لأنني لم أرَها إلا وابتسامتها الصافية الحنونة تحتضنني قبل أن أمدَّ يدي للسلام.
في ذلك اليوم البعيد، ركبتُ "الميكروباص" المتجه إلى شارع الهرم من شارع الجلاء؛ كان الجو شديد الحرارة، وكانت الميكروباصات تأتي من رمسيس كاملة العدد، ولكنني بعد عناء ركبت ووصلت إلى شارع الهرم، ثم إلى بيت الدكتورة ليلى سويف، أستاذة الرياضيات في علوم القاهرة وزوجها المناضل أحمد سيف الإسلام، في شارع ضيق متفرع من أحد الشوارع المتفرعة من شارع الهرم.
سألتُ البقال الذي استقبل سؤالي بابتسامة عريضة وترحيب، ربما لو طلبتُ منه أن يصعد معي حتى باب الشقة: "يا أهلًا وسهلًا، أيون، الأستاذ والدكتورة ساكنين هنا، يا ميت مرحبًا، اتفضلي".. وجدتُهما ينتظران على باب الشقة، وقد ملأتهما المودة والابتسامة التي لم تفارقهما حتى لقاءنا الأخير في بيت صغير لا يحتوي على أبسط الأثاث أو ما هو ضروري؛ بيت صغير في شارع ضيق كانت تعيش فيه مع حبيب عمرها أحمد سيف، الذي اعتدنا أن نناديه "يا سيف".
ثمن الحلم
وها هي تصل بعد أن أنهت محاضراتها في الجامعة إلى مركز هشام مبارك، حيث يقع مقر اللجنة المصرية لدعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت عام 2002، وبكل مشاعر وطاقة، تضع تبرعات الشعب المصري للشعب الفلسطيني في كراتين؛ كراتين تُرتب فيها لبن الأطفال، وفي آخر تُعبأ أدوية، وفي ثالث تُعبأ المواد الغذائية.
تغادر عالمة الرياضيات مدرجات الجامعة وعلى أكتافها الحطة الفلسطينية، يلتحم صوتها مع الأصوات الهادرة قائلة: "فلسطين عربية".. وتحمل معها حلمها لطلابها بعد انتهاء محاضراتها، مسرعةً إلى ميدان التحرير، في يومٍ كنا نحلم فيه بأن نحقق حلم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
دفعت ليلى سويف ثمن الحلم من عمرها سنوات، عاشتها تنتظر عودة أحبائها من خلف أبواب الزنازين الباردة؛ سنوات انتظرت فيها عودة حبيب عمرها وخمس سنوات لعودة سناء التي غادرت حضنها الذي يتسع لكل البنات اللاتي اُنتزعن من أحضان أمهاتهن إلى الزنازين المظلمة.
حالة شديدة الخطورة
تظل هي أجمل الأمهات. تقطع المسافات الطويلة وتعيش السنين القاسية التي كابدت فيها رحيل حبيب عمرها، بينما يظل الباب الحديدي لسجن ابنها علاء عبد الفتاح مغلقًا إلى الآن.
تنظر إليه وتكابد، ولا تغيب ابتسامتها الطيبة ولا حنانها ورقتها؛ كنا معها نعد الأيام المتبقية حتى خروجه من سجنه إلى أمه وشقيقتيه وابنه الذي لم يعش معه أجمل ذكريات طفولته، وكأنه لن يغادر الزنازين رغم أنه قضى فيها إحدى عشر عامًا.

تنتظره أمه أمام باب السجن في موعد خروجه، ولكنه لا يخرج. وبقية ما تمر به أم علاء وسناء ومن يعرفه، اضربت عن الطعام احتجاجًا على استمرار حبس ابنها بدون أي سند قانوني.
وكان القرار أن يستمر إضرابها عن الطعام حتى الإفراج عن ابنها أو الموت مضربةً.
وهي الآن في حالة شديدة الخطورة؛ عندما رأيت صورتها الأخيرة بكيت وأنا أتذكر ابتسامتها الحنونة التي كانت تحيطنا جميعًا بها.
فهل يأتي صباح ننتظره بوجود دكتورة ليلى سويف في بيتها، وفي حضنها أولادها الثلاثة، وتنتظر قدوم أصدقائها ورفاق رحلة عمرها وطلابها المنتظرون عودتها إلى قاعات المحاضرات؟