تستعد مصر خلال الأسبوع الأخير من يناير الجاري، لعرض ملفها الوطني أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان، في ملمح يؤكد على التطور الواضح والملموس في تعامل الدولة مع الآليات، والمؤسسات الدولية سيما وأنها المرة (الرابعة) التي تفعلها مصر حيث سبقها القيام بذات المهمة أعوام ( 2010 - 2014 - 2019 ) فضلا عن التوسع في الالتزام بتقديم التقارير التعهدية المرتبطة بكافة اللجان الأممية بعد عقود من الإهمال والتجاهل .
الاهتمام الدولي
والملاحظ في تحليل مسارات التعامل الرسمي مع دورات الاستعراض المتتالية، وجود حالة من الاهتمام الدولي المتزايد بالملف المصري، بما يعكس قيمة ومكانة الدولة المصرية وتفاعل المؤسسات الدولية مع حالة التفاعل والحراك السياسي والمجتمعي، الذي تعيشه منذ تقريرها الأول الذي تزامن مع حالة (تسونامي) الحراك المجتمعي والجماهيري الواسع في 25 يناير 2011، الذي لم تتوقف تداعياته حتى يومنا الحالي.
وبالأرقام فإن مصر قد تلقت في دورة 2010 عدد (165) توصية بينما زاد العدد في دورة 2014 ليصل إلى 300 توصية لنصل في دورة 2019 إلى (372) توصية.
الحقوق تتطور وتتزايد مساحات التمتع بها مع كل تقدم يتم إحرازه خلالها سيما وأن هناك عدد من القضايا والمشكلات التي مازال الملف الوطني يعاني من عدم قدرته على تجاوز النقاط السلبية المرتبطة بتلك الحقوق
في سلوك يعكس حالة الاهتمام الأممي الواضح بالملف المصري ومدى احتياج هذا الملف للمزيد من التدخلات والدعم والترقية في جودة الخدمات المقدمة للمواطنين وخلق مؤشرات كيفية وكمية قادرة على قياس هذا التطور وتحليل توجهاته سلبًا أو إيجابًا.
في المقابل أتت الاستجابات الوطنية لتلك التوصيات لتعكس مستوى عالي من الاهتمام والتجاوب ظهرت أثاره المباشرة من خلال موافقة الدولة على معظم تلك التوصيات حيث بلغ مجموع تلك الموافقات العامة والجزئية ( 119 ) توصية في عام 2010 وعدد ( 247 ) توصية في عام 2014 وعدد ( 301 ) توصية في عام 2019 وبنسبة ( 79،7 ٪ ) من إجمالي التوصيات في مقابل رفض عدد إجمالي بلغت نسبته ( 10،7 ٪ ) من إجمالي التوصيات بعضها كان غير دقيق وبعضها كان متعلقا بوقائع خاطئة وغير صحيحة .
ولقد كانت من بين أبرز الاستجابات الوطنية لتطوير ملف حقوق الإنسان وتتبع سياقات العمل المؤسسي على الاستجابة لتوصياته قرار رئيس مجلس الوزراء رقم ( 2396 ) بتاريخ 14 نوفمبر 2018 باستحداث الدولة المصرية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان برئاسة وزير الخارجية وعضوية ممثلي عدد ( 12 ) وزارة ومؤسسة رسمية وتكون من بين مهامها تنسيق الجهود الوطنية في مجال العمل من أجل الارتقاء بتلك الحقوق واقتراح التدخلات المناسبة لمعالجتها.
كما مثلت الاستجابة الرسمية للمطالبات الحقوقية والأممية بوضع وتنفيذ استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان - والتي أعلن عنها بمشاركة رئيس الجمهورية في 11 سبتمبر 2021، خطوة بالغة التقدم في قدرتها على بيان الالتزامات المباشرة من قبل الدولة ووجود تقرير دوري تصدره اللجنة الدائمة بما تم تنفيذه من التزامات وتشريعات تستهدف تحسين وتطوير بيئة الحقوق وفقا للقناعات والأولويات الوطنية.
تحديات الملف
غير أنه ينبغي الحرص ونحن نرصد هذا التطور في المسلك الرسمي للتعامل مع ملف شائك كحقوق الإنسان - ظل لفترات طويلة يعاني من خطاب رسمي وإعلامي يشكك في نوايا ومرجعيات المهتمين به ويتهمهم بتهم تتراوح ما بين الاستقواء بالخارج أو العمالة له - أن نعي لأن الطريق ما زال طويلًا وأن تلك الحقوق تتطور وتتزايد مساحات التمتع بها مع كل تقدم يتم إحرازه خلالها سيما وأن هناك عدد من القضايا والمشكلات التي مازال الملف الوطني يعاني من عدم قدرته على تجاوز النقاط السلبية المرتبطة بتلك الحقوق وتجاوز العراقيل الناتجة عن تقييد ممارستها والتي يمكن إيجاز الحديث عنها في النقاط التالية:
- عجز البرلمان المصري على إنجاز وإصدار العديد من التشريعات والقوانين المطلوبة لتعزيز حالة حقوق الإنسان أصدر مجلس النواب خلال السنوات الماضية عدد (18) تشريعًا من بين (42) تشريعًا يتوجب العمل عليها وانجازها.
- استمرار معاناة المحبوسين احتياطيًا على ذمة العديد من القضايا واستحداث ظاهرة "التدوير"* للنشطاء والسياسيين بما تحول معه الحبس الاحتياطي من سلوك إلى عقوبة وذلك رغم إجماع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحوار الوطني على ضرورات التعامل الإيجابي العاجل لمعالجتها.
- تضييقات المجال العام وفرض العديد من القيود على حرية الرأي والتعبير والنشر بما أضعف قوي المعارضة المؤسسية وأفقدها لمساحات التواصل الجماهيري أو الترويج لبرامجها وافكارها.
- التدخل العاجل لمعالجة القصور الواضح في أداءات المجلس القومي لحقوق الإنسان والتي كانت سببا في التوصية الأممية غير المسبوقة بتخفيض تصنيف المجلس على المستوى الدولي سواء تعديل قانونه أو ضوبط تشكيله أو التداخل الواضح في ممارسات أعضاؤه بين الاستقلالية المفترضة وبين تبعية الممارسة الحكومية.
- زيادة مساحات الاهتمام الرسمي بملف الحقوق المدنية والسياسية وما يرتبط بها من ملفات شائكة ومتباطئة التطور والحراك قياسا بمستويات الإنجاز والتطور في ملف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية دون مفاضلة أو تغليب لملف على حساب الآخر.
استمرار معاناة المحبوسين احتياطيًا على ذمة العديد من القضايا واستحداث ظاهرة "التدوير" للنشطاء والسياسيين بما تحول معه الحبس الاحتياطي من سلوك إلى عقوبة وذلك رغم إجماع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحوار الوطني على ضرورات التعامل الإيجابي العاجل لمعالجتها
- فتح المجال أمام عمل منظمات المجتمع المدني وتيسير بيئة عملها بداية من إدخال عدد من التعديلات على القانون وزيادة مساحات العمل ووقف ملاحقات النشطاء التي تعوق حركتهم ونشاطهم العام.
في النهاية يتوجب التأكيد على أن هناك إنجازات عديدة شهدها الملف الوطني لحقوق الإنسان بما يعكس الرغبة والإرادة الصادقة لتحسين الأداءات النوعية وأن العرض المرتقب للملف سيمر بصورة تعزز من مكانة الدولة كاطار قانوني يحترم ويقدر حقوق الإنسان ويكفل تمتع المواطنين بها ودون أن ينال من ذلك وجود البعض من الثغرات والفجوات التي تحتاج للمعالجة وسرعة التدخل لاحتواء تأثيراتها السلبية ومخاطرها على المشهد العام وتقييماته على المستوى المحلي والدولي.
ولنا عودة.
----
*كاتب المقال هو "مدير المجموعة المصرية للدراسات البرلمانية"
*التدوير هو مصطلح حقوقي رائج، تنفيه الجهات الرسمية، ويعني إعادة حبس المتهم على نفس الاتهامات التي كان عليها قبل إخلاء السبيل، دون خروجه من السجن "فكّر تاني".