عمال مصر إلى قاع الفجوة الطبقية.. وخبراء: لا تماسك داخلي بغير استقرار مجتمعي

في وقت تشهد مصر أزمة عمالية متفاقمة تتجلى في ضغوط اقتصادية وسياسية خانقة أثرت بشكل مباشر على حياة ملايين العمال والعاملات، في ظل سياسات اقتصادية متشددة وتحولات تشريعية أثارت الجدل في الأوساط النقابية والسياسية، أصدرت دار الخدمات النقابية والعمالية تقريرها السنوي عن حالة الحريات النقابية في العام 2024، تحت عنوان "عمال في دوامة الأزمة"، والذي طرح -إلى جانب رصده لأوضاع العمالة المصرية- تساؤلات جادة حول مدى كفاية الحماية الاجتماعية، وفعالية السياسات الاقتصادية الراهنة في مواجهة التحديات المتزايدة.

يستعرض التقرير بدقة الأبعاد المتعددة للأزمة؛ من القيود المفروضة على تشكيل نقابات مستقلة، مرورًا بانتقادات حادة لمنظومة الضرائب التي تزيد من معاناة الفئات الضعيفة، إلى مطالب تعزيز الحوار الاجتماعي والاعتماد على مفاوضة جماعية تضمن حقوق العمال في ظل تخفيض نصيبهم من الدخل القومي.

هل نحتاج لقانون عمل جديد؟

متناولًا المراحل السياسية المختلفة التي شهدتها مصر خلال القرن الحادي والعشرين وتأثيرها على علاقات العمل في مصر، أوضح السياسي والأكاديمي البارز أحمد البرعي، وزير العمل الأسبق ورئيس قسم التشريعات الاجتماعية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، كيف تحول سوق العمل من كونه مغلقًا إلى مفتوح، مع مرور المراحل التي تميزت بسياسات ملكية وشبه اشتراكية وانفتاح اقتصادي، مشيرًا إلى أن التشريعات الاجتماعية خلال هذه الفترات لم تواكب قط السياسات الاقتصادية المتغيرة.

اقرأ أيضًا: صلاح الأنصاري يكشف تاريخ الإضعاف المتعمد لعمال مصر (حوار)

يشدد البرعي، في سياق عودة مشروع قانون العمل الجديد إلى دائرة النقاش في مجلس النواب، أن الوقت الراهن غير ملائم لإدخال تغييرات جذرية في القوانين الاقتصادية، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الدولة. بينما اعتبر أن الأولوية تكمن في تفعيل الجزء الثاني من قانون العمل رقم 12، الخاص بعلاقات العمل الجماعية، وتعزيز النشاط النقابي.

وينتقد قرار المجلس الأعلى للأجور بتحميل العمال حصة التأمينات بدلًا من صاحب العمل، موضحًا أن هذا الإجراء قد يحرم العمال من الحصول على الحد الأدنى للأجور الذي أعلنت عنه الحكومة في مايو من العام الماضي ويبلغ 6000 جنيه.

أحمد البرعي - خاص فكر تاني
أحمد البرعي - خاص فكر تاني

ويرجع البرعي تعقيدات العديد من علاقات العمل إلى غياب المفاوضة الجماعية الحقيقية بين أصحاب العمل والعمال، مؤكدًا أن كلا الطرفين يمثلان مصالح مباشرة في الحفاظ على المشروع الاقتصادي الوطني.

كما يشير إلى تحول مطالب العمال من التركيز على تحسين الأجر وشروط العمل إلى تأمين الأمان الوظيفي وخلق فرص عمل جديدة وسط ارتفاع معدلات البطالة وظروف اقتصادية خانقة.

ومحذرًا من استخدام أساليب القمع والسجن في مواجهة الإضرابات العمالية، يلفت البرعي إلى فترات سابقة كان يُسمح فيها للعمال بالتعبير عن مطالبهم عبر الإضراب والاحتجاج. فيما يدعو إلى اتباع نهج مختلف وحكيم لتلافي تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

ويعود ليشدد على ضرورة تماسك الجبهة الداخلية لمواجهة المخاطر الخارجية، والذي لا يرى سبيلًا له أهم من تحقيق الاستقرار المجتمعي والانفتاح على الحوار والتعاون بين كل الأطراف.

في ظل الدعوات المتكررة لإصلاحات تشريعية عاجلة، يبرز التقرير ضرورة إيجاد حلول واقعية تحمي حقوق العمال وتضمن استمرارية النشاط النقابي، بما يواجه تحديات اقتصادية وسياسية معقدة تتطلب تماسك الجبهة الداخلية وتضافر الجهود لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

كم يُقدر نصيب العمال من الدخل القومي؟

يتطرق الباحث الاقتصادي والكاتب الصحفي وائل جمال، مدير وحدة العدالة الاجتماعية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إلى غياب البيانات في المجالين الاقتصادي والعمالي، وما يمثله هذ الأمر من تحد كبير أمام رسم صورة متكاملة للوضع العمالي في مصر، لا سيما فيما يتعلق بظروف العمل.

ويشرح جمال أن تقرير "عمال في دوامة الأزمة" يسعى لتجاوز هذه العقبة من خلال اعتماد منهجية قائمة على دراسة الحالات المتكررة، بما يضمن حدًا أدنى من المنطق في التحليل.

وبينما ينتقد السياسات الاقتصادية لفترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك والتي أدت إلى تفاقهم أوضاع العمال في مصر، يؤكد جمال أن السياسات الاقتصادية الحالية أقسى لأنها ليست فقط امتدادًا لسياسات الماضي وإنما بتركيزٍ أكثر كثافة وعنفًا، يزيد من الضغوط على الفئات الأكثر ضعفًا ويُعمق الفوارق الطبقية.

ويُشير جمال إلى انخفاض نصيب العمال من الدخل القومي والناتج المحلي وفق الإحصاءات الرسمية؛ إذ لا يتغير معدل النمو بشكل ملحوظ، بينما تنخفض الأجور مقارنةً بالناتج المحلي. ويدلل على ذلك بتقديرات البنك الدولي، التي تُظهر كيف كان نصيب الأجور من الناتج المحلي يقارب 40% في التسعينيات، وأصبح اليوم لا يتجاوز 25%، وقد تراجع نصيب العامل من الدخل القومي من 46% إلى 31%.

وائل جمال متحدثًا - خاص فكر تاني
وائل جمال متحدثًا - خاص فكر تاني

ويُضيف جمال أن نصيب العامل يذهب أرباحًا للشركات، لما يصل لـ 50%، إلى جانب زيادة ما يسمى بالفوائد المصرفية بأنواعها، بحيث يستفيد ليس فقط قطاع المصارف بل وأيضًا أصحاب المدخرات الكبيرة ورجال الأعمال الأكثر ثراءً، مما يجعل من حيازة الثروة والملكية المصدر الأساسي لتوليد الدخل على حساب العمل.

كذلك، يُلفت مدير وحدة العدالة الاجتماعية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إلى وجود تباين صارخ في معدلات الأجور؛ إذ تسيطر فئة قليلة على الحصة الأكبر من الدخل بينما يحصل الغالبية على فتات الأجر، مما يعمق اللامساواة حتى بين العاملين بأجر. ويُشير إلى أن نصف العاملين في مصر تشهد أجورهم انخفاضًا من 17.5 جنيهًا في الساعة إلى 16 جنيهًا، في حين يجب أن يكون الأجر المناسب للساعة وفقًا للحد الأدنى المقرر البالغ 6000 جنيه هو 27 جنيهًا، ما يعني أن هؤلاء يتقاضون أقل من نصف قيمة الحد الأدنى.

ويُوضح جمال أن قوة العمل في مصر تُشكّل 43% من إجمالي السكان في سن العمل، إلا أن فرص العمل المتاحة غير متوازنة وتتركز في قطاعي الخدمات والجملة والتجزئة، حيث تسود الأجور الضعيفة وظروف العمل المتردية التي لا توفر فرصًا كافية للتطوير أو تحسين الدخل.

كما ينتقد منظومة الضرائب في مصر التي يتهمها بتعزيز الفجوة الطبقية عبر تحميل العبء الأكبر على الفقراء، بما يتعارض مع الوظيفة الأساسية للضرائب في تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ يشوه النظام الضريبي المبادئ الاقتصادية السليمة بفرض أعباء إضافية على ذوي الدخل المحدود بينما يتفادى الأغنياء دفع حصتهم العادلة، على حد قوله.

يرصد التقرير تراجع مستوى الحماية الاجتماعية، والدعم، ما أثر على مستوى معيشة الناس، وحتى اختياراتهم الغذائية، إلى حد وصول حد الجوع إلى 8.5% أي ما يوازي 9 ملايين مواطن مصري، غير قادرين على الإنفاق على الطعام والشراب فقط.

"الانقضاض" مستمر

كمال عباس متحدثًا في الندوة - خاص فكر تاني
كمال عباس متحدثًا في الندوة - خاص فكر تاني

يصف كمال عباس، المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية، الوضع بالمعقد ويشيد بما يسميه "الصمود العمالي" في مواجهة بيئات عمل يعانون فيها من ضغوط اقتصادية وسياسية، ومن محاولات انقضاض لا تنتهي على نشاط النقابات المستقلة، متهمًا وزارة العمل بالتعنت في تأسيس نقابات جديدة خلال السنوات الماضية، وهو أمر يراه يسهم في مزيدًا من تأزيم الوضع.

لكنه، يعود ليؤكد على ضرورة وحدة الحركة النقابية والعمالية، داعيًا الجميع إلى دعم النقابات المستقلة ومساندة مطالب العمال المشروعة، حيث يرى أنه لا يمكن مواجهة الهجوم المتواصل على الحركة العمالية بدون قوة النقابات.

أسماء زيدان - خاص فكر تاني
أسماء زيدان - خاص فكر تاني

وتشرح أسماء زيدان، الباحثة الرئيسية في التقرير، مصطلح "الدوامة" في عنوان التقرير، فتقول إنه جاء ليعكس تمسك الحكومة بسياسات قديمة لا تقدم جديدًا، في حين تدفع العمال للدوران في حلقة مفرغة تشمل التقشف وتحرير سعر الصرف، رغم ما يظهره الواقع من فشل تلك السياسات، بل ويجعلها سببًا في الأزمة بدلًا من أن تكون حلًا.

 

التقرير يركز على منطقتين رئيسيتين؛ الأولى تطرح سؤالًا حول ما إذا كان الحد الأدنى للأجر يكفي في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والثانية تتبع مستوى الحريات النقابية والعمالية على مدار العام، بهدف ضمان حصول العمال على كل حقوقهم والنجاة من تداعيات الأزمة الاقتصادية الراهنة.

التوزيغ الجغرافي للاحتجاجات يكشف الكارثة

محذرًا من أن الأجور المُدرجة في الموازنة لا تعكس كل فئات العمال في مصر، طالب الباحث في الشأن الاقتصادي نائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، إلهامي الميرغني، بإدراج خريطة للاحتجاجات العمالية في تقرير دار الخدمات النقابية والعمالية، مع توضيح توزيعها الجغرافي والقطاعات المعنية.

اقرأ أيضًا: ما الذي تغير بإضرابات العمال في 2025؟

هذا التوزيع الجغرافي اتفق على ضرورته أيضًا الكاتب الصحفي المتخصص في الشأن العمالي والنقابي، هشام فؤاد، موضحًا أنه سيكشف مزيدًا من عمق الأزمة وتفاوتها بين المناطق المختلفة. وقد طالب القيادي العمالي جمال عثمان بإضافة عمال قطاع الأعمال إلى شرائح التقرير.

وإلى جانب الخبراء، شارك عدد من القيادات العمالية والنقابية من مواقع عدة؛ مثل عمال غزل المحلة وعمال الشوربجي للغزل والنسيج، وعدد من الصيادين بمحافظة دمياط، إضافة إلى بعض النقابات التي تتعرض للانتهاكات خلال الفترة الماضية، ومنها اللجنة النقابية لأندية هيئة قناة السويس واللجنة النقابية بمصنع الشوربجي للغزل والنسيج.

جانب من الحضور، وفي الصورة النقابي والصحفي المتخصص في الشأن العمالي هشام فؤاد - خاص فكر تاني
جانب من الحضور، وفي الصورة النقابي والصحفي المتخصص في الشأن العمالي هشام فؤاد - خاص فكر تاني

وفي مداخلته، تحدث النقابي كرم عبد الحليم، نائب رئيس اتحاد تضامن العمالي، عن حملة تشنها وزارة العمل بشكل غير قانوني ضد نقابة العاملين بأندية قناة السويس - العضو في اتحاد تضامن النقابات العمالية - من خلال قرار وزير العمل والمسؤولين بأندية قناة السويس الصادر في فبراير 2024 بوقف توريد اشتراكات النقابة المخصومة من العاملين.

وأوضح كرم عبد الحليم أن هذا الإجراء يعيق استمرار عمل النقابة في ظل محاولة لتصفية نشاطها، مما يُعد تعديًا على سلطة جمعيتها العمومية وسلبًا لحق عمال أندية قناة السويس في التنظيم واختيار ممثليهم، بما يخالف الدستور وقانون المنظمات النقابية رقم 213 لسنة 2017 والاتفاقيات الدولية الموقعة من قبل مصر، لا سيما الاتفاقية رقم 98 لسنة 1949 الخاصة بحق التنظيم والمفاوضة الجماعية، والاتفاقية رقم 87 لسنة 1948 الخاصة بالحرية النقابية.

كما ثّمن عبد الرؤوف حسين، نائب رئيس النقابة العامة للعاملين بالإسعاف، تضمين العمال المحبوسين في التقرير، مؤكداً وقوف النقابة العامة للإسعاف إلى جانب أسرة العامل سامح زكريا وبذل الجهود الممكنة للإفراج عنه، داعيًا إلى انفراجة في مستوى الحريات النقابية التي شابتها العديد من الانتهاكات والتعسف على مدار السنوات الأخيرة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة