بالألوان تتحول الصدمات إلى قصص مفعمة بالأمل، وتصبح وسيلة لإعادة بناء النفوس المحطمة، حين يبدأ الضحايا رحلتهم للتحرر من قيود الماضي، محاولين استعادة التوازن في حياتهم، يجدون أصواتهم ويتعلمون النطق من جديد، ويعيدون تعريف ذواتهم بعد أن هزمتهم الأزمات النفسية.
"لا أحد يعلم كيف يمر ليلي عليّ، أشعر بأن الهم يخنقني ولا أستطيع العيش، عشت ما يقرب من عامين لا أرى شبح ابتسامة على وجهي، يجب عليّ التخلص من هذا الألم بمفردي ما دام لن يساعدني أحد.. وجهت أميرة هذه الكلمات لنفسها صباح كل يوم، تُمني نفسها بالتخلص من الألم وعيش حياة سوية عبر طريق تجهل تفاصيله ولا تعلم هل تنجح فيه أم لا.
بين صمت يعم النفوس وخوف يحاصر الأرواح، يترك الاستغلال النفسي ندوبًا عميقة يصعب شفاؤها، تثقل هذه الأعباء من لم يختاروها، لتتحول حكاياتهم إلى شهود صامتة على ممارسات قاسية، وفي مواجهة هذا الألم، يظهر الفن كأمل جديد، يعيد رسم ملامح الأمان.
العلاج بالفن هو استخدام الفنون المختلفة كالرسم، والتلوين، والغناء، الرقص، والأعمال اليدوية كوسيلة لتخفيف الضغوط النفسية وحل المشكلات، وقد لاقى هذا النوع من العلاج اهتمامًا متزايدًا في مصر مؤخرًا، حيث تقدمه العديد من المراكز النفسية المتخصصة في علاج الإدمان والمشكلات الأسرية.
ومع ذلك، في القرى والمجتمعات الريفية، ما زال الكثيرون يعتبرون الذهاب للطبيب النفسي وصمة عار، لكن أميرة إبراهيم، التي كافحت معاناتها النفسية منذ طفولتها، قررت مواجهة هذا التحدي بنفسها، رغم رفض والديها، واعتبارهم طلبها "دلع بنات"، قررت أميرة، ذات الـ 24 عامًا، السعي للحصول على المساعدة دون علمهم.
عاشت أميرة حياة تبدو مستقرة ماديًا، إلا أن الوحدة داخل عائلتها، والمقارنة المستمرة مع أختها، سلبتها شعور الدفء العائلي، وثقتها بنفسها وبمن حولها، دفعتها تلك المشاعر إلى البحث عن مخرج، حتى وجدت أميرة نفسها في جلسات العلاج بالفن والسيكودراما، لكنها تعرضت لاستغلال من قبل مدعٍ بالعلاج، وكانت جلسات علاجها محمّلة بوعود كاذبة عن إعادة بناء الثقة بالنفس، لكنه كما أكدت لـ فكّر تاني، استغل جسدها وعاطفتها، ما زاد شعورها بالذنب والعار.
"بعد ثلاثة أعوام من هذا الاستغلال، قررت التوقف عن الجلسات وحاولت أرجع أحب نفسي، لكني فشلت!"، وأدى ذلك إلى دخولها في نوبة اكتئاب حادة، بلغت ذروتها بمحاولة انتحار فاشلة في عمر 23 عامًا.
"حينما عرف أهلي، صُدموا وقرروا أخيرًا البحث عن طبيب نفسي مختص، وجاء تشخيصي: اضطرابات حادة في الشخصية الحدية ونوبة اكتئاب شديدة".
رغم الألم الذي مرت به أميرة، إلا أن رحلتها تعكس حقيقة أعمق عن ضرورة الحماية النفسية، وخلق بيئة داعمة تساعد الأفراد على التعبير عن معاناتهم دون خوف أو استغلال، ويبقى الفن أداة قوية في مساعدة النفوس المحطمة، لكن المسؤولية تقع على عاتق المجتمع لضمان حماية حقيقية لمن يحتاجونها.
اقرأ أيضًا:الحروب والنزاعات.. تشوه البيئة وتُثقل كاهل النساء
كافحت أميرة ألمها النفسي لعشر سنوات، وقاومت لحظات انكسارها، شعرت بالوحدة بين عائلتها، وافتقدت لشعور الدفء، وضاعفت المقارنة المستمرة بينها وبين أختها من معاناتها، ومع كل انتقاد جديد يوجه لها تفقد جزءً من ثقتها بنفسها وثقتها بمن حولها والكثير جدًا من عافيتها وصحتها النفسية بشكلٍ جعلها تنظر لنفسها على أنها بلا قيمة".
السيكودراما، التي أسسها الطبيب النفسي الروماني جاكوب ليفي مورينو في أوائل القرن العشرين، تُعد نوعًا من العلاج النفسي يستخدم التمثيل الدرامي لمساعدة الأفراد على التعبير عن مشاعرهم وتجاربهم، وتُظهر دراسة عن Journal of Traumatic Stress، فعالية هذا النهج في معالجة الصدمات، حيث ساعد المشاركين على تخفيف الأعراض المرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة، بما في ذلك القلق والاكتئاب.
شروط نجاح العلاج بالفن والسيكودراما
توضح الدكتورة إيمان الزيات، اختصاصية العلاج بالفن، أن نجاح جلسات السيكودراما يعتمد على عدة عوامل، منها رغبة المريض في العلاج، ويتم تحويله من طبيب مختص، واتباع أسس محددة للجلسات.
"تبدأ الجلسات بمرحلة التعارف لكسر الحواجز، تليها مرحلة الإحماء باستخدام حركات جسدية أو موسيقى لتحفيز المشاعر، ومن ثم الدخول إلى جوهر الجلسة لتحقيق التنفيس الانفعالي".
وتشير إيمان أن فلسفة السيكودراما قائمة على التطهير الذي تحدث عنها أرسطو، ثم طوره علماء علم النفس إلى التنفيس الانفعالي، وهو ما تقوم عليه فكرة الجلسات، ويعد من أهم التجارب التي يمكن أن تطبق على أصحاب الآلام العظيمة والذين ليس لديهم رغبة عادةً في التحدث عنها مثل مرضى السرطان والمتعرضين للحوادث وغيره، مؤكدةً على ضرورة مراعاة الفروق الفردية في الجلسات، وهذه الجلسات تكون جماعية، ويمكن عمل جلسات فردية للأشخاص غير المؤهلين للجلسات الجماعية لتهيئتهم للالتحاق بها.
فيما تشير الدكتورة هند الأشعل، معالجة بالفن، إلى أهمية كفاءة المعالج في فهم الحالة النفسية للمريض وتوفير بيئة آمنة وفعّالة للتعافي، ومن المهم أن تتوافر معلومات كثيرة عن حالة المريض، وأن يكون المعالج دائم الإطلاع على كل جديد، كما يجب أن يكون لديه قدرًا كبيرًا من الحكمة في استخدام المعلومات بالشكل الذي يجعل المريض بحال أفضل، كذلك فهو بحاجة لصلابة نفسية تمكنه من اكتساب الوعي في التعامل مع مشاعره هو شخصيًا حتى لا يتأثر بحالات المرضى الآخرين ويجعل عملية العلاج صعبة.
تتلقى أميرة اليوم علاجها النفسي في مركز متخصص بمدينة شبين الكوم، ورغم كل ما واجهته، تتمسك بالأمل، مؤكدة رغبتها في حياة طبيعية مليئة بالأمل والسلام النفسي.
وتوضح هند الأشعل، أهمية استخدام الفنون المختلفة مثل الرسم والغناء والموسيقى والفنون التشكيلية في معالجة المشاعر المتألمة، مؤكدة أن هذه الوسائل تُعد أكثر فعالية من المواجهة المباشرة في بعض الحالات، وتشير إلى أن المسرح، بفضل تداخل الفنون فيه، يُعد من أقوى أدوات العلاج النفسي، حيث يساعد على التفريغ النفسي وتحقيق نتائج علاجية سريعة.
"العلاج بالفن مناسب في كل الأوقات ولكل الأعمار، ويمكن أن يمنع تفاقم الأمراض النفسية إذا اعتاد الإنسان على تفريغ مشاعره أولًا بأول من خلال الفن".
اقرأ أيضًا:آفة حارتنا.. هل تُغفَر جرائم الاعتداء الجنسي بالتناسي؟
الاستغلال النفسي وفقدان الأمل
إن هؤلاء الذين تعرضوا للاستغلال النفسي، ولم يستوعبوا حينها ما يتعرضون له، لا يتمكنون من ممارسة الحياة بشكل طبيعي.
"كان عليَّ دومًا أن أبرر لهم كل تصرفاتي، حتى طبيبي النفسي لم يمنعني يومًا من التبرير وهو ينتظر سببًا مقنعًا لما فعلته بدلًا من أن يدلني عليه"
تشكو سارة القليني -اسم مستعار- من طبيبها النفسي الذي وثقت به من أنه لم يهتم بمحاولة تعافيها، تتهمه أنه لم يكن صالحًا الحكي رغم أن له سمعة كبيرة وعيادة أكبر في شارع المديرية بطنطا.
سارة القليني، شابة تبلغ من العمر 27 عامًا، تمثل نموذجًا لمن وقعوا ضحايا للاستغلال النفسي تحت ستار العلاج، بدأت معاناتها بسلسلة من الفقدان المتتالي، فقدت والدها ووالدتها وجدتها وخطيبها خلال عامين فقط، ما أدخلها في حالة من الاكتئاب الشديد وفقدان القدرة على التواصل مع الآخرين.
وبعد تشجيع شقيقها، الذي يسكن خارج البلاد، بدأت رحلة العلاج النفسي في طنطا، مع طبيب "سُمعته كبيرة ومشهور" كما عبرت سارة لـ فكّر تاني، ورغم أملها الكبير بتحقيق الشفاء النفسي، وجدت نفسها في مواجهة استغلاله لها، فقد بدأ بجلسات علاجية تركز على مدح جمالها، استمرت الجلسات بشكل أسبوعي، وبدلًا من تقديم حلول عملية لحالتها، استغل الطبيب الجلسات للتحدث عن إنجازاته الشخصية وتحليل ماضيها بطرق تزيد من شعورها بالذنب والارتباك.
لم تبحث سارة حينها عن طبيب غيره، فهي راشدة وقادرة على اختيار شخص مؤهل لمساعدتها في التعافي كما أنها سعدت بكونه كبيرًا في السن حيث لن يكون هناك أي تعدٍ جسدي أو باللفظ حتى، لكن، حدث ما لم تتوقعه، ففي كل مرة كان يؤكد لها أنها جميلة ومثيرة وهي تكتفي بالابتسامة فقط، واعتبرتها وقتذاك مجاملة من رجل مسن ويحاول معالجة نفسيتها لتعود أفضل.
"لم تتحسن حالتي، بل ساءت أكثر كلما حاولت تجنبت التعامل مع الأشخاص سواء في البيت أو الشارع"، وحين أخبرت طبيبها أنها لا تشعر بالفرق مع العلاج، أكد، أنها ليست مريضة وأنها تحتاج فقط إلى أن تتعامل معه أكثر لأنه يحب نفسه في وجودها.
تطورت حالة سارة إلى أسوأ عندما تزوجت أختها، أصيبت بالضغط من فرط الصداع النفسي والتفكير الزائد، بدأت تلاحظ ندوب على جسدها بعد كل ليلة تنام فيها حزينة، انقطعت عن الذهاب للطبيب: "قلت لنفسي، لن أسامحه، هو من أوصلني إلى هذه النتيجة، أنا لا أريد خوض التجربة مرة أخرى مع طبيب آخر".
أهمية السيكودراما والعلاج بالفن
وتؤكد هند الأشعل أن جلسات السيكودراما تُعد من الوسائل الفعالة لجميع الفئات العمرية، خاصة للأطفال والمراهقين.."استخدام الألوان والأشكال في الرسم يمكن أن يكشف عن هوية الطفل وطبيعة المشكلات التي يعاني منها، سواء كانت اضطرابات نفسية أو مشكلات في التواصل أو تعرضًا للعنف أو فرط الحركة".
كما توضح أن هذه التقنيات تُعد أداة فعالة للأطفال الذين يعانون من صعوبة في التعبير عن ألمهم، بالإضافة إلى ذوي الأمراض النفسية المتعلقة بالإدراك.
في مستشفى 57357 لعلاج سرطان الأطفال، تُستخدم تقنيات العلاج بالفن مثل الرسم والحكايات كوسيلة لتحسين الصحة النفسية للأطفال وأسرهم، وقد أظهرت هذه البرامج نتائج إيجابية ملموسة، حيث ساعدت الأطفال على التعبير الإبداعي وخفضت مستويات التوتر لديهم.
من جهة أخرى، تدعم يونيسف مصر برامج العلاج بالفن لتعديل السلوكيات السلبية للأطفال الذين يعانون من ضغوط أسرية، وتوفر هذه البرامج أنشطة مثل السيكودراما، التي تساعد الأطفال على تفريغ مشاعرهم وتعزيز قدرتهم على التكيف مع التحديات المختلفة.
اقرأ أيضًا:"زوجتك نفسي".. حق يكفله الشرع والقانون
مواجهة صدمة الطفولة
رامي، يبلغ من العمر 17 عامًا، عانى من آثار حادثة اغتصاب تعرّض لها قبل خمسة سنوات، جعلته الصدمة يعيش في حالة من الإنكار، رافضًا الحديث عن الأمر، ما أثر سلبًا على تعليمه وتواصله مع والدته، وبعد انفصال والديه، لجأت والدته إلى طبيب نفسي لمحاولة مساعدته، لكنه رفض التعاون في البداية.
"تعرض رامي لمحاولة اغتصاب، كان وقتها قريبًا جدا من أبيه، لكنه لم يُصدق ما حدث له، فتحولت صدمته لحالة شديدة من الإنكار، ظل طريح الفراش فترة ولم يهتم بالمذاكرة كما كان سابقًا، لم يكن يرد عليّ إلا في أضيق الحدود، تفاصيل حادثة الاغتصاب تلك لم يقلها لأحد حتى الآن ولكنها حولته من شخص وديع إلى شخص غاضب طوال الوقت".. تحكي والدة رامي عن حالة ابنها لـ فكّر تاني.
وتضيف أنها كانت تذهب معه إلى الجلسات رغمًا عنه: "لكنه ظل لا ينطق، ولا يتحرك، ويرفض الدواء، ودموع وارتعاش في جسده فقط".
حينها قرر الطبيب علاجه بالمواجهة، وهو تهيئة الجو والظروف له ليعيش نفس الموقف الذي تعرض له ولكن بصورة مختلفة، فلم يكن نفس الشخص الأول بالطبع، ولكنه كان الطبيب!
"كانت الخطة تعتمد على تقنية العلاج بالمواجهة أو ما يُعرف بالعلاج التدريجي، استمع رامي من طبيبه إلى شرح مفصل للتقنيات التي قد تساعده على مواجهة الخوف والقلق المرتبطين بحدث صادم من ماضيه، لكنه لم يظهر استجابة إيجابية".
قرر الطبيب محاكاة ظروف مشابهة للزمان والمكان الذين وقع فيهما الحادث الحقيقي، بهدف إثارة ردود فعل تساعد على تفكيك مشاعر القلق، وفي هذا الإطار، أظهر رامي رد فعل عنيفًا؛ إذ تحول إلى شخصية غاضبة وحاول الاعتداء على الطبيب، بدلاً من الدفاع عن نفسه كما كان متوقعًا.
العلاج بالتعرّض هو أحد أساليب العلاج السلوكي التي تهدف إلى مواجهة اضطرابات القلق والرهاب. يعتمد هذا النهج على تعريض المريض تدريجيًا للمواقف أو الأشياء التي تثير خوفه في بيئة آمنة وخالية من التهديد، مما يساعد على تخفيف الاستجابة الانفعالية بمرور الوقت.
ورغم أن الخطة لم تشمل انتهاكًا جسديًا أو كشفًا للعورات، إلا أنها تضمنت استثارة عاطفية لمواطن الخوف والضعف التي تعرض لها رامي.
"رفض رامي الاعتراف بالطريقة كعلاج، على الرغم من تحقيقها لتحسن نسبي في حالته، ووصف التجربة بأنها استغلال لحالته النفسية، ما أضاف بُعدًا جديدًا للصراع الداخلي الذي يعيشه".
حاليًا، تستمر والدة رامي في اصطحابه أسبوعيًا إلى مستشفى د.ح للطب النفسي بمدينة شبين الكوم بالمنوفية، وتتابع الأم حالته مع مدير المستشفى عن قرب، وتؤكد: "التحسن يبدو بطيئًا، وملامح الغضب والانفعال التي سيطرت على رامي بدأت بالتراجع تدريجيًا".
ورغم التحديات التي يواجهها رامي وعائلته، يظل التحسن التدريجي في حالته النفسية مؤشرًا إيجابيًا، وبتطبيق برامج علاجية تستهدف جذور المشكلة، يمكن أن تشهد حالته تطورًا مستمرًا نحو التعافي الكامل.
- أثبتت دراسة أن استخدام تقنيات العلاج بالتعرّض ضمن برامج العلاج المعرفي السلوكي يقلل بشكل كبير من أعراض الرهاب الاجتماعي، كما يُسهم في تعزيز الثقة بالنفس والفعالية الذاتية لدى الأفراد المصابين.
- دراسة أخرى أشارت إلى أن مواجهة الحدث الصادم بدلًا من تجنبه تساعد في تفكيك دائرة الذكريات السلبية والانفعالات المدمرة، مما يقلل الأعراض النفسية المرتبطة بالصدمة ويعيد بناء التوازن النفسي.