خلفية المشهد السوري.. طبيعة السلطة تحدد أشكال معارضتها

تقوم نظم الحكم في البلاد الحديثة، باختيار الشكل الذي ستتواجد عليه السلطة الحاكمة في الدولة، والذي ستدير من خلاله شؤون البلاد، ذلك أنها تختار القواعد الحاكمة والمنظمة للعملية السياسية بها وأشكال تواجد أطرافها، بما في ذلك الطريقة التي ستجري بها معارضة النظام من داخله.

ومهما كان شكل وطبيعة نظام الحكم فإن الأساليب والأدوات التي تستخدمها جميع أطراف العملية السياسية، وفي القلب منها المعارضة، يحددها دائما الطريقة والكيفية التي تدير بها السلطة الحاكمة أمور الدولة.

أخذت أغلب دول العالم في العصر الحديث بالنظام التعددي التمثيلي من خلال الأحزاب كأشكال لذلك التمثيل، سواءً كان نظامها ملكيًا برلمانيًا مثل بريطانيا أو ملكيًا دستوريًا مثل المغرب أو جمهوريًا سواء كان رئاسيًا أو برلمانيًا أو مختلطًا، مع استبعاد عدد محدود من دول الملكيات المطلقة مثل السعودية والڤاتيكان ونظم الحكم الشمولية الصريحة أو ما يسمي بنظام الحزب الواحد مثل كوريا الشمالية والصين.

لقد هزم الاستبداد والقمع والفساد وتسلط النظام السوري الذي حكم البلاد لأكثر من 50 عامًا، سوريا قبل أن تهزمها المؤامرات والأطماع الصهيونية والتركية وغيرهم من المتآمرين.  فهل من عاقلون يتأملون ويستوعبون الدروس ؟

هذا ويلاحظ التباين الواسع في درجة تعبير الديموقراطية التمثيلية عن إرادة الشعوب من بلد الي آخر، حسب مدي تجذر مفهوم الديموقراطية ورسوخه على الأرض، وقدرة الشعوب على تمثل المفهوم، وكذلك مدي صلابة أو هشاشة مؤسسات الدولة الديموقراطية من مجالس نيابية ومؤسسات قضائية وأجهزة أمنية تعمل على إنفاذ القانون في البلد وتطبيق أحكام سلطته القضائية، كذلك مدي تحقق مبدأ الفصل بين السلطات واستقلاليتها، وتفرغ قواتها المسلحة للقيام بمهام الدفاع عن الوطن، والأهم مساحة الحرية التي يتمتع بها المواطنون والقدرة على التعبير عن آرائهم بدون قيود من خلال أجهزة وأدوات إعلامية متاحة للجميع.

الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس القيادة السورية الجديدة أحمد الشرع (وكالات)
الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس القيادة السورية الجديدة أحمد الشرع (وكالات)

إن مستوي تحقق تلك الشروط هو ما يحدد نوعية الحياة السياسية في هذا البلد أو ذاك، والذي يمكن أن ينعكس ونراه في مساحة المشاركة من قبل الشعوب ومستوي انخراطها في الشأن العام، الأمر الذي ينعكس في النهاية في العمليات الانتخابية المختلفة التي تجري فيها المنافسة بين الأحزاب والكتل السياسية المتنافسة علي السلطة لتنفيذ سياساتها ورؤاها من خلال التربع على قمة السلطة، وحيث تقوم الأحزاب التي لم تفز في الانتخابات بمعارضة سياسات الأحزاب الفائزة من خلال استخدام الادوات التي يتيحها النظام الديموقراطي في البلاد.

إن هذه العملية لا يجري تطبيقها في الواقع بتلك الصورة المثالية التي نتناولها بالحديث، حيث توجد في كثير من الاحيان نظم حكم لا يتعدي مفهوم الديموقراطية لديها حدود الشكل المطلوب لمواكبة التطور الحادث في مفهوم الدولة الحديثة والذي لا يمكنها الانفصال عنه، دون أي تغيير في جوهر التخلف والاستبداد والتسلط الذي جُلِبت عليه ومارسته وتوارثته جيلاً بعد جيل، ومع ذلك فإن مستوي تحقق وتطور العملية الديموقراطية يختلف من بلد الي آخر حسب درجة توافر ونمو شروط العمل الديموقراطي في هذا البلد أو ذاك.

وفي حال عدم توافر بعض من هذه الشروط تتبدي أساليب وأدوات أخري تستخدمها الشعوب والمعارضة المعبرة عنهم حسب درجات ومستويات الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الحاكمة لشروط وقواعد العملية السياسية، بعضها أساليب وأدوات سياسية متدرجة في حدتها، من التظاهرات إلي الاحتجاجات والاعتصامات وصولًا الي نقطة تحول يحدث عندها الانتقال من السياسة الي العنف وهو ما يحمل أيضًا درجات ومستويات متعددة.

لقد تركت سوريا مفتوحة الأبواب على مصراعيها سواء لعودة السوريين الذين تركوا البلاد قسراً، أو للأطراف المعادية الصريحة والمتخفية داخل وخلف الميلشيات المسلحة العائدة والتي اقتنصت السلطة دون أدني مقاومة، بل وبترحيب شعبي حتي الآن.

ويلاحظ دائمًا أن مستوي وطبيعة المعارضة يحدده أداء السلطة الحاكمة ويأتي تدرجه، بل وتحوله من السياسة الي العنف وفقاً لحجم ونوعية وطبيعة الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الحاكمة في كل بلد علي حدا.

إن ما جري في سوريا في الأسابيع القليلة الماضية والذي يروق للبعض أن يراه في سياق المؤامرة الكبري ويروجون لفكرة أن سقوط النظام السوري ما هو إلا تنفيذ لمخطط محكم أعدته اسرائيل وقامت بتنفيذه الميلشيات المسلحة التي قام بتدريبها وتسليحها ورعايتها النظام التركي والولايات المتحدة واسرائيل وأطراف أخرى، بعضها عربي وبعضها من غير العرب، هو خير شاهد على التعامي التام عن حقيقة المشهد الواضحة لكل ذي عينين، بل أراه تزييفًا للواقع وتضليلًا للشعوب وابعادها عن فهم الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى انهيار النظم وتصل إلى حد ذلك السقوط المروع للدولة بجميع مؤسساتها وأركانها دون أدني مقاومة.

إن التحليلات تحتمل دائما الصواب والخطأ، وذلك بقدر توافر المعلومات ورؤية من يقوم بتحليلها وانحيازاته المسبقة، وكذلك الاعتبارات الأيديولوجية وغيرها من عوامل تؤثر على من يقومون بها وبالتالي على النتائج التي يستخلصونها من تلك التحليلات، أما الحقائق فلا جدال فيها.

إن كلامي هذا لا ينفي وجود المؤامرة ولكن المؤامرات لا تعمل وحدها ولا يمكن تنفيذها دون توافر الشروط لها، وما فعله نظام البعث بقيادة الأسد الأب والأبن على مدى 50 عامًا بسوريا  هو توفير المناخ بل قل تمهيد الطريق لقيام المتآمرين بتنفيذ مخططهم بسهولة غير متوقعة وبكلفة أقل بكثير  من خوض الحروب

حقيقة المشهد السوري عشية السقوط :

• بلغ عدد سكان سوريا حتي بدايات شهر نوفمبر 2024 حوالي 26 مليون نسمة، منهم طبقاً للاحصائيات 13 مليون نازح، داخلياً وخارجياً ( أي 50 ٪؜ ) من السكان، و6.7 مليون لاجئ، وحوالي 900 ألف بين قتيل ومختفي (طبقاً للاحصائيات الدولية المعتمدة).

• نظام حكم قمعي استبدادي يحكم البلاد، بقبضة أجهزة أمنية طائفية الطابع، تحمي السلطة، وتزج بمئات الآلاف من المواطنين السوريين، في غياهب السجون لمجرد الشك في عدم ولائهم للنظام الحاكم.

قوة لفاغنر في سوريا (أرشيفية - وكالات)
قوة لفاغنر في سوريا (أرشيفية - وكالات)

• شعب مستبعد بالكامل عن المشاركة في الشأن العام وغير مسموح له سوى بتأييد السلطة الحاكمة وإعلان الولاء لها علي طول الخط.

• غياب كامل لكافة مظاهر الحياة السياسية وللأحزاب ولجميع المؤسسات المدنية والديموقراطية، الأمر الذي خلف فراغ سياسي شامل في البلاد.

• قوات مسلحة لم تطلق رصاصة واحدة في مواجهة العدو الصهيوني منذ نهاية حرب 1973 ، في الوقت الذي شاركت فيه في قتل عشرات الآلاف من المواطنين السوريين.

• وجود عسكري علي أراضيها لخمس دول علي الأقل وهم ايران، روسيا، أمريكا، تركيا، بالاضافة الي ميلشيات حزب الله اللبناني وعدد آخر من الميلشيات العسكرية لتنظيمات وقوي متطرفة من جميع الأشكال بعضها يحمل الجنسية السورية والبعض الآخر متعدد الجنسيات لا يجمعهم سوي الانتماء العقائدي المتطرف والعمل لحساب أطراف خارجية.

• دولة احتلال عنصرية متربصة، تحتل جزءًا عزيزًا من الأراضي السورية منذ العام ١٩٧٣ حتي الآن، وتترقب سقوط النظام وانهيار الدولة لاعادة ترتيب المنطقة، وفقاً لأغراضها التوسعية، ولإحكام هيمنتها علي المنطقة بالكامل.

هذه هي حقيقة المشهد السوري، ما قبل لحظة انقضاض الفصائل المسلحة على السلطة، والفرار المخزي للطغمة الحاكمة بدءاً من رأس النظام حتي آخر عسكري من رجاله وآخر رجل أمن فيه.

بشار الأسد (أرشيفية - وكالات)
بشار الأسد (أرشيفية - وكالات)

لقد تركت سوريا مفتوحة الأبواب، على مصراعيها سواء لعودة السوريين الذين تركوا البلاد قسراً، أو للأطراف المعادية الصريحة والمتخفية داخل وخلف الميلشيات المسلحة العائدة والتي اقتنصت السلطة دون أدني مقاومة، بل وبترحيب شعبي حتى الآن.

إن كلامي هذا لا ينفي وجود المؤامرة ولكن المؤامرات لا تعمل وحدها ولا يمكن تنفيذها دون توافر الشروط لها، وما فعله نظام البعث بقيادة الأسد الأب والأبن علي مدي 50 عامًا بسوريا، هو توفير المناخ بل قل تمهيد الطريق لقيام المتآمرين بتنفيذ مخططهم بسهولة غير متوقعة وبكلفة أقل بكثير  من خوض الحروب.

لقد هزم الاستبداد والقمع والفساد وتسلط النظام السوري الذي حكم البلاد لأكثر من ٥٠ عاما، سوريا قبل أن تهزمها المؤامرات والأطماع الصهيونية والتركية وغيرهم من المتآمرين.

فهل من عاقلون يتأملون ويستوعبون الدروس؟

----

*كاتب ومحلل سياسي

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة