رمضان و”كونسيبت” مراعاة المشاعر.. لماذا نتحمل مسؤولية الصوم؟

كنتُ عائدةً من المكتبة العامة في السبت الثاني من رمضان، وعند محطة مترو الأوبرا، حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، سرتُ نحو الرصيف. وعند مفترق الاتجاهات بين خطي المنيب وشبرا، توقفتُ للحظات لأغلق حقيبتي وأرتب كتابين داخلها. في اللحظة ذاتها، كانت هناك فتاتان لا يبدو أن أعمارهما تتجاوز الثامنة عشرة، تتبادلان الحديث قبل أن تفترق كلٌّ منهما إلى وجهتها.

فجأة، اقترب منهما رجل خمسيني كأنه ظهر من العدم، لكنه سرعان ما خاطبهما قائلًا: “وقفتكم وكلامكم ده قدام الرايح والجاي يبطل الصيام، لازم تحترموا الشهر الكريم وتاخدوا بالكم من التفاصيل الصغيرة دي!”.

كان من الواضح أن الفتاتين لم تستوعبا الموقف، فقد أصابهما الذهول والصمت، بينما واصل الرجل طريقه بنفس المفاجأة التي جاء بها. كنتُ على وشك المغادرة، لكن فضولي جعلني أتوقف للحظات. رغبتُ في التدخل، ربما حتى بجملة عابرة مثل: “ربما يكون مجنونًا”، لكنني تراجعت؛ إذ جعلتني خلفيتي المسيحية أدرك أن أي محاولة للاعتراض قد تجرني إلى جدالات محفوظة مثل “لكم دينكم” أو “إنه فقط ينصح فتيات في عمر بناته” ولا يقصد شيئًا آخر!

عبثية الموقف دفعتني للتساؤل مرارًا: “هل جنّ الناس؟” أو ربما كنتُ أحاول إقناع نفسي بأنه لم يحدث فعلًا. لم أتمكن من استيعاب دوافع الرجل؛ هل كان متحرشًا مستترًا بثوب الوعظ السخيف، أم مجرد داعية متنقل يرى في نفسه وصيًا على المارة؟ لكن سرعان ما استدعى هذا المشهد ذكريات أكثر عنفًا، حين كنتُ أسير مع صديقتي بعد الامتحان منذ سنوات، وهي تشرب الماء في الشارع، ليخترق أذني صوت أحد المارة وهو يقترب فجأة وينفجر غاضبًا: “بتشربي في الشارع يا و***؟! إحنا في نهار رمضان!”.

كونسيبت راعوا مشاعرنا 

تتجدد الدعوات لمراعاة مشاعر الصائمين مع حلول شهر رمضان من كل عام، والتي تتخذ أشكالًا مختلفة، من منع الأكل والشرب في الأماكن العامة إلى مطالبة غير الصائمين بالامتناع عن أي ممارسات قد “تجرح” إحساس الصائم بالجوع أو العطش. وبينما يُروج لهذه الفكرة على أنها تعبير عن الاحترام، فإنها في الواقع تعكس إشكالية أعمق تتعلق بالحريات الفردية وازدواجية المعايير في المجتمع، حيث يواجه المسيحيون، وكذلك المسلمون غير الصائمين، ضغوطًا متزايدة لعدم الأكل أو الشرب علنًا خلال نهار رمضان.

تبلورت هذه الفكرة وظهرت كحق مكتسب حتى في العالم الافتراضي. ففي أثناء تصفحي لمقاطع الفيديو على فيسبوك، صادفت مقطعًا يظهر فيه أحد الـ(بلوجرز) وهو يوجه الكاميرا نحو شاب يجلس خلف سيارة مركونة، يتناول طعامه متخفيًا، فاقترب منه البلوجر ليلقنه درسًا في الأخلاق لمجاهرته بالإفطار في نهار رمضان، قبل أن يكتشف لاحقًا أن الشاب مسيحي. ورغم ذلك، لم يتوقف البلوجر عن محاولاته لتمرير فكرة أن مراعاة مشاعر الصائمين واجب، متجاهلًا تمامًا أي اعتبارات تتعلق بحقوق الآخرين أو حرياتهم الشخصية.

في المقابل، يتزامن شهر رمضان مع الصوم الكبير لدينا كمسيحيين هذا العام، وهو صوم يمتد لحوالي 55 يومًا ويفرض الامتناع عن تناول المنتجات الحيوانية، وأحيانًا الصوم التام من منتصف الليل وحتى غروب الشمس.

ومع ذلك، لم أطلب مرة، مثلًا، من أصدقائي الذين نجتمع معًا أن يتوقفوا عن تناول ساندويتشات الشاورما بجواري بينما أكل البطاطس المقلية عوضًا عنها، ولم أصرخ في وجه المجتمع بمراعاة مشاعري، ولم أشهر في وجه الآخرين قاعدة تفرض عليهم الالتزام بذات العادات الغذائية أبدًا، لأنني أعي أن الصوم مجرد فعل روحاني أفعله أو لا أفعله بإرادتي الخالصة، ولا ذنب للناس فيه، ولست مجبرة أو مضطرة حتى أجبر الجميع على أن يتحولوا إلى نسخ مصغرة مني. فهل مجنون المترو هذا مضطر؟ والشاب الذي سب صديقتي بقوة، مدفوعًا على غير إرادته للصوم، فيعاقب الجميع معه!

إرث ثقيل

بالعودة إلى ممارسات كثيرة في السياق نفسه لفكرة فرض مراعاة المشاعر، وجدت أن هناك إرثًا ثقيلًا يتداوله الناس ببساطة وسلاسة شديدة، يتمثل في الأغاني العنيفة والفتاوى المتشددة التي يستهلكها الناس حول الإفطار في رمضان، حيث يعد جزءًا من مناخ تراثي يغذي الرقابة الاجتماعية والتعدي على الخصوصية. فعلى مدار سنوات، ظهرت أغانٍ تحمل رسائل تهديد واضحة، مصوّرة الأمر وكأنه تحدٍّ يستدعي عقابًا شديد الدموية، بينما تغلغلت فتاوى تكرّس الوصاية الدينية، معتبرة مراقبة الآخرين في صومهم “أمرًا بالمعروف” بدلًا من كونه تدخلًا سافرًا في حرياتهم الشخصية.

هذه التلميحات تشرعن، في الواقع، ثقافة المحاسبة الجماعية وتغذي النزعات العدائية، حيث يُدفع الأفراد إلى التدخل في حياة غيرهم، وكأنهم مكلفون بمعاقبتهم على قراراتهم الشخصية.

نرى هذا الإرث في بعض الأغاني الفلكلورية التي تتناقلها الأجيال، بل وتستخدمها حاليًا بكثرة على منصة تيك توك مثل أغنية (يافاطر رمضان يامخاصم دينك.. سكينة الجزار هتقطع مصارينك) أو أغنية (يا فاطر رمضان ياخاسر دينك.. ملعون في كل زمان والناس كارهينك) يعكس هذا، كيف ترسخت في الوعي الشعبي أفكار الانتقام والتجريم تجاه المفطرين في رمضان بشكل عام، لا يتوقف الأمر عند ترديد بعض الأغاني، إنما يمتد إلى صناعة الدراما والسينما والإعلانات بشكل مكثف، ففي إعلان لإحدى شركات المحمول المصرية عام 2017 ظهر مشهد لأم تدعم أبناءها الذين بدأوا صومهم مؤخرًا لرمضان في الوقت نفسه تنظر مع أطفالها نظرات تحقير لطفل ممسكًا بساندوتش يتناوله جوارهم.

كما أن الفتاوى المتشددة بخصوص المفطرين في رمضان تحاصر الجميع من كل زاوية، فلو سألنا جوجل عن (حكم السماح لغير المسلمين بالأكل والشرب في نهار رمضان) سنجد مئات من الفتاوى ومقاطع الفيديو التي تنص على أن “لا يجوز لولاة الأمر في بلاد المسلمين أن يسمحوا لأحد بإظهار الأكل أو الشرب في نهار رمضان كائنًا من كان ولو كان غير مسلم، لما في ذلك من هتك حرمة الشهر، وقد نص على هذا أهل العلم”.

أكدت على نفس هذا المعنى، دار الإفتاء المصرية في عام 2016، حين أصدرت فتوى تنص على أن “المجاهرة بالفطر في نهار رمضان لا تدخل ضمن الحرية الشخصية، بل هي نوع من الفوضى والاعتداء على قدسية الإسلام، لأن المجاهرة بالفطر في نهار رمضان مجاهرة بالمعصية، وهي حرام فضلًا عن أنها خروج عن الذوق العام في بلاد المسلمين، وانتهاك صريح لحرمة المجتمع وحقه في احترام مقدساته”.

وأثارت الفتوى وقتها جدلًا واسعًا، حيث اعتبرها البعض تغذية لنزعة الترهيب، ورأوا أن المجاهر بالإفطار مستحق للعقاب، إما اجتماعيًا أو حتى قانونيًا في بعض السياقات، وهو ما يخلق بيئة يُمنح فيها الأفراد إحساسًا زائفًا بالحق في التدخل في حياة الآخرين والتعدي على خصوصياتهم تحت غطاء “الدفاع عن الدين”. 

محاكمات أونلاين

يتبلور الإرث الممتد من هذه المحاكمات العلانية على وسائل التواصل الاجتماعي حيث تتحول إلى ساحات للمحاكمة الافتراضية ولا يقتصر الأمر على المسلمين الذين يختارون عدم الصيام، بل يمتد ليشمل هجومًا ممنهجًا على المسيحيين عند حديثهم عن أصوامهم الخاصة، فتنهال التعليقات العنصرية، وكأن مجرد التعبير عن ممارساتنا الدينية يمثل تهديدًا، وخروجًا عن الشكل الاجتماعي والأخلاقي في أذهانهم، فترفع رايات الجهاد الإلكتروني حتى على الصفحات المتخصصة مثل صفحات الكنائس التي تمتلئ بتعليقات “الحمد لله على نعمة الإسلام”.

منذ أيام قليلة نشرت الفنانة إليسا منشورًا على صفحتها الشخصية فيسبوك تقول فيه “صوم مبارك” مرفق بصورة للصليب، بضغطة زر على التعليقات وجدت كم مفزع من كلمات الاتهام بالكفر والضلال هي وكل المسيحيين.

وبين مقاطع الفيديو والمنشورات الفيسبوكية التي اضطر فيها المسيحيون إلى الدفاع عن صومهم وأنه ليس صومًا يمتنع فيه الفرد عن الطعام الحيواني فقط، إنما يشبه إلى حد كبير صوم رمضان في عدد ساعات الصوم الانقطاعي، ضاعت تمامًا فكرة ضرورة التصدي لخطاب الكراهية كخطاب في حد ذاته دون تبرير، الأمر الذي من شأنه يعني إهدار حقوق غير المتدينين من الجانبين، حتى مع تبني دار الإفتاء المصرية في الأونة الأخيرة مواقف أقل تشددًا تجاه موضوع الجهر بالإفطار، فإن المستخدمين لم يتوانوا لحظة واحدة عن توجيه السباب للدار بسبب منشور كتبوا فيه “ينبغي عدم التسرع في الحكم على المُفطرين فربما لديهم أعذار ورُخَص”. ورغم كون المنشور لا ينم عن انفتاح كبير، إلا إنه لم يرق للوبي الجهاد الإلكتروني الذين تعجبهم فتاوى إهدار الدم فورًا.

التدين الشعبي وفرض الهيمنة

تضع جميع الأديان قيودًا وقواعد سلوكية تؤثر على قرارات أتباعها، وتشمل هذه القواعد ضوابط تتعلق بالملابس، والطعام، والشراب، وأسلوب قضاء الوقت، بالإضافة إلى تحريم بعض الأفعال. ولا تطال هذه القيود سلوك المتدينين فقط، إنما يمتد أثرها من خلال العنف المباشر وغير المباشر إلى غير المتدينين أيضًا.

يناقش روجر فينكي في دراسته المعنونة بـ”أصول وعواقب القيود الدينية” مدى تأثير هذه القيود الدينية على المجتمع ككل، وكيف يمكن أن ترتبط القيود الدينية ارتباطًا وثيقًا بالاضطهاد، حيث يرى أنه بقدر ما تُحرم الحريات الدينية، سيزداد الاضطهاد الديني والتعدي على الحقوق الشخصية للأفراد.

ولا تظهر هذه الهيمنة أو هذا التعدي إلا إذا كان داخل محيط مُطبَّع معه بشكل أو بآخر، إما مستسلمًا خوفًا أو مهيَّأً عبر مراحل مستمرة لقبول هذا الشكل من محاولات الضبط الأخلاقي واعتياده. ففي مصر، مثلًا، لعب الإسلاميون دور أدوات الضبط الاجتماعي في فترات صعودهم المجتمعي، محددين الصواب والخطأ، متفاوضين مع المجتمع عبر الخطاب والعنف الرمزي والمادي لتحديد حدود المقبول.

يستكمل هذه الفكرة بلال علاء في مقالته، فيقول إنه عندما تستند أدوات الضبط إلى هيمنة حقيقية، فإنها نادرًا ما تحتاج للعنف، لأن العنف مؤشر على مقاومة قوية. لذا، استخدم الإسلاميون في السبعينيات العنف المادي ضد معارضيهم في الجامعات، لكنه تراجع تدريجيًا حتى كاد يختفي في العقد الأول من الألفية الثالثة، بالتوازي مع تراجع العنف، زاد التركيز على الخطاب الإقناعي، حيث انتشر التأثير الإسلامي عبر الأشرطة، الندوات، المحلات، الجمعيات، الأنشطة، والمدارس، ما جعل هيمنتهم الثقافية حاضرة بقوة دون الحاجة إلى الإكراه المادي.

خلق هذا النوع من تدجين الأفكار، استحقاقية شديدة العداء في الشارع وفي الواقع الافتراضي، فأصبحت زجاجة مياه بيد أحد المارة قادرة على إفقاد إنسان ناضج انسانيته، والتعامل وكأنه لا يرى الأخر من منطق الاستقواء وفرض أخلاقه وذاته في الفضاء العام، لا يتوقف الأمر عند النظرات الغاضبة أو التبجح في المطالبة بتفسيرات، إنما يتعدى ذلك لاستخدام العنف وتحديدًا ضد النساء في الشارع، اللاتي يتعرضن للضرب والسب بدعوى أنهن مستفزات للرجال في نهار رمضان،وكأن هؤلاء الصائمين تحولوا فجأة إلى أطفال يحتاجون إلى تدليل خاص ليتمكنوا من إتمام صيامهم، أو كأن من الطبيعي أن يمنحوا أنفسهم الحق في لوم الآخرين وانتقادهم والاعتداء على حرياتهم بوقاحة مطلقة. والأدهى أن هذا النوع من الصائمين لا يرون في تحرشهم أو تعنيفهم للآخرين أي إشكال، وكأن سلوكهم مبرر بحكم صيامهم. فكيف يُطلب من الجميع تحمل هذه التصرفات، بينما يرفضون تمامًا الاعتراف بأبسط مبادئ الحرية الشخصية وحرية المعتقد في المجال العام؟

يالا نهرب!

شعرت هذا العام بالهدوء النسبي، لأنني أقضي نهار رمضان في عملي، الذي يتبنى فيه مديري قاعدة “ليس من حق أحدًا أن يسأل غيره عن صومه من عدمه” ويتبنى فيه زملائي نفس وجهة النظر، فأتحرك صباحًا لتحضير كوبي المفضل من الشاي وأتناول فطوري معه دون انزعاج أبدًا، وكأنها نسمة صيف أخيرًا، فمثلي مثل فتيات كثيرات، تعرضت لمواقف عدة على الأغلب كنت التزم الصمت تمامًا، لكن في بعض المواقف اللاحقة كنت أجبر جانبي السخيف على الظهور، حتى انتزع حقي البديهي في حريتي الشخصية، الأن وقد عدت لصمتي من جديد أتابع فقاعة المنصات الرقمية وفي ذهني كلمة واحدة وأنا أقرأ التعليقات المستمرة (يلا نهرب من العالم دول).

حيث يصبح الهروب حلًا مغريًا في مواجهة هذا القمع المجتمعي الذي يتغلغل في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، نهرب من أعين المتربصين داخل عربات المترو، ومن نظرات الاستنكار في الشوارع ، ومن سخط أصحاب الوصاية على منشورات لا تخصهم، ومن محاكم التفتيش الرقمية التي تحاصر أي رأي لا يتماهى مع “الهوية الجمعية المفروضة”، ومن الخطابات التي تشرعن التدخل في الخصوصيات باعتباره “واجبًا دينيًا”، نهرب لأن المساحة تضيق، ولأن التنفس بصوت مسموع صار جرمًا، لكن إلى أي فضاء نتلمس فيه الحرية فنجدها دون “وجع قلب” ؟

 

 

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة