من وسط البلد للأزهر والمطرية.. القاهرة عامرة بموائد إفطار تقاوم الأزمة الاقتصادية

بينما تسعى مصر للحصول على شريحة جديدة من قرضها مع صندوق النقد، الذي لا يزال يفرض مزيدًا من ضغوط تستجيب لها الحكومة، حتى وصلت إلى إعلان الالتزام بإلغاء دعم البنزين في موعد أقصاه نهاية 2025، لا يزال الشعب يقاوم الضائقة بوسائل تدبيرية عدة، أهمها موائد الرحمن في رمضان، والتي لم تعد مجرد عادة متوارثة، بل تكتيك يعكس ربما ما آل إليه حال الناس، استوعبته محافظة القاهرة أخيرًا، فأعلنت موافقتها على إقامة الموائد دون فرض أي رسوم عليها هذا العام.

تقدر التقارير الإعلامية المحلية أعداد المستفيدين من موائد الرحمن في رمضان 2018 بنحو 3 ملايين شخص يوميًا. 

مائدة باب اللوق.. الخير كتير

في منطقة باب اللوق الشهيرة بوسط البلد، يبدأ الإعداد لموائد الرحمن أواخر شهر شعبان، بدءًا من استخراج التصاريح لإقامة الموائد في الأماكن التي تتسع لها، مرورًا بتجهيز أدوات المطبخ، والمناضد، والكراسي، والمفارش، والخيامية. أما المواد التموينية، فيتم شراؤها يومًا بيوم، كما يقول عمر السيد، المشرف على مائدة الرحمن بميدان باب اللوق، لمنصة فكّر تاني.

تُقام مائدة الرحمن أمام مقهى الحرية، في مكان نصف دائري يتسع لما يزيد عن 20 منضدة، لا يتجاوز عرض الواحدة منها المتر إلا قليلًا، ويبلغ طولها نحو متر ونصف المتر. ورغم ذلك، يتحلق حولها كثير من الصائمين وقوفًا في الشارع طلبًا للإفطار.

وكما يقول أشرف، أحد العاملين بالمائدة، لـ فكّر تاني: “نقدّم وجبات الإفطار حتى لمن يمرّ بالميدان مرور الكرام، وتتكوّن الوجبة من أرز، وخضار، وسلطة، وخبز، وربع دجاجة، بالإضافة إلى موزة أو برتقالة”.

وعن عدد الوجبات التي تقدّمها المائدة، قال أشرف: “لا أستطيع حصر عدد الوجبات التي نقدّمها يوميًا، لأن عدد المترددين على المائدة يزداد يومًا بعد يوم، وبالتالي يزيد عدد الوجبات المقدّمة. أما الثابت، فهو عدد العاملين بالمائدة، إذ يبلغ 15 شخصًا، سواء في المطبخ أو في تقديم الوجبات”.

مائدة عالمية في الأزهر

يعقد بيت الزكاة والصدقات، الذي يشرف عليه شيخ الأزهر أحمد الطيب، مائدة رحمن في رحاب الجامع الأزهر، مخصّصة للطلاب الوافدين والمصريين المغتربين المستحقين، ضمن برنامجي “إفطار صائم” و”إطعام”.

ويصف الأزهر الشريف المائدة بأنها “مائدة عالمية”، حيث يتم تقديم 3000 وجبة يوميًا لإفطار الصائمين من مرتادي الجامع الأزهر من مختلف الجنسيات.

“محمد محمود” منذ 17 عامًا

في شارع عبد العزيز جاويش، المتفرع من شارع محمد محمود بوسط البلد، تمتد مائدة الرحمن حتى منتصف الشارع على صفين متقابلين، يضم كل منهما أكثر من 25 منضدة، عرض الواحدة منها أقل من متر، وطولها يزيد على مترين.

يقول محمد شميس لـ فكّر تاني: “نبدأ الإعداد لمائدة الرحمن، التي نحرص على إقامتها كل عام منذ 2008، قبل رمضان بأسبوع. جميع القائمين على المائدة من أبناء المنطقة، ويزيد عددهم على 20 فردًا، يعملون جميعًا لوجه الله. أما المطبخ وشراء مستلزمات المائدة يوميًا، فقد أُوكل إلى الشيف محمد والفريق الذي يعمل معه”.

وعن عدد الوجبات التي تعدها المائدة للصائمين يقول شميس: “نعد حوالي 500 وجبة يوميًا، فالطعام يأتي من المطبخ في الأواني ويتحرك السرفيس،  استالس”، من ترابيزة لأخرى، فهذا يضع في السرفيس الطرشي، وآخر يضع الأرز وآخر يضع الخضار وآخر يضع الفاكهة ثم اللحوم، وهنا يأتي دور من يقوم بتوزيع الوجبات على الموائد”.

وحول من يدفع كل هذه التكاليف، فيقول شميس: “إن أهل الخير كتير، وهم يرفضون ذكر أسمائهم”.

السيدة زينب.. مائدة لم الأحبة

بدأ مسجد السيدة زينب بإقامة مائدة الرحمن هذا العام، منذ اليوم الثالث من رمضان.

ويقول عادل عبدالله، شاب يبلغ من العمر 28 عاما لـ فكّر تاني: “تأخر المسؤولون في مسجد السيدة زينب عن إقامة مائدة الرحمن في التجهيزات للشهر الكريم، وكنت أنا وأبي نعمل على مفارش ملابس وأحذية في ميدان السيدة، وحين يؤذن للصلاة ندخل لنصلي، وبعد الصلاة التقينا الشيخ محمود، أحد المسئولين عن مائدة الإفطار، وعرض علينا العمل معه، والمساعدة في تقديم الوجبات للصائمين”.

يقول عبدالله: “لا نفعل شيئًا سوى تسلم الوجبات من سيارة أهل الخير تأتي أمام المسجد يوميًا، ونقدم تلك الوجبات للصائمين على مفارش موضوعة فوق سجاد المسجد”.

وعن عدد الوجبات التي يقدمونها للصائمين يقول عادل: “نضع على المفارش ما يزيد على مائتي وجبة قبل أن يبدأ الصائمون في التوافد على المسجد، لكن مع توافدهم نكتشف أننا نحتاج لمثلهم قبيل آذان المغرب مباشرة، ويعمل أهل الخير على توافر عدد كبير من الوجبات تحسبًا لزيادة العدد، والوجبات الزائدة نقوم بتوزيعها على الفقراء أو المارة إلى جوار المسجد”.

وعن مكونات الوجبة يقول عم عبدالله: “كل وجبة لا تخلو من البلح والسلاطة والأرز والعيش واللحوم، سواء كانت ربع فرخة أو قطعة لحم أو كفتة”.

مائدة أم أحمد.. “اللي بيجيبه ربنا بنقدمه للناس”

بعد محطة محمد نجيب في شارع محمد فريد، وبعد تجاوز تمثال محمد فريد، تقيم أم أحمد مائدة الرحمن، التي تتكون من 10 مناضد، مصنوعة من صاج مثبت على قواعد حديدية، لا يزيد عرض الواحدة منها على متر، فيما يتجاوز طولها المترين. يمكن رؤية البوتاجاز الحديدي، المصمم بثلاث عيون مُصنَّعة خصيصًا، أثناء المرور بشارع محمد فريد، وخلفه يوجد فرن كبير.

تقول أم أحمد لـ فكّر تاني: “عندنا هنا مفيش وجبات ثابتة، اللي بيجيبه ربنا بنطبخه، ونضع في الأطباق خضارًا أو أرزًا أو مكرونة وسلطة، ثم نرتبها على الطاولات، ونرحب بالمارة في الشارع، فالصائم يتفضل ليفطر”.

أم أحمد، امرأة مسنة تجاوزت الستين بعدة سنوات، يظهر شعرها الأبيض رغم ارتدائها الإيشارب. تطبخ وهي جالسة على كرسي حديدي، ويساعدها في إعداد الطعام شابان في الثلاثينيات من عمرهما، وهما أيضًا المسؤولان عن تقديم الوجبات للصائمين.

رواد الموائد : “اللي فرض الصيام يرسل الخيرات”

يشعر رواد موائد الرحمن ببركة شهر رمضان الكريم مع توافر الطعام على الموائد، رغم تعقيدات الأزمة الاقتصادية، ما يمنحهم فرصة لتناول أطعمة افتقدوها طوال العام.

يقول علي فرحات، رجل خمسيني، لـ فكّر تاني، وهو ممن تشملهم وجبات أهل الخير: “إن الله رؤوف بعباده، فلا يترك أمثالنا من الفقراء فريسة للجوع والاحتياج في هذا الشهر الكريم. نحن لا نردد مقولة رمضان كريم إلا لأن رمضان لا يكون إلا كذلك بالفعل، وعندما يقال لنا رمضان كريم، نجيب بأن الله أكرم من الشهر الفضيل. وما يقوم به أهل الخير من توفير وجبات الإفطار للصائمين هو رسالة من الله لعباده، إذ أوعز للقادرين الخيرين بتقديم الإفطار لنا. كما أن التكايا وموائد الإطعام لا تقتصر على تقديم وجبات الإفطار فقط، بل توفر أيضًا وجبات السحور”.

عبد العال السوهاجي، رجل تخطى الستين، يعمل ماسح أحذية، يجلس في ميدان محمد فريد بجوار محطة محمد نجيب، واضعًا صندوق الورنيش أمامه حتى أذان المغرب. وعن إفطاره في الشارع، يقول: “تمر من أمامي سيارات أهل الخير محملة بوجبات الإفطار، فيعطونني وجبتي، وحين يؤذن المغرب ولم تكن وجبتي معي، أذهب إلى أقرب مائدة هنا في شارع محمد فريد. فالذي فرض الصيام يرسل الخيرات”.

مائدة المطرية تتوسع إلى 20 شارعًا

في عزبة حمادة بحي المطرية، امتدت واحدة من أكبر موائدة الرحمن، التي تُنظم سنويًا في منتصف رمضان، لكنها توسعت هذا العام بشكل غير مسبوق، ليتضاعف عدد الشوارع التي تستقبل هذه المائدة من 10 إلى 20 شارعًا، حيث تم توفير ما بين 45 ألفًا إلى 50 ألف وجبة إفطار.

مائدة حي العزبة في المطرية (وكالات)
مائدة حي العزبة في المطرية (وكالات)

وقد جُهّز شارع المطبخ ليكون مقر إعداد الطعام، وتم طهي 5 أطنان من اللحوم الحمراء، وطنين من اللحوم البيضاء، وطن من المحاشي أعدتها 200 أسرة من الحي، إلى جانب طنين من الأرز البسمتي، وكميات أخرى من الأرز والسلطات التي جُهّزت في بعض المنازل. كما نُصبت 2500 طاولة بكراسيها منذ ساعات الصباح الأولى لاستقبال الصائمين.

وتحرص عزبة حمادة على إقامة هذه المائدة سنويًا منذ عام 2013 بتمويل ذاتي من الأهالي، وهي ربما أشهر الموائد خلال السنوات العشر الأخيرة، لم تتوقف إلا في عامي 2020 و2021 بسبب جائحة كورونا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة