بعد التنحي في فبراير ٢٠١١، عاد إلى مصر عدد كبير من العقول النابغة، أطباء ومهندسون وعلماء الخارج، يحملون معهم آمالًا بإعادة بناء الوطن، أتذكر مئات المبادرات العبقرية، وآلاف الأفكار البناءة، فالكل كان يشعر أن مصر عادت ملكاً لأهلها جميعاً وليست لطبقة بعينها، وعلت الأحلام وقتها حتى عنان السماء، أنها اللحظة التي أدرك فيها المصريون أنهم هم أصحاب هذا الوطن وليس حفنة من ذوي النفوذ.
خرج المصريون يطالبون بحقوق طبيعية، والمطالب كانت بسيطة، بل أقل من البسيطة بالنسبة لشعوب أخرى، مثل تكافؤ الفرص، وسكن لائق، تعليم جيد، شوارع نظيفة، رعاية صحية آدمية، وأهم من ذلك كله، إمكانية محاسبة المسئولين كما في الدول الديمقراطية، وفي 18 يومًا من المثالية كانت الميادين ملكًا لأصحابها الحقيقيين، الشوارع نظيفة، والوجوه مفعمة بالأمل، الكل يتشارك، الكل يبادر، الكل يرى لأول مرة أن بلاده يمكن أن تكون أجمل، يمكن أن تكون لهم.
ولكن بعد ١٤ عامًا، يردد الناس بين الحين والآخر عبارات توحي بالحنين للعهد الذي ثاروا ضده، "ولا يوم من أيامك يا مبارك"، البعض ينسى أن تلك الأيام هي التي قادت إلى الغضب، وأن سياساته الاقتصادية وانتشار الفساد والقمع هو ما قاد لتلك الانتفاضة، فالبعض يستسهل لوم الضحية، أو يتمنى العودة للماضي، وكأن من طالبوا بالإصلاح هم المسؤولون عن تدهور الأوضاع، وكأن خطيئتهم الوحيدة أنهم حلموا بوطن أفضل.
وكثيرا ما يثار الجدال عن من المسؤول عما جرى؟ هل الشباب الساذج، أم الإسلاميون والانتهازيون؟ هل لحظة الانقسام الكبرى كانت في مارس 2011، في استفتاء الجنة والنار والشريعة والشرعية؟ أم في يوليو 2013؟ أم كانت بذور الانقسام موجودة بالفعل في الـ" ١٨ يوم"، عندما لم يكن هناك إجماع على شئ في أغلب الأوقات، ولم يكن هناك توافق، فقد كانت الثورة فعلًا مشتركًا، لكن الطريق إلى المستقبل كان طريقًا متنازعًا عليه، كل طرف أراد رسمه وفق رؤيته الخاصة، وكل طرف أخطأ في ظنه أنه وحده يملك الحقيقة.
أسئلة عالقة
لكن، لا يزال هناك الكثير من الأسئلة العالقة حتى اليوم، وقضايا لم تُحسم بعد، هل المشكلة أننا لم نمتلك تصورًا واضحًا بعد مبارك؟ هل كان الترفع عن إنشاء التنظيمات السياسية والحزبية خطأ؟
وما هو شكل الدولة الذي نريده؟ ما هويتها؟ هل هناك مراجعات لنظريات الإسلام السياسي وعلاقة الدين بالدولة ومحاولة فرض نموذج معين؟ هل هناك بديل عن الأصولية الدينية غير الأصولية السلطوية؟ هل كان الخطأ في أننا ركزنا على إسقاط رأس السلطة، دون أن نعرف ماذا نريد بعده وكيف تعمل تلك الدولة العميقة؟

هذه الأيام وكل فترة في العالم الافتراضي، تُعاد النقاشات أحيانا من جديد، خلافات تتفجر كل يوم حول قضايا الحريات الشخصية، القضايا الاجتماعية، والسياسية. المشكلة ليست في وجود الخلاف، فالاختلاف طبيعي، بل ضروري، لكن المشكلة في الطريقة التي يُدار بها، في العنف اللفظي، في التخوين، واستسهال إلغاء الآخر، وكأننا لم نتعلم شيئًا مما حدث.
في النهاية، خسر الجميع. الثوار، طوردوا وسجنوا أو نُفوا، أما نظام مبارك فقد أعيد إنتاجه في أشكال أخرى، ربما لم تكن المحاولة في 2011 ناجحة، لكنها لم تكن عبثًا، وكان للحلم الذي وُلد في يناير أثر لا يمكن محوه، ورغم فشلها فإنه لم يكن موتًا، بل كان لحظة ولادة لحدث لا تزال آثاره ممتدة حتى اليوم، رغم كل المحاولات المستميتة لشيطنته، مما جعل هناك من يتوجس كلما ذُكرت سيرتها، ولذلك وجد البعض في سيرة يناير ذريعة للهروب من المساءلة أو جعلها شماعة لتبرير الفشل.
ماذا بعد؟
لكن ماذا بعد؟ الأجيال التي كانت شابة منذ ١٤ عاماً شاخت قبل أوانها، سُحقت بين السجون والمنافي، أو أجهز عليها الإحباط، والبعض لا يزال متمسكًا بالأمل الضعيف ويحاول بأساليب تفاوضية أو أقل حدة، ولكن هناك من يؤمن أنه قد تأتي أجيال أخرى بأفكار وأساليب مختلفة، أقل ضجيجًا وأكثر نضجًا، فليس من الضرورة أن تكرر نفس أساليب الأجيال التي سبقتها وأخفقت، بل من السذاجة والخطأ محاولة تكرار أو استنساخ نفس فعل الماضي في ظروف مختلفة.
خرج المصريون يطالبون بحقوق طبيعية، والمطالب كانت بسيطة، بل أقل من البسيطة بالنسبة لشعوب أخرى
ففي ٢٠١١ كان هناك جيل، لم يعايش الثورة، لم يكن لهم رابط بها، ومع ذلك بحثوا عما حدث، ربما سمعوا الروايات المتضاربة، فبحثوا أكثر، بعضهم أدرك الحقيقة، وبعضهم لا يزال يبحث، إنها أجيال جديدة، أكثر وعيًا، أكثر قدرة على الفهم، أكثر إدراكًا لأخطائنا الماضية، لذلك قد تساعدهم استمرار المراجعات، وسيكون من المفيد للجميع في طريقهم أن يستحضروا العوائق والأخطاء ومحاولة تحليل أسباب الإخفاق .
فكل تحية لكل من حلم بذلك التغيير، تحية لكل من دفع ثمنًا من أجل الحرية والعدالة والكرامة، وستظل 2011 هي العلامة الفارقة، والحلم الذي راودنا جميعًا، ذلك الحلم الذي لن يُمحى من الذاكرة مهما حدث.