"هَلْ قُلْتُ: مَوْتى؟
لا مَوْتَ هناك..
هناكَ، فقط، تبديلُ عوالِم".
سياتل زعيم دواميش
في ولايته الرئاسية الأولى، تبنى دونالد ترامب مقترحًا لتصفية القضية الفلسطينية، عُرف حينها بـ "صفقة القرن". أثير حول هذا المقترح الكثير من التكهنات في ظل ضبابية واختلاف التسريبات الكثيرة التي تناولت محتواه. لكن هزيمة ترامب وفوز المرشح الديمقراطي بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية قبل الأخيرة، عطّلت هذه الصفقة.
لم تمضِ أيام قليلة على فوز ترامب بالولاية الرئاسية الثانية، حتى أعلن في تصريحات صادمة عن عزمه تبني خطة لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن ثم احتلال القطاع نفسه وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". التصريحات التي عارضتها الدولتان العربيتان، تعامل فيها ترامب مع الفلسطينيين وفقًا للعقلية والتصورات والإجراءات نفسها التي تعامل بها المواطنون الأوروبيون البيض قبل قرنين مع السكان الأصليين للولايات المتحدة.
من هذا المنظور، يمكننا فهم عقلية ترامب والخلفية الثقافية والسياسية التي يتعامل من خلالها مع القضية الفلسطينية. وبناءً عليه، فهو لا يرى في سكان قطاع غزة سوى "هنود حمر" بدائيين ورجعيين في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي الأكثر تقدمًا وحداثة، وفقًا لوجهة نظره. لذلك، لا يرى حلًا سوى إبادة وإزاحة هؤلاء السكان الأصليين.
ورغم توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار منتصف يناير الماضي، التي تنص على الانسحاب العسكري الإسرائيلي من قطاع غزة، وتضمن إعادة إعمار القطاع، يظل السؤال المطروح بلا إجابات هو: ماذا عن مصير ومستقبل الفلسطينيين في قطاع غزة؟ وإلى أي مدى يمكن تكرار ما حدث مع السكان الأصليين في الولايات المتحدة قبل قرنين على المشهد الفلسطيني الحالي؟ فهل نشهد خُطبة "سياتل" جديدة في القرن الحادي والعشرين؟
الحرب والسلام
لنْ يَفْهَمَ السّيّدُ الأبْيضُ الْكلماتِ الْعَتِيقَةْ
هُنا، في النّفوس الطّليقةِ بيْن السّماء وبيْنَ الشّجر..
فمِنْ حقّ كولومبوس الْحُرّ أن يَجدَ الهنْد في أيّ بَحْرٍ،
ومَنْ حقّه أن يُسمّي أَشْباحَنا فُلفُلاً أوْ هُنودا،
وفي وُسْعهِ أَنْ يكسّر بوْصلةَ الْبحْر كي تَسْتقيم
وَأخطاءَ ريح الشّمال، ولكنّه لا يصدّق أنّ الْبَشَرْ
سَواسِيّةٌ كالْهَوَاء وكَالْمَاء
كانت الفكرة الرائجة عندما اكتشف الرحالة الأوروبيون قارات العالم الجديد في الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، أنها أرض بلا شعوب، لكن مع هجرة أعداد كبيرة من الأوروبيين إلى أرض العالم الجديد، تكشّفت الحقائق؛ فهناك شعوبًا وقبائل وحضارات تعيش على هذه الأرض منذ قرون طويلة، مئات وآلاف السنين، وهو ما يتكرر في فلسطين؛ فمنذ اللحظة الأولى لنشأة دولة الاحتلال الإسرائيلي، كانت الدعاية الأساسية أن هذه الأرض بلا شعب.
الشعوب التي وصمها الإنسان الأبيض بالبدائية، وأطلق عليها مسمى "الهنود الحمر"، ظلّت سنوات طويلة تدافع عن أرضها وحضارتها، حتى شهد منتصف القرن التاسع عشر لحظة استثنائية، حين أعلن "سياتل"، زعيم قبائل الدواميش والسُكواميش والقبائل المتحالفة في الشمال الغربي من أمريكا، في خطبة تاريخية، عقد اتفاقية مع الرجل الأبيض، وذلك بعد حروب ومجازر كثيرة ارتكبها المواطن الأبيض.
الخطبة الشهيرة التي عُرفت إعلاميًا بخطبة "سياتل" أو "الهندي الأخير"، صارت أقرب ما تكون إلى نص مقدس منها إلى خطاب سلام أو استسلام؛ مانيفستو من الحكمة والجمال والإيمان بجوهر الإنسان والطبيعة. يدعونا سياتل في خطبته إلى التأمل والتفكير في معانٍ وقيم وأفكار وتصورات أكبر بكثير من محدودية ونفعية عقل الرجل الأبيض الغازي والمحتل، الغارق في أوهامه وسعيه المجنون للهيمنة والسيطرة على الموارد الطبيعية، حيث الثروة والسلطة والقوة.
بموجب هذه الاتفاقية، التي رآها البعض استسلامًا، ورآها آخرون معاهدة سلام، تنازلت القبائل عن جزء كبير من أراضيها، على أن تعيش في سلام في مساحات من الأرض مخصصة لها، مع الحفاظ على تراثها كجزء من هوية وتاريخ المجتمع الجديد. بدا اختيار سياتل، زعيم الهنود الحمر، اختيارًا حرًا، لكنه دُفع إليه بسبب آلة القتل وأسلحة المواطن الأبيض الفتاكة.
اليوم أو غدًا، سُيدفع الفلسطينيون إلى سلام مع العدو الإسرائيلي تحت وطأة الحصار والقتل والإبادة، بعد كل التضحيات، سواء في الحرب الأخيرة على قطاع غزة أو من قبلها بعقود. يبدو مستقبل القضية الفلسطينية اليوم أقرب ما يكون إلى ما حدث مع القبائل المتحالفة في الشمال الغربي بزعامة "سياتل". لست ضد السلام، بل على العكس، أرى أن أي حرب أو مقاومة مسلحة هدفها في النهاية الوصول إلى حلول سياسية عادلة قدر المستطاع، لكن أي سلام على الفلسطينيين أن يتبنوه مع نتنياهو وأمثاله ممن يحكمون العالم؟
الخطبة الأخيرة
وَنحْنُ نُودّعُ نيرانَنَا
لا نرُدّ التّحيّة.. لا تكْتُبوا
علينا وصايا الإله الجَدِيد، إله الحَديد، ولا تطلُبُوا
معاهَدةً للسّلام من الميّتين، فلم يبْقَ منهُمْ أحدْ
يُبشّرُكُمْ بالسّلام مع النّفْس والآخرين
في بداية الخطبة، يعرض "سياتل" تاريخ وهوية شعبه وعلاقته بالطبيعة والأرض بأسلوب غاية في البلاغة والجمال والحكمة، في مقابل همجية الآخر، المواطن الأبيض الغازي المحتل، عدو الطبيعة والجمال، موضحًا لماذا حارب الهنود دفاعًا عن أرضهم وحياتهم طوال هذه العقود، ولماذا قرروا الآن الاستسلام، استسلام الأقوياء والحكماء؛ لأنهم ببساطة يتحدثون بلغة ومعانٍ وفلسفة وأخلاق ومنطق لا يفهمها الرجل الأبيض.
"زعيم واشنطن الكبير يقول في رسالته: إنه يريد شراء بلادنا، وأنه صديقي ويكنّ لي مودة عميقة. ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، ولا سيما أنه في غنى عني وعن صداقتي! ولكننا سننظر فيما يعرضه، فنحن نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا، فسوف يأتينا الرجل الأبيض مدججًا بسلاحه وينتزعها. كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟ ما أغرب هذه الأفكار!".
يطرح "سياتل" تساؤلات بديهية، تناساها الإنسان المعاصر في ظل ركضه السريع: "كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها؟ كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي. كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الأحراش، كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطنّ؛ كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة، النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر".
يقدّس السكان الأصليون الطبيعة والأرض، وينظرون إلى الطيور والحيوانات وباقي الكائنات الحية كإخوة لهم، ولا يعرفون وحشية التصنيع والإنتاج الكثيف وتدمير البيئة، ولا سرقة فائض القيمة ومراكمة الثروة، ولا يعرفون البارود والأسلحة الفتاكة، ولكنهم يؤمنون بجوهر الإنسان، حيث الجسد البشري فانٍ والروح خالدة، الروح التي تتجسد في حيوات أخرى؛ لتنتصر للخير.
وصايا الحكيم
أما آنَ أَنْ نلتقي، يا غريبُ
غَريبْين في زَمَنٍ واحدٍ؟
وفي بلدٍ واحدٍ،
مَثْلَما يَلْتقي الْغرباءُ على هاويَةْ؟
لَنا ما لنا... وَلَنا ما لَكُم منْ سَماءْ
لكُمْ ما لكُمْ... ولكُمْ ما لَنَا من هواءٍ وماءْ
لَنا ما لنا منْ حَصًى... ولكم ما لكمْ منْ حَديدْ
الخطبة، التي توجد منها عدة نسخ وما يزال هناك نقاش بين الباحثين حول مدى موثوقيتها ودقة ما جاء فيها، تضم مجموعة من الوصايا غاية في الحكمة، ولا تخلو من السخرية والإدانة لجرائم الإنسان الأبيض وعالمه الحديث.
يوصيه بالطبيعة، والأرض، والأنهار، والطيور، والحيوانات، كما يوصيه بالموتى والإرث الحضاري: "إذا بعناك أرضنا، فأحبها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه.. أحبها كما يحبنا الله جميعًا".
ينتمي "سياتل" وشعبه إلى عالم قديم، يتحدث لغة الطبيعة، لعالم ما أحوج الإنسان المعاصر إليه؛ بالتأكيد لم تكن حياة السكان الأصليين مثالية، لكن من المؤكد أنها كانت أقل وحشية من حياتنا المعاصرة.
وفيما يلي ترجمة لمقاطع مختارة من الخطبة الأكثر شيوعًا للزعيم "سياتل"، الذي أُطلق اسمه على المدينة الأكبر في ولاية "واشنطن" بإقليم الشمال الغربي في أمريكا، تكريمًا له، كما صارت خطبته مانيفستو ووثيقة تاريخية لفلسفة ومنظور آخر للحياة.
"نعرف أن الرجل الأبيض لا يفهمنا، تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة، لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى. إنه لا يرى الأرض أختًا له، بل عدوًا يقهره ثم يمضي، ها هو يهجر قبر أبيه ولا يعبأ، يتركه وراء ظهره ولا يُفكر، إنه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ. هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية، وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلا سلعة تُسرق أو تُباع كالأغنام والخرز، إن جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها إلا صحراء".
وفي نهاية الخطبة الطويلة المنسوبة إلى "سياتل"، يوصي فيها الإنسان الأبيض بأن يُعامل الطبيعة والحيوانات برحمة، لأن ما يصيب الطبيعة سوف يصيب البشر: "سننظر في عرض شرائك بلادنا، وسيكون لنا شرط واحد إذا قبلنا ببيعها: أن يعامل الرجل الأبيض حيوانات الأرض كما يعامل أخواته. لربما أنني متوحش ولا أفهم، لكني شاهدت ألف جاموس في البراري قتلها الرجل الأبيض من قطار عابر. لعلي متوحش ولا أفهم كيف أن هذا الحصان الحديدي المدخن أعظم في عينيه من الجاموس، الذي لا نقتله إلا لكي نبقى على قيد الحياة. ما الإنسان دون هذه الحيوانات؟ إذا انقرضت، فسوف يموت من توحش روحه. ما يصيب الحيوانات سرعان ما يصيب البشر".