على عربة خضراء.. حُلم فلسطيني يتمدد

“بي في غزة، ما قدر يجي معنا ع مصر”

في ساحات انتظار مستشفى القناطر الخيرية، وبين مرضاه، حيث يلهو الأطفال الذين لم يختاروا أن تكون هذه الجدران عالمهم، تجلس سلمى ذاتُ الأعوام الأربعة على سيارة صغيرة، تلهو وتلعب وسط المرضى وزوارهم. ترتدي فستانًا ورديًا يشبه خدودها الوردية، التي حين تضحك تُغلق عينيها الصغيرتين. تتمتم بكلمات لا تناسب عمرها، بعضها واضح ومفهوم، والبعض الآخر غامض، كأنها تحاول فكَّ ألغاز الحياة التي فُرضت عليها.

ما وراء الجدار

تعيش عشرات الأسر الفلسطينية التي جاءت هربًا من الموت بين جدران المستشفى. المكان ليس مجرد مستشفى بالمعنى التقليدي، بل أصبح بمثابة ملجأ مؤقتٍ لمن لا يملكون مكانًا آخر.

على الأسرّة البيضاء وفي الممرات الضيقة، يجلس الأطفال على البلاط البارد، بعضهم يمسك بقطع حلوى أو سيارات بلاستيكية جاءت من المتبرعين، بينما يلهو آخرون بأشياء بدائية: علب بلاستيكية فارغة، أو أغطية زجاجات المياه، أو كرات زجاجية صغيرة تُدعى “بلي”.

الوجوه هنا متعبة، العيون غائرة، والأجساد النحيلة تحكي عن شقاء أكبر من أعمارهم. سلمى، مثل غيرها، وجهها شاحب قليلًا، وشعرها يبدو أنه يتساقط، وحين تقترب منها، تجده متناثرًا على كتفيها الهزيلتين. أظافرها متسخة، تحمل آثار التراب والفيروسات التي تملأ أروقة المستشفى. تحاول والدتها العناية بها قدر المستطاع، لكنها تقول: “في هذا المكان، كل شيء صعب”.

معظم الأطفال هنا يرتدون ملابس مستعملة. بعضها تبرعات، والبعض الآخر ما تبقّى من غزة، وكأنهم يحملون بقايا وطنهم معهم. ترتدي سلمى فستانها الوردي الناعم، الذي ارتبط في ذاكرتها بوالدها، وربما يجعلها تشعر بأنها لا تزال كما كانت قبل الحرب.

أجساد جريحة.. وقلوب ثائرة

جميع من في المستشفى يعطفون على هؤلاء اللاجئين، يتبرعون لهم بالطعام والملابس، لكن أحيانًا تحمل النظرات شفقةً أكثر من الدعم. البعض يوزّع الوجبات، يبتسم للأطفال، ثم يغادر، بينما تظل الأسر هنا، بين جدران لا تمنحهم أكثر من مأوى مؤقت.

يحاول الأطباء والممرضون مساعدتهم قدر المستطاع، لكن المكان مزدحم، والموارد قليلة. بعض المرضى المصريين ينظرون إليهم بفضول، يتساءلون: “متى سيغادرون، لكن لا أحد لديه إجابة”.

جرحى فلسطينيون يتلقون العلاج بالمستشفيات المصرية (وزارة الصحة)
جرحى فلسطينيون يتلقون العلاج بالمستشفيات المصرية (وزارة الصحة)

لم تأتِ سلمى إلى مصر باختيارها. قبل عام واحد، كانت تجري بين أزقة غزة، تملأ بيتها بالضحكات، حتى جاء جيش الاحتلال وقصف منزلها. تقول سلمى:
“كان عندنا كنب، وقصفوه الصهاينة”.

ثم تضيف بصوت طفولي:
“أنا خايفة من اللي قصفونا وقتلونا، بس لما أكبر هقتلهم”.

عبارة تكسر القلب، تخرج من طفلة بالكاد تُكمل أربع سنوات. عيناها الصغيرتان تحملان خوفًا عميقًا، كأنها تختزن صور الدمار في روحها البريئة.

أحاديث الطفولة المفقودة

لم تعد سلمى طفلة تلهو فقط، بل شاهدة تحكي ما رأته، دون أن تدرك كم تُحدث كلماتها صدمة في نفوس من يسمعها.

حين يمر أحد الزوار ويوزع الحلوى، تقترب منه بخجل، تلتقط قطعة صغيرة، ثم تقول بصوت خافت:
“أنا كنت في غزة.. الصهاينة ضربوا بيتنا.. أخويا محمود مات.. بي في غزة، ما أجى معنا”.

كأنها تروي شيئًا عاديًا، لكنها في الحقيقة تلقي أمامه مأساة كاملة في جملة واحدة. بعض الزوار لا يعرفون كيف يردّون، يربتون على رأسها، يعطونها قطعة أخرى، بينما تظل واقفة، تكرر الجملة ذاتها كلما جاء شخص جديد.

بين الخوف والطفولة

في المستشفى، اعتادت سلمى اللعب مع الأطباء والممرضين. تضحك أحيانًا، لكنها حين تنعزل وتجلس مع والدتها، تعود لأسئلتها:

  • لماذا مات أخي؟
  • متى نعود إلى غزة؟
  • الصهاينة هيقصفونا تاني هنا؟

لا تجد إجابات، فقط تُحكم قبضتها على دُميتها، تهمس لها كما لو كانت تفهمها. يحاول الجميع أن يُطمئنها:

“مصر وطنك الثاني.. الحرب ستنتهي”.

لكن كيف تشرح لطفلة لم تعرف سوى القصف، أن هناك حياة طبيعية تنتظرها؟

لكنها ليست كباقي الأطفال

سلمى ليست كبقية الأطفال. في عينيها ظلُّ الحرب، وفي كلماتها نبرة أكبر من سنها. في كل مرة ترى طائرة، تسأل:
“هي هتضربنا؟”.

في كل مرة تسمع صوتًا عاليًا، ترتعش قليلًا. تلعب، لكن قلبها ما زال في غزة، في بيت لم يعد موجودًا، وحياة لم تكتمل.

ربما ستكبر سلمى يومًا، وربما تنسى جزءًا من هذه المأساة، لكن طفولتها سُرقت. حربٌ لم تكن حربها انتزعت منها البراءة، وتركتها ترى العالم بعيون فقدت الأمل.

إنها سلمى.. الطفلة التي كبرت قبل أوانها.

مصر استقبلت آلاف الجرحى الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر
مصر استقبلت آلاف الجرحى الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر

الخروج.. ضرورة

لم يكن الخروج من غزة خيارًا، بل ضرورة فرضتها الظروف.

بين أروقة المستشفيات وطوابير الانتظار الطويلة، بدأت أم سلمى سباقًا مع الزمن لإنقاذ حياة طفلها محمد، الذي لم يكن قد رأى النور بعد عندما تأكدت إصابته بمرض في القلب.

تتحدث الأم بصوت يملؤه التعب:
“كان لسه جنين، لكن الأطباء أكدوا أنه مريض قلب، فبدأت رحلة البحث عن طريقة للعلاج”.

في غزة، حيث تعاني المنظومة الصحية من الإنهاك، لم يكن هناك أمل في العلاج. لم يكن أمامها سوى تقديم طلب تحويل طبي إلى وزارة الصحة، على أمل الحصول على فرصة للعلاج في الخارج. انتظرت شهرًا كاملًا حتى صدرت الموافقة، لكن الوقت لم يكن في صالحها.

“محمد كان في العناية المركزة، وأنا كنت بانتظر.. مستحيل أتركه، لكن ما كان عندي حل غير أني أمشي بالإجراءات”.

بعد خروجه من المستشفى، وجدت العائلة نفسها في مركز إيواء، داخل خيمة لا تصلح لحياة طفل مريض. لم تكن هناك رفاهية الانتظار، فحاولت بكل الطرق استعجال الإجراءات، وتواصلت مع المسؤولين عن التحويلات الطبية.

“كنت أحاول بأي طريقة إني أسرّع العملية.. حكيت مع المسؤولين، شرحت لهم خطورة حالة محمد، وأخيرًا، قدرنا نحصل على موافقة مستعجلة.”

في إحدى الليالي، صدرت كشوفات المرضى المسموح لهم بالعبور، وكانت المفاجأة أن اسم محمد ظهر بينها.

“كانت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل لما شفت الاسم.. ما صدقت.. في الصباح، جمعنا أغراضنا بسرعة، وركضنا إلى المعبر.”

رحلة عبور.. زحامٌ وضياعٌ وإصرارٌ على الحياة

لم يكن عبور الحدود مجرد خطوة عادية، بل كان معركة أخرى وسط الزحام والإجراءات المعقدة.

تحكي أم محمد عن تجربتها في المعبر:

“كنت تايهة.. مش عارفة فين أتجه.. فقررت أروح بدون إسعاف”.

لكن العقبات توالت، إذ كانت بعض الأوراق ناقصة، ما اضطرها للعودة إلى رفح لإكمال الإجراءات قبل أن تحاول العبور مجددًا. تركت أطفالها مع أختها وتوجهت وحدها وسط زحام لا يوصف.

“الطريق اللي بيحتاج عشر دقائق، أخد معايا ساعة.. الناس كانت زي النمل، زحمة خانقة، كل خطوة بتاخد دقيقتين تلاتة بدل ثانية واحدة”.

ورغم الزحام، لم يكن هناك مجال للتأخير، فهذه قد تكون الفرصة الوحيدة للخروج. وصلت إلى المكان المخصص لإنهاء الإجراءات، وحاولت استعجال الأمر.

“كنت بصرخ عليهم.. مش مستعدة أرجع.. اليوم لازم أطلع.. ما عندي حساب غير أني أطلع اليوم!”.

بعد صراع طويل، تمكنت من إنهاء أوراقها، لكن الوقت كان متأخرًا، وكانت الصالة على وشك الإغلاق. ورغم المحاولات العديدة، لم يكن الدخول سهلًا.

وبعد جهد كبير، تمكنت أختها من العبور لمساعدتها مع الأطفال، لكن زوجها مُنع من الدخول.

وعند الجانب المصري، جاءت المفاجأة غير المتوقعة.

“رجّعوها!”.

فلسطينيون عند معبر رفح (وكالات - أرشيفية)
فلسطينيون عند معبر رفح (وكالات – أرشيفية)

رغم ختم جوازها والموافقة على دخولها، رفض الجانب المصري السماح لها بالعبور. لم يكن هناك تفسير واضح، لكنها أُجبرت على العودة إلى غزة، في مشهد آخر من العجز والخذلان.

رحلة علاج.. انتظار وأمل متجدد

لم تكن رحلة الخروج من غزة مجرد خطوة للنجاة، بل كانت سلسلة من العقبات والتحديات التي واجهتها أم محمد في طريقها للعلاج. بعد صعوبات العبور عبر معبر رفح، لم يكن الأمر سهلًا داخل المستشفيات المصرية، حيث مرت هي وطفلها بمراحل متعددة من العلاج والتقييم الطبي.

عندما وصلت أم محمد إلى الجانب المصري، واجهت موقفًا غير متوقع. رغم أن أختها دخلت لمساعدتها في رعاية الأطفال، إلا أن السلطات المصرية قررت إعادتها.

لم يكن هناك تفسير واضح لقرار الإعادة، ولكنها وجدت نفسها في موقف لا تستطيع تغييره، وكان عليها المضي قدمًا بمفردها مع طفلها المريض.

عامٌ من العلاج.. دوّامة المستشفيات

وصلت أم محمد إلى مصر في فبراير من العام الماضي، لتبدأ رحلة طويلة في البحث عن علاج لطفلها. أقامت شهرًا في مستشفى العريش، حيث كانت تصل وفود طبية لفحص المرضى وتحديد الحالات التي تحتاج إلى نقل للعلاج في الخارج. لكن حالتها لم تحظَ بتأكيد سريع.

“بعد شهر، فجأة، الساعة 12 بالليل، قالوا لنا أنتم بكرة طالعين على القاهرة”.

انتقلت إلى مستشفى القناطر، حيث أمضت شهرًا في قسم الرعاية، قبل أن يتنقل ابنها بين عدة أقسام طبية، من بينها القسم الداخلي والرعاية المركزة. كانت حالته الصحية غير مستقرة، ما استدعى إبقاءه على جهاز دعم القلب لفترة طويلة.

“كان عنده نبض عالي جدًا.. قعد أربع شهور على الجهاز”.

وفي النهاية، أبلغها الأطباء أنه لم يعد ممكنًا إبقاؤه على الجهاز لفترة أطول، وكان عليها استلامه.

استمرت رحلة أم محمد بين المستشفيات المصرية في محاولة لإنقاذ حياة طفلها، الذي يعاني من عيب خلقي في عضلة القلب، وهي حالة نادرة وخطيرة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تواجه فيها هذا التشخيص، فقد فقدت طفلًا سابقًا بنفس المرض دون أن تتمكن من علاجه.

“في الشهر السابع من الحمل، اتصدمت إنه نفس حالة أخوه”.

كانت تأمل أن تجد العلاج المناسب في مصر، لكن بعد فترة من البحث تلقت خبرًا صادمًا:

“قالوا لي ابنك محتاج زراعة قلب.. وقتها انصدمت، كيف حيكون؟”.

رغم أن مستشفى القناطر قدم الرعاية اللازمة لاستقرار حالة محمد، إلا أنه لا يعالج أمراض القلب المعقدة. ومع عدم تحويله إلى مستشفى متخصص طوال العام، قررت والدته البحث عن مستشفى يناسب حالته.

“حكوا لي إحنا بنصلح عيوب القلب، لكن زراعة القلب مش عندنا”.

توجهت إلى مستشفى الناس، لكنها وجدت أن زراعة القلب ليست ضمن خدماته. حاولت أيضًا التواصل مع مستشفى مجدي يعقوب، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى الآن.

“لو في حاجة، حيبعتوا لي، بس إحنا قاعدين بنستنى حد ياخد محمد يعالجه برا مصر”.

فلسطينيون أُصيبوا في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة خلال عبور «رفح» إلى مصر (أ.ب)
فلسطينيون أُصيبوا في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة خلال عبور «رفح» إلى مصر (أ.ب)

محاولات لا تتوقف لإنقاذ محمد

تسعة أشهر من البحث لم تثنِ أم محمد عن طرق كل الأبواب الممكنة أملاً في الحصول على علاج لابنها خارج مصر.

“أي حد أحسه ممكن يفيدني بحاجة، أروح متعاملة معه.. أحكي له عن ابني”.

ورغم الجهود المستمرة، لم تجد العائلة حتى الآن فرصة للعلاج، لكنها لا تزال تأمل في حل قريب.

غزة في القلب رغم المعاناة

رغم الظروف القاسية، لا تزال غزة حاضرة في قلب أم محمد، تتحدث عنها بحنين وحسرة:

“أنا بحب بلدي، وغزة حلوة كتير كتير، ومش هاين علينا نسيبها، لكن الحياة صعبة”.

الوضع الأمني يجعل العودة مستحيلة، حيث المعابر مغلقة إلا للحالات المرضية الحرجة. ورغم محاولات زوجها لإيجاد مخرج، إلا أن القيود المفروضة تجعل الأمر شبه مستحيل.

“المعبر واقف.. ممنوع حد يفوت أو يطلع منه غير المرضى”.

حياة صعبة داخل المستشفى

قضت العائلة عامًا كاملًا في المستشفى، وسط ظروف صعبة خاصة للأطفال الذين اضطروا للبقاء في غرف ضيقة، بلا خصوصية أو راحة.

“أولها كانت صعبة علينا.. خرجنا من الحرب وما كانش في خصوصية ولا راحة.”

كانت العائلات تتشارك الغرف والمرافق الأساسية، حيث تضطر عدة أسر لاستخدام حمام واحد، مع غياب أي فرصة للحياة الطبيعية.

“الأسرة أسرتين تلاتة مع بعض بالأوضة، وكل حاجة مشتركة.”

أما الطعام، فلم يكن لديهم القدرة على الطهي، فاعتمدوا على الوجبات اليومية التي لم تكن كافية.

“كانوا الناس يجيبوا لنا فطور وغداء، وجبتين باليوم.. والغداء بيجينا مع المغرب.”

تمسك بالأمل رغم كل الصعوبات

رغم المعاناة، تواصل أم محمد كفاحها، في انتظار فرصة تنقذ حياة طفلها وتعيد لعائلتها بعض الاستقرار.

لم تكن صعوبة العيش في المستشفى أكبر تحدٍّ واجهته، بل كان الأهم هو كيفية توفير الأمان والاحتياجات الأساسية لأطفالها، في ظل غياب الأب والمنزل.

“الناس ما قصروا معنا، كانوا يجيبوا لنا كل حاجة.. مساعدات مادية ومعنوية، حتى الشوكولاتة والبلالين والألعاب للأطفال”.

حاولت أم محمد جاهدةً تعويض أطفالها عمّا فقدوه، فكانت تستخدم ما تحصل عليه من مساعداتٍ لشراء احتياجاتهم، حتى لا يشعروا بمرارة الغربة وظروف الحرب معًا.

وعيٌ تشكّل على الموت

لكن كان الأصعب هو التعامل مع ابنتها سلمى، التي كانت الأكثر تأثرًا بكل ما مرّت به العائلة. لم تكن الطفلة تستوعب الفراق عن والدها، وكانت دائمًا تتحدث عنه مع أي شخصٍ تلتقي به في المستشفى، تروي كيف أنهم لم يستطيعوا إخراجه من غزة، وكيف واجهوا الاحتلال مباشرةً.

“بمجرد ما تقعد مع أي حد، تبدأ تتكلم عن باباها.. وأنهم تعرضوا للصهاينة قبل كده”.

كان تأثير الحرب واضحًا عليها، إذ كانت تفزع عند سماع أي صوتٍ مرتفع، حتى لو كان صوت خروف، فتجري إلى أحضان والدها، الذي كان يحاول تهدئتها بأي طريقة، بلعبها أو إشغالها عن الخوف المستمر.

“في الحرب انحرمت من كل حاجة.. قبلها كانت تعيش حياة طبيعية، كان مصروفها اليومي خمسين جنيهًا، تشتري اللي تحبه، لكن بعد الحرب، صارت تستأذن قبل ما تطلب أي حاجة”.

حتى أبسط الأمور مثل شراء عصيرٍ أو حلوى باتت تمثل أزمة، فكانت أم محمد تحاول أن تجد لها بدائل أقل تكلفةً حتى لا تشعر بحرمانٍ كامل.

“كنا نقول لها بدل العصير، ممكن تاخدي كاكاو.. نحاول نوفر لها أي حاجة بديلة”.

في ظل هذه الظروف، لم يكن لدى أم محمد خيارٌ سوى الصمود، محاولةً خلق لحظاتٍ من الفرح وسط الألم، في انتظار اليوم الذي تعود فيه الحياة إلى طبيعتها.

رحلة نزوح

منذ اللحظة الأولى للحرب، لم يكن أمام أم محمد وعائلتها سوى الفرار من منزلهم في المنطقة الحدودية، التي كانت أولى المناطق المستهدفة بالقصف. لم ينتظروا طويلًا، فقبل أن ينتهي اليوم الأول، كانوا قد أدركوا أن بقاءهم هناك يعني الموت المحتم.

“إحنا ساكنين عالحدود.. وعارفين إيش بصير فينا.. مناطق حدودية بتتاكل أول حاجة”.

توجهت العائلة إلى مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، كما كانوا يفعلون في كل حربٍ سابقة، لكن هذه المرة لم يكن هناك مكانٌ آمنٌ حتى في تلك المدارس التي لجأوا إليها. لم تُستثنَ مراكز الإيواء من القصف، حتى مدرستهم تعرضت للحرق مرتين وهم بداخلها.

“لولا رحمة ربنا علينا.. كان الوضع أسوأ، الشباب كانوا يروحوا يدبروا مية يطفوا النار بالرمل”.

لم ينجُ أحدٌ من آثار الحرب، فالملاجئ لم تكن حصنًا آمنًا، ولم يكن هناك مكانٌ يضمن لهم حياةً بلا تهديد. كان الجميع يحاولون النجاة بوسائل بدائية، وسط غياب أي دعمٍ حقيقي، وفي كل لحظة كانوا يشعرون أنهم هدفٌ مباشرٌ للهجمات.

“ما حدش سلم.. والله ما حدش سلم”.

صراع المرض والغربة

خلال الفترة التي قضتها سلمى في المستشفى، لم تكن الحياة سهلةً عليها أو على والدتها. في بيئةٍ مزدحمةٍ بالأطفال المرضى، لم تكن سلمى قادرةً على اللعب بحرية، كما أن الطعام والنظافة الشخصية كانا تحديًا يوميًا وسط الظروف الصعبة.

“كنا تلات أسر في الغرفة، بعدين طلعت أسرة وضلينا أسرة.. كانت الظروف صعبة، بس كنا مستحملين عشان الولاد”.

انتشار الأوبئة والفيروسات كان خطرًا دائمًا، فلم يكن غريبًا أن يصاب أحد الأطفال بنزلةٍ معوية، وسرعان ما ينتقل المرض إلى باقي القسم، مما يضاعف معاناة الجميع.

“لو طفل جاله نزلة معوية، تلاقي كل القسم صار عنده.. الكل بيتعالج في نفس الوقت”.

أما فكرة مغادرة المستشفى إلى شقةٍ مستقلة، فكانت خيارًا غير متاحٍ بسهولة، إذ تطلب الأمر كفالة أحد الأقارب والخروج من برنامج وزارة الصحة. ورغم صعوبة العيش داخل المستشفى، لم يكن لدى أم محمد خيارٌ غير البقاء لضمان علاج طفلها، مؤكدةً أنها تتحمل كل هذه الظروف فقط من أجل صحة أطفالها.

“أنا متحملة الغربة دي عشان ابني يتعالج، مش عشان أنا أقعد وأرتاح”.

صدمةٌ جديدة

وعن تفاصيل المعيشة، كان من المفترض أن توفر المؤسسات الإنسانية الدعم اللازم، إذ تحدث المسؤولون عن تدخل الهلال الأحمر والتضامن الاجتماعي، لكن الأسر لم تتأكد بعد من مدى استمرارية هذا الدعم. كانت الشقق مجهزةً جزئيًا، إذ تضمنت ثلاجةً وغسالة، مع توفير بوتاجازٍ وتلفزيون.

وسط هذه الأوجاع، اكتشفت والدة سلمى أمرًا لم يكن متوقعًا. فبينما كانت تعتقد أن ابنتها هي الوحيدة السليمة بين إخوتها المرضى، قررت الاطمئنان عليها عبر الفحوصات الطبية، لتتفاجأ بأن سلمى تعاني من عيبٍ خلقي في الصمام الثلاثي للقلب، يسبب ارتجاعًا يحتاج إلى متابعةٍ مستمرة.

“لما رحت عملت الفحوصات، لقيت عندها عيب خلقي بالصمام الثلاثي وارتجاع.. الدكتور قال تحتاج متابعة، بس ما في علاج حاليًا إلا إذا حصل تطور”.

وهكذا، وسط رحلة النزوح والمآسي، وجدت والدة سلمى نفسها أمام معركةٍ جديدة، حيث صار لزامًا عليها متابعة حالة ابنتها، إلى جانب الاهتمام ببقية أطفالها، في ظل ظروفٍ معيشية لا تزال غير مستقرة، ودعمٍ لم يتأكد استمراره بعد.

“إحنا تحملنا كل ده عشان ولادنا يتعالجوا.. مش عشان ندور على راحة،” هكذا عبّرت والدة سلمى عن صعوبة الوضع، وهي توازن بين متابعة حالة ابنتها والبحث عن الاستقرار وسط واقعٍ لا يزال غامضًا، في انتظار وعود الدعم التي لم تتحقق بالكامل بعد.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة