في عالمنا الرقمي المتسارع لم تعد المعرفة رفاهية، بل أصبحت حقًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه. ومع ذلك، ما يزال ملايين الأشخاص من ذوي الإعاقة يواجهون تحديات كبيرة في الوصول إلى مصادر التعلم والثقافة، ما يعيق اندماجهم الكامل في المجتمع.
ومع تطور التكنولوجيا تظهر حلول مبتكرة لإعادة تشكيل المشهد، حتى يمكن تطبيق مبدأ العدالة الثقافية.
تقدر وزارة التضامن الاجتماعي عدد ذوي الإعاقة في مصر بنحو 10 ملايين مواطن بينهم 1.2 مليون لديهم بطاقة الخدمات المتكاملة (ديسمبر 2024)
من بين هذه الحلول، تبرز تقنية "ديزي" للكتب الناطقة، التي تمثل طفرة في عالم النشر الرقمي، حيث توفر لذوي الإعاقة البصرية والقرائية إمكانية التنقل بين النصوص والفصول بسلاسة، ما يمنحهم استقلالية أكبر في التعلم والاستفادة من المحتوى العلمي والثقافي.
هذه التقنية كانت محور ندوة خاصة بقاعة المؤسسات، ضمن فعاليات معرض الكتاب في دورته الـ 56، حيث اجتمع خبراء ومتخصصون في مجالات الإعاقة والتكنولوجيا والملكية الفكرية والنشر، إلى جانب حضور مكثف من ذوي الإعاقة وأسرهم، لمناقشة آفاق تطبيق هذه التقنية في العالم العربي.
لم يكن الهدف من الندوة مجرد استعراض تقني، بل سعى المشاركون إلى طرح رؤية شاملة لكيفية توظيف التكنولوجيا في خدمة ذوي الإعاقة، ومناقشة التحديات القانونية والتقنية التي تواجه انتشار هذه الحلول.
كما شهدت الفعالية عرضًا لتجارب شبابية مبتكرة، ومبادرات أكاديمية تسعى إلى دمج التقنية في العملية التعليمية، بما يفتح آفاقًا جديدة نحو مستقبل أكثر إتاحة وإنصافًا للجميع.
فكيف يمكن أن تسهم هذه التقنية في تغيير حياة الآلاف؟ وما هو دور المؤسسات الثقافية والتشريعية في تعزيز وصول المعرفة إلى الجميع دون استثناء؟
"ديزي".. خطوة نحو المعرفة بلا عوائق
قالت الدكتورة ياسمين يوسف عضو المجلس القومي لشؤون الإعاقة والمتخصصة في نشر الكتب بصيغة "ديزي"، في بداية مداخلتها، أن هذه التقنية ليست مجرد وسيلة مساعدة، بل خطوة نحو تحقيق الاستقلالية لذوي الإعاقة، خاصة المكفوفين وضعاف البصر، حيث توفر لهم كتبًا مسموعة ومرنة، تتيح التنقل بين الفصول والصفحات بسهولة، مما يعزز فرصهم في التعلم والوصول إلى المعلومات دون عوائق.
كما أوضحت الدكتورة ياسمين أن تقنية ديزي، تعد من أهم الصيغ المبتكرة التي تسهّل القراءة لذوي الإعاقة، مشيرة إلى أهمية هذه التقنية في الوقت الراهن هي ضمان إيصال المعلومات إليهم بكفاءة، وتطرّقت إلى اتفاقية مراكش التي تهدف إلى إتاحة الكتب للمكفوفين، والتي طُبّقت في عدة دول عربية لكنها لم تُصدَّق بعد في مصر.
وأشارت ياسمين يوسف إلى جهود المجلس القومي لشؤون الإعاقة في إدخال هذه التقنية إلى مصر، مؤكدة أن الفريق القائم على المشروع تلقى تدريبًا في اليابان لاكتساب الخبرة في تطبيق هذه التكنولوجيا محليًا.

اقرأ أيضًا:معرض الكتاب الـ 56.. "الأفرو سنتريك" جدل الهوية وإعادة قراءة التاريخ
المعرفة أقرب من أي وقت مضى
وحين لم تكن الندوة مجرد نقاشًا نظريًا، بل كانت دعوة عملية لتعزيز إمكانات القراءة لدى ذوي الإعاقة، شهدت الفعالية حضورًا كثيفًا من ذوي الإعاقة وأهاليهم، الذين حرصوا على التعرف عن قرب على هذه التقنية.
من جانبه، أوضح الدكتور مينا عبد الرؤوف رمزي، رئيس الإدارة المركزية لدار الكتب والوثائق القومية، في مداخلته، أن المؤسسة تعمل على توسيع نطاق إتاحة المواد المقروءة والمسموعة لذوي الإعاقة، مع تخصيص قاعات مجهزة لهم، مؤكدًا أن الثقافة ليست حكرًا على أحد، كما شدد على أهمية التعاون بين الجهات المعنية لإطلاق مبادرات جديدة تساهم في إزالة العوائق أمام ذوي الإعاقة.
وفي حديثه لـ فكر تاني، أكد الدكتور مينا رمزي أن تكاتف مؤسسات الدولة لإتاحة الكتب بصيغة "ديزي" يعد خطوة محورية.
وأشار إلى أن هناك تعاون بين مكتبة الإسكندرية ووزارة الاتصالات المصرية ودار الكتب في تنفيذ مشروع يهدف إلى تعميم استخدام "ديزي" للكتب الناطقة، والتي على حسب قوله "توفر مصادر المعلومات لذوي الإعاقة".
وأضاف الدكتور مينا رمزي، أن دار الكتب بالفعل قامت بتدريب مجموعة كبيرة من موظفيها لإنتاج كتب بهذه الصيغة عمليًا، بما يسمح بإجراء تقييم مباشر للتجربة، تمهيدًا لتوسيع نطاق استخدامها على مستوى أكبر.
المعرفة حق أساسي للجميع، ويمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة قوية لتحقيق العدالة الثقافية، ومثل هذه المبادرات بحاجة إلى دعم مستمر لضمان استدامتها وانتشارها، بما يضمن تحقيق أقصى استفادة ممكنة منها في خدمة ذوي الإعاقة والمجتمع ككل.
التوازن بين حقوق الملكية الفكرية وإتاحة المعرفة
وفيما سلّطت هذه الندوة الضوء على أن المعرفة حق للجميع، وأن التكنولوجيا يمكن أن تكون جسرًا يعبر به ذوو الإعاقة إلى عالم أوسع من الفرص والتعلم، يبقى التحدي الأكبر هو ترسيخ هذه المبادرات وتوسيع نطاقها، لضمان أن لا يُحرم أحد من فرصة الوصول إلى المعرفة بسبب أي عائق جسدي أو تقني، بالإضافة إلى ضمان حقوق الملكية الفكرية.

في هذا السياق، أكد الدكتور أحمد سعيد، المتخصص في شؤون الملكية الفكرية، على أهمية تحقيق توازن دقيق بين تسهيل وصول ذوي الإعاقة إلى المعرفة وحماية حقوق المؤلفين والناشرين.
"هناك بالطبع حلولًا قانونية يمكن اعتمادها لضمان حق الجميع في الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، دون الإضرار بحقوق النشر والملكية الفكرية".
اقرأ أيضًا:معرض الكتاب الـ 56.. "ثلاث نساء في غرفة ضيقة" السرد مساحة للتحرر
وفي تصريح خاص لـ فكّر تاني، قال الدكتور أحمد السعيد أن الملكية الفكرية تهدف في جوهرها إلى خدمة المجتمع، سواء بطريقة غير مباشرة عبر تحفيز المؤلفين على الإبداع والابتكار، أو من خلال التنظيم القانوني للمصنفات التي تنتهي مدة حمايتها، أو عبر الاستثناءات القانونية التي تسمح باستخدام المصنفات لخدمة الفئات الخاصة، مثل ذوي الإعاقة.
كما أكد السعيد أن التحول الرقمي يمثل ثورة في مجال المعرفة، مشيرًا إلى أن تطوير كتب إلكترونية ورقمية مخصصة لذوي الإعاقة لا يخدم هذه الفئة وحدها، بل يعود بالنفع على المجتمع ككل، من خلال توفير محتوى تعليمي وثقافي أكثر شمولًا وسهولة في الوصول.
شكلت منصة العرض أثناء الندوة نماذج عملية تعكس إمكانيات التكنولوجيا في إثراء تجربة التعلم لذوي الإعاقة، فقد قدمت نور السيد ومنة وائل، وهما طالبتان بكلية الآداب جامعة القاهرة، مشروع تخرجهما، الذي يهدف إلى إعادة تقديم المحتوى التعليمي الجامعي للطلاب المكفوفين بطريقة تفاعلية تعتمد على تقنية "ديزي" بحيث لا يقتصر استخدامها على قراءة النصوص فقط، بل توفر تجربة تعليمية متكاملة تجعل التعلم أكثر سلاسة وتفاعلية.
دور النشر.. شريك أساسي في التغيير
ومن جانبه، أكد الدكتور عاطف عبيد، استشاري تنظيم المعرفة وصاحب دار نشر بتانة أثناء مداخلته، أن دعم مثل هذه المشاريع لا يجب أن يكون مسؤولية المؤسسات الحكومية وحدها، بل ينبغي أن يصبح توجهًا عامًا لدور النشر والمؤلفين، لضمان إنتاج كتب بصيغ متعددة تناسب جميع الفئات.
وأشار إلى أن التجارب الدولية، مثل التجربة اليابانية، أثبتت نجاح تطبيق تقنية "ديزي" في توفير محتوى تعليمي وثقافي متاح لذوي الهمم، وهو ما يعزز ضرورة الاستفادة من هذه التجارب العالمية.
وفي تعليقه على "ديزي" أكد الدكتور عاطف عبيد لـ فكّر تاني، أنها تقنية يجب أن تفرض نفسها على المجتمع الثقافي في الوقت الحالي، كونها تمثل حلًا تقنيًا وتكنولوجيًا متميزًا، يحتاج إلى إطار تشريعي وثقافي وتسويقي لتحويله إلى صناعة قائمة بذاتها.
وأضاف أن توفير الكتب بصيغة "ديزي" لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة ملحّة، خاصة في ظل التقدم التكنولوجي الكبير، مشددًا على أن مواجهة العوائق أمام ذوي الإعاقة تتطلب تكاتف الجهود بين المؤسسات الثقافية والتشريعية والتقنية.
وأضاف أن وزارة الثقافة، واتحاد الناشرين، والمجلس الأعلى لذوي الإعاقة هم الجهات المعنية بإرساء الأسس لنشر تقنية "ديزي"، ولهم الدور الأبرز في تحفيز دور النشر على تبني هذه الصيغة، بما يحقق نقلة نوعية في مجال النشر الرقمي.