغياب؟ هل سيتفهّم أن العيد ليس رفاهية بل حق؟ كلها أسئلة لا ينبغي أن تُطرح في دولة تقول إنها تحترم المواطنة وتساوي بين جميع أبنائها.

معنى أن يكون عيد القيامة، وهو أحد أهم الأعياد المسيحية، لا يُعترف به رسميًا كإجازة في مصر، يُبقي المصير معلقًا على قرارات فردية وتفاهمات هشّة، وهذا ما يدفع طالبات مثل مريم، وموظفًا مثل متري، إلى خوض معركة سنوية للدفاع عن حقّهم في الاحتفال بالعيد. يطرقون أبواب الإدارات، يشرحون، ويُذكّرون فقط لتجنّب امتحان في يوم العيد أو تكليفٍ بعملٍ إضافي.

البعض أسوأ حالًا من مريم ومتري، فهناك من يعمل بالفعل خوفًا من خصم أو مضايقات من مديريه، أو تجنّبًا لنظرات تعسف ومعاملات مسيئة.

ولعل الحكومة المصرية تنتبه إلى حالة الشحن والغضب على صفحة رئيس الوزراء عندما أصدر قرارات باعتبار أعياد “شم النسيم” و”تحرير سيناء” و”عيد العمال” إجازات رسمية مدفوعة الأجر، للعاملين في الوزارات، والمصالح الحكومية، والهيئات العامة، ووحدات الإدارة المحلية، وشركات القطاع العام، وشركات قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص، متجاهلًا عيد القيامة الذي يسبق شم النسيم، علّها تنتبه من حالة الشحن والغضب الجماعي عبر الصفحة الرسمية.

بالطبع، أتفهّم، كما نتفهّم جميعًا، أن البيانات هي للإعلان عن الإجازات الرسمية لمؤسسات الدولة، وليست الإجازات الاستثنائية للمسيحيين التي لا تُغلق فيها المؤسسات الحكومية وتقتصر على غياب المسيحيين فقط.

أتفهّم ذلك، لكنّ الذي لا تتفهّمه الدولة هو ما يترتّب على عدم اعتبار عيد القيامة إجازة رسمية – من معاملات ومضايقات – فمرّة أخرى، ما يُترك للتقدير الشخصي لا يُحسم، بل يُبقي بابًا مواربًا للشحن، والغضب، والسلطوية، والتقدير النسبي الذي يختلف من فرد لآخر، فبينما تلتزم به جامعة، ترفضه أخرى، كونه يومًا غير رسمي ولا إلزامي، وبينما يلتزم به مدير، يجده آخر دافعًا لقهر موظفيه المختلفين عنه دينيًا وعقائديًا.

الإشكالية أن الشكوى تزداد كل عام. ملايين الأقباط في مصر يتكدّرون سنويًا بسبب تلك الممارسات التي عانوا منها مرة واحدة على الأقل في حياتهم.

ويبقى السؤال مفتوحًا، مرة أخرى وأخيرة: ما الذي يضير الدولة في جعل عيد القيامة إجازة رسمية؟

أو كما تساءل بيان الحزب الليبرالي المصري: “لماذا هذا التردد في منح إجازة رسمية يوم عيد القيامة المجيد؟

الإجازة في هذا اليوم ليست اعترافًا بعقيدة دينية، بل هي احترام لمشاعر ملايين المصريين المسيحيين، وتأكيد على مبدأ الشراكة الوطنية.
فهذه ليست مسألة دينية، بل هي قضية مواطنة ومساواة”.

إن تجاهل عيد القيامة كمناسبة تستحق الاحترام الرسمي لا يُعبّر فقط عن خلل إداري، بل عن رؤية قاصرة للمواطنة، مواطنة لا تُقاس فقط بالهويات الورقية، بل بالمعاملة المتساوية، وبالقدرة على ممارسة الشعائر الدينية دون عوائق، أو شعور بالذنب، أو الاضطرار للتبرير.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة