بنرجسية الشاعر وفخره بذاته المبدعة، قال نزار قباني ذات مرة: “لو عثرت على ورقة ملقاة على الأرض، عليها بضعة سطور غير موقّعة من أشعاري، ستدرك من فورك أني صاحبها”.
يحقُّ بالطبع للشاعر الكبير، ذي الأسلوب المخملي أن يقول ذلك، وظني أنه كان صادقًا، كل الصدق في تقديره منتجه الإبداعي الثري.
المبدع الحقيقي لا بد أن يكون ذا شخصية متفردة، له نكهته الخاصة “النفَّاذة” التي لا تخطؤها ذائقة المتذوقين، أو قُل الذوَّاقة، بغض النظر عن مجال إبداعه.
كذلك كان الراحل أسامة أنور عكاشة، فما إن تقع على جملة من حوار درامي له، حتى تدرك من فورك أنه مبدعها.
صراعات الأهلي والزمالك، ستبقى كما ثنائية الباشا والعمدة في سيناريوهات عكاشة، وإن مددت الخط على استقامته، فقد تري فيها تجسيدًا لفشل وتهافت حكومات وأنظمة
من ملامح عبقرية عكاشة، أن السيناريوهات التي تفتقت عنها قريحته، تتسم بالتشابك والتعقيد، وتتعدد فيها الخطوط الدرامية الفرعية إلى جوار خطها الأساسي؛ أي العمود الفقري للحكاية.

مثلما فسيفساء اللوحات الجدارية، قطعة إلى جوار قطعة، تتكوَّن سيناريوهات “أديب التلفزيون”، كما يُطلق عليه، فإذا باللوحة الإبداعية في المجمل، غاية الإتقان والتناغم والدقة.
في “زيزينيا” مثلًا تتضافر قصة الدرويش “عبدالفتاح ضرغام” الذي هام حبًا بالحسناء ساكنة السرايا “عايدة”، فإذا ما أطلَّت من شرفتها سقط مغشيًا عليه، إلى جوار تراجيديا الحب والفراق بين “رفاعي” الجنوبي المهاجر إلى عروس البحر، و”بياضة” ذات “الملاءة اللف”، ابنة حي المنشية العريق، التي تزوجت “خميس عامر” رغم أنفها، ولم تنس حبيبها الأول، فتفرَّغت بكل حقد الأنوثة الجريحة لتدمير بعلها معنويًا، وهناك تجاذبات المعلم “عامر” التاجر الثري، ومناوشاته الحادة، مع طليقته الإيطالية “فرانشي”، واستخفافه اللاذع بتعاليها العنصري الفارغ، إزاء “أولاد البلد” من الشعب المصري.
بشر وبوتشي.. أزمة الهوية في الأربعينيات
ومع هذه الفروع ينتصب السيناريو الكلي أو بالأحرى العُمومي، مثل شجرة راسخة.
كل التفاصيل تأتي في سياق مناقشة منهجية وإبداعية عميقة، لخصوصية الهوية السكندرية، في أربعينيات القرن الماضي، عبر التركيبة الشخصية الاستثنائية لبطل المسلسل الأول؛ “بشر” أو “بوتشي”؛ ثمرة الزيجة القصيرة للمعلم “عامر” و”فرانشي”.
كانت الإسكندرية آنذاك -وهي بالمناسبة مسقط رأس كاتب السطور وحبيبته الأولى- ملتقى العالم بأسره، تختلط الثقافات جميعها في نفثات اليود على سواحلها، ويعيش الناس من مختلف الأعراق ويتعايشون، عيشًا وتعايشًا فيه درجة من الانفتاح الحضاري التي لا تفضي بالمجتمع إلى الصراع بين مكوناته.

كل خط درامي فرعي في “زيزينيا”، من الممكن أن يغدو عملًا متكاملًا وثريًا ومثيرًا للدهشة في آن، والدهشة مُبتغى الإبداع الفني، وهذه سمة غالبة على أعمال عكاشة، الذي لا ينفي تأثره بأديبنا الكبير نجيب محفوظ.
في المفارقة ما يستدر الأسى إذ نرى من نكد الدنيا، نضوب الدراما المصرية، إلا من قصص البلطجة، على غرار: صفاقة “العتاولة”، وجعير “سيد الناس”، وصولًا إلى “نمبر وان” في الوقاحة “أسطورة الشبعة بعد جوعة” ومثل المرحلة الأعلى.
أزمة الزمالك أن الذين يتولون شؤونه، لا يعرفون ألف باء الإدارة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ذلك على الرغم من النادي العريق، الذي يمثل كنزًا مكنونًا في خزائن قوة مصر الناعمة، لا تنقصه الثروات البشرية والمادية.
على أي حال، ليست المقارنة واردة من الأصل بين حالتين، ولعلها ليست مبالغة أرى أن الموضوعية تُحتِّم تسجيلها، وهي أن التاريخ سيذكر للمخلوع مبارك، أنه أبدى تسامحًا لا بأس به، إزاء حرية التعبير.
بغض النظر عن التأرجح في تأويل دوافع ذلك، ما بين تعمد نظامه فسح المجال للناس للتنفيس عن غضب صدورهم، وبين تسامحه النابع من إيمانه بالحرية، فالمحصلة أن عهده شهد ثراءً فنيًا دراميًا لا يجوز نفيه.
الحرية للإبداع كالأكسجين، والذين يتحدثون عن إصلاح شأن الدراما حاليًا، عبر لجنة حكومية أو أوامر سلطوية، لن يصلوا إلى شيء، ما لم يتحركوا انطلاقًا من هذه الحقيقة التي لا تحتمل قولان.
درة تاج أعمال عكاشة
وبعيدًا عن “زيزينيا” المسلسل الذي “يتربَّع” في قلبي، بدءًا من أغنية المقدمة لأحمد فؤاد نجم: “إسكندرية تاني”، و”زيزينيا” الحي المخملي الهادئ الذي يروق لي كثيرًا، فإن درة تاج أعمال عكاشة، هو لا شك مسلسله الملحمي “ليالي الحلمية” ذو الستة أجزاء.
العمل التأريخي، الذي لم يفقد رونقه رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على بث آخر أجزائه، توخى فيه عكاشة كدأبه أن يكون مليئًا بالقصص الموازية، فهذا “علي البدري” و”زُهرة”، وهنالك “زينهم السماحي” و”سماسم”، إلى آخر تلك الثنائيات التي يُتقن عكاشة نسج خيوطها؛ إتقان النسَّاج الدؤوب المثابر.

التقلبات الأخلاقية للأبطال من المثالية إبَّان الحقبة الناصرية، إلى الانتهازية مع انفتاح السادات، وما تزامن معه من ثراء الرعاع حرامًا على غرار “نُصة والخُمس” -لاحظ دلالة الاسمين- والزلازل التي ضربت منظومة القيم الأخلاقية، والانكسار الجمعي بعد هزيمة يونيو، والانتشاء بعد حرب العبور، وضياع ثمار النصر على مائدة مفاوضات كامب ديفيد، وما إلى ذلك من حراك ديناميكي كان يعتري الواقع المصري.. كل هذه الأحداث المفصلية الفوّارة، عمد عكاشة إلى تضفيرها في حكاية محورها الإنسان.
وما دام الحديث عن الإنسان، فلا ملائكة ولا شياطين، ولا شخصيات مثالية في المطلق، أو شريرة انتهازية في المطلق.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن عكاشة ذاته، لم يكن رغم روعة “لياليه” مثاليًا في كتابتها، ففي الجزء الأخير على وجه التحديد، أفرط في الخطابة الإنشائية عن حرص الرئيس مبارك على محاربة الفساد، وبناء دولة القانون، وما نحو ذلك من أساطير خرافية، يبدو أن المؤلف كان مرغمًا عليها، تحت ضغط وزير الإعلام حينها صفوت الشريف.
أيًا ما يكن.. واستطرادًا فإن من عناصر “ليالي الحلمية” الجمالية، تلك الحكاية الموازية التي تجسدها العلاقة الشائكة و”المُكهربة”، بين بطلي المسلسل؛ الباشا “سليم البدري” والعمدة “سليمان غانم”.
منذ الحلقة الأولى تتأجَّج نيران الضغينة، بين الباشا الذكي أو اللئيم الذي يحفر الحفر ولا يقع فيها، الهادئ المتزن الذي لا يرفع صوته، وبين العمدة الثرثار الصاخب “العشوائي” أو بتعبير اللهجة المحكية “الجهجهوني”، الذي يملأ الدنيا ضجيجًا، ويجعجع بلا طحين.
المبدع الحقيقي لا بد أن يكون ذا شخصية متفردة، له نكهته الخاصة “النفَّاذة” التي لا تخطؤها ذائقة المتذوقين، أو قُل الذوَّاقة، بغض النظر عن مجال إبداعه
يتنافس الباشا والعمدة على صفقة ما، فيغتنمها في كل مرة، الأكثر دهاء وحنكة، لينتهي الصراع بالعمدة صارخًا: “جااااااي”!
صحيح أن استثناءات قد حدثت، ومنها أن العمدة سدَّد للباشا صفعة مؤلمة، حين تزوج طليقته وحبيبته “نازك السلحدار”، لكن ذلك كان الاستثناء الذي يثبت القاعدة، ولولا أن سليلة “الباشوات” كانت تروم الانتقام من طليقها، وإيلامه بأقصى درجة، لما وافقت على الزواج من ذاك “المتخلف الهمجي”، كما كانت تعايره، ومن ثم لما احتسى أبدًا نخب الانتصار الذي لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما وقع الطلاق.
هي طبائع الأمور، وقوانين الحياة؛ الأذكى يكسب، والأهدأ يدير معاركه ويخوض التحديات بروية، فيحوز السبق والصدارة، والأمر هنا لا يرتهن بمعايير أخلاقية معنوية، لكنها أسس التنافس والصراع، وهما من الركائز التي تستند عليها علاقات المجتمع في أي زمان ومكان.
من ليالي الحلمية إلى الناديين الأحمر والأبيض
وهذه بناءً على ذلك، هي طبائع العلاقة بين قطبي الكرة المصرية؛ الأهلي والزمالك.
ينتزع الأهلي بطولة ما، فإذا بمجلس إدارة الزمالك الذي يتردى فريقه إلى قعر الجدول، بفارق عشرين نقطة، يهاجم التحكيم واتحاد الكرة ويلوم “الكائنات الفضائية” والسحر الأسود الذي يلجأ إليه “الشياطين الحمر”.. فيما تشيح إدارة الأهلي ببصرها عن هذه “المعركة العبثية”، لتركز على بطولة مقبلة، فينتهي المشهد بإدارة الزمالك تصرخ: “جاااااي”!

يتعاقد الأهلي مع نجم من أمهر حُواة الزمالك، مثل الصفقة الأشهر خلال القرن الماضي؛ رضا عبد العال، فإذا بمجلس إدارة الزمالك يلبس عباءة المظلومية، ويملأ الدنيا ضجيجًا بأن إدارة الفريق الأحمر، تدبر المكائد لهدم القلعة البيضاء؛ أعظم قلاع الرياضة في القارات السبع “مع إضافة القارة القطبية الجنوبية غير المأهولة”، ويُستعاد السيناريو بحذافيره في صفقة إمام عاشور، ثم بن شرقي الذي لم يأتِ بالمناسبة من الزمالك مباشرةً، وربما يستعاد أيضًا في القريب في صفقة زيزو، لينتهي المشهد كالعادة بمجلس الإدارة يصرخ: “جاااااي”!
أزمة الزمالك أن الذين يتولون شؤونه، لا يعرفون ألف باء الإدارة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ذلك على الرغم من النادي العريق، الذي يمثل كنزًا مكنونًا في خزائن قوة مصر الناعمة، لا تنقصه الثروات البشرية والمادية.
صراعات الأهلي والزمالك، ستبقى كما ثنائية الباشا والعمدة في سيناريوهات عكاشة، وإن مددت الخط على استقامته، فقد تري فيها تجسيدًا لفشل وتهافت حكومات وأنظمة، لا تُحسن إدارة موارد السياسة والاقتصاد، فتتهم الشعب بأنه سبب “العوز”، أو بأنه خصوبته مثلًا، تعرقل مسيرة التنمية، وفي هذه الحالة فإن الشعب المسكين هو الذي يصرخ: “جاااااي”!
