البداية: كانت واحدة من تلك الليالي التي تحاصرك فيها الوحدة وتتركك تبكي في الزاوية. لا تجد سببًا واضحًا لهذا الضيق، ولا لهذا الثقل الذي يجثم على صدرك ويقيّد أنفاسك. تناولت كوب الماء بجانبي في محاولة لتمرير مرارة مستقرة في حلقي، تعاندني، فلا أستطيع بلعها. في مثل هذه الليالي، لم يكن لدي سوى حل واحد: أن أبقى في زاويتي مغمضة العينين، مستسلمة، وأتمنى أن يأتي النوم ليحررني من ظلي الأسود الذي يمسك بأطرافي ويسحبها إلى القاع.
سمعت صوتًا يقول: "قولي يا لطيف"، لم أستطع تحديد مصدره. جاء الصوت داخل حلم مزعج، كان قلبي يتسارع فيه بينما أبحث عن مصدر الصوت فلا أجده.
يقول أحمد بن عطاء الله السكندري في الحِكم العطائية:
"لا يُخَافُ عَلَيْكَ أنْ تَلْتَبِسَ الطُّرُقُ عَلَيْكَ؛ وَإنَّمَا يُخَافُ عَلَيْكَ مِنْ غَلَبَةِ الهَوَى عَلَيْكَ."
عندما نحاول تتبع أصل التصوف، نجد أنفسنا عائدين إلى النبي إبراهيم عليه السلام، الذي كان أول من طرح أسئلة عديدة عن الخالق، متأملًا في عظمته حتى تجلّت له أسرار العالم الأعلى عبر الوحي والإلهام. ينسب أتباع "الكابالا" أيضًا تعاليمهم إليه، باعتبارها سابقة لكل الأديان والطرق الروحية التي نعرفها. تقوم فلسفة "الكابالا" على إدراك الإنسان لعدم أهميته من دون الخالق، واختيار الرغبة في الارتقاء نحو الروحانيات بحرية. في اللحظة التي يُقر فيها الإنسان بضآلة نفسه ويشعر برغبته الصادقة في التقرب من الخالق، يصبح قادرًا على الاقتراب منه.
أما التصوف في المسيحية فيرجع إلى القرون الميلادية الأولى، حين ظهرت مجموعة من الروحانيين الذين أُطلق عليهم لاحقًا "معلمو اللاهوت الروحي". هؤلاء الروحانيون كانوا أول من بدأ التصوف المسيحي من خلال القراءة الروحية والتأويل الرمزي والمجازي للنصوص المقدسة. اللاهوت الصوفي، بدوره، هو علم بالله وبالأمور الإلهية يؤمن بأنه لا يمكن للإنسان الوصول إلى طبيعة الله بقوته العقلية فقط. الله وحده هو الذي يجذب الإنسان ويرفعه إلى بهائه الذي لا يُدرك بالعقل، بل يُحسّه القلب ويُحبّه ويعبده.
للوصول إلى هذه الحالة، كان لا بد من ممارسة التأمل الصوفي، وطرح الحواس والأفعال العقلية. وهي ممارسة لا يفهمها من يعتقدون أن العقل وحده يمكنه إدراك الله. يأتي التعبير عن هذا الحب الإلهي بطرق إبداعية، مثل الشعر، أو حركات الجسد، أو استخدام الموسيقى، ويتم بإشراف شخص ذي خبرة عميقة في التصوف، يُعلّم الصوفيين الزهد في العالم، والاعتماد على الله، والصبر في سبيله. وتشمل الممارسات الروحية أيضًا الخلوات التعبدية بالصوم والمجاهدة الطوعية تقربًا إلى الله، وهي ممارسات تناقلتها الأجيال المسيحية وذُكرت في كتب الصوفية.
لكن التصوف يتجاوز الأديان الإبراهيمية ليعكس حاجة إنسانية أساسية للتواصل الروحي المباشر مع الله دون كهنوت أو وسطاء. هذا الاحتياج الأصيل يمنح الإنسان الطمأنينة بوجود الخالق الداعم، وعدله، وقربه اللامحدود من عباده.
على سبيل المثال، دعت الزرادشتية إلى الأخلاق الفاضلة والنقاء الروحي، وشجعت على التوحد مع الإله. أما المانوية، فركزت على التحرر الروحي من القوى الشريرة. يقول الحكيم الهندي سري يوكتسوار في كتابه "العلم المقدس" إن الفرح والسلام والحب والحكمة هي الجوانب الأساسية للتأمل. يمكن للإنسان أن يشعر بحضور الله عندما يركز على أي من هذه الجوانب وهو في صمت التأمل.
من هنا، نجد أن التصوف، رغم ارتباطه الوثيق بالإسلام، تعود جذوره إلى عصور وأديان مختلفة. قبل ظهور الإسلام، كانت هناك تيارات روحانية عديدة تسعى إلى تجربة الوحدة الإلهية والاتصال بالواقع الروحي الأسمى.
في مصر القديمة، اعتقد المصريون القدماء بحياة ما بعد الموت، وأقاموا طقوسًا دينية معقدة للاتصال بالآلهة، ومارسوا التأمل والتركيز. أما البابليون، فقد آمنوا بوجود قوى خفية تؤثر في حياتهم وسعوا للتواصل معها. وفي الفلسفة الإغريقية، ظهرت تيارات صوفية مثل الأورفيكية والديونيسية التي ركزت على التجارب الغيبية والسعي للوحدة مع الإله.
يمكن القول إن التصوف تجربة إنسانية عالمية تخطت الحدود الدينية والثقافية، وعبّرت عن الحاجة الفطرية للتواصل مع الإلهي بحثًا عن الطمأنينة والمعنى.
"ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك." – أحمد بن عطاء الله السكندري، الحِكم العطائية.
متى بدأ التصوف الإسلامي في مصر؟
يخبرنا أبو نعيم الأصبهاني في كتابه حلية الأولياء وطبقات الأصفياء عن "أهل الصفة"، واصفًا إياهم بأنهم فريق من النساك الذين أخلاهم الله من الركون إلى الدنيا وحماهم من الافتتان بزينتها. كانوا قدوة للمتجردين والفقراء، لا يملكون مالًا ولا أهلًا، ولا يشغلهم عن ذكر الله شيء. لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، بل انشغلوا باغتنام أوقاتهم في العبادة والطاعة. وصفهم بأنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولا يحزنون على ما فات، ولا يفرحون بما أتاهم، إذ حماهم الله من التمتع بزينة الدنيا لكي لا يبغوا أو يطغوا.
هؤلاء النساك، المعروفون باسم "أهل الصُفة"، كانوا من فقراء المهاجرين الذين لجأوا إلى المدينة ولم يكن لديهم منزل أو عشيرة تأويهم. بلغ عددهم نحو 400 فرد، عاشوا في مكان مظلل داخل مسجد المدينة يسمى "الصُفة"، حيث كانوا يسكنون ويتعلمون القرآن، ويصومون، ويشاركون في الغزوات. يعتبرهم البعض من أوائل المتصوفين في الإسلام.
تطور التصوف الإسلامي والطرق الصوفية
يمكن تأريخ ظهور الطرق الصوفية بشكل واضح إلى القرنين الثالث والرابع من الهجرة، حيث أصبحت كلمة "طريقة" تشير إلى مجموعة من الآداب والأخلاق التي يلتزم بها أتباع الصوفية. تصور هذه الطرق الطريق إلى الله كمجموعة من المراحل أو "المقامات"، مثل: التوبة، والصبر، والرضا، والمحبة، والتوكل، بالإضافة إلى "الأحوال" مثل: القبض، والبسط، والفناء، والهيبة.
هذه المقامات والأحوال تمثل فضائل نفسية وأخلاقية يسعى السالك للطريق إلى تحقيقها عبر مجاهدة النفس، حتى يصل إلى مقام التوحيد أو المعرفة بالله، وهو الهدف النهائي للصوفية.
وفي مصر، تنبثق جميع الطرق الصوفية من أربعة أقطاب رئيسيين:
- إبراهيم الدسوقي (696 هـ) مؤسس الطريقة البرهانية الدسوقية.
- عبد القادر الجيلاني (561 هـ) مؤسس الطريقة القادرية.
- أحمد البدوي (627 هـ) مؤسس الطريقة الأحمدية أو البدوية.
- أحمد بن علي الرفاعي (578 هـ) مؤسس الطريقة الرفاعية.
بداية التصوف المنظم في مصر
يمكن إرجاع بدايات التصوف في مصر إلى شخصية ذي النون المصري (توفي عام 245 هـ)، الذي يُعدّ أحد أوائل المتصوفين البارزين. تبعه أبو بكر الدقاق وأبو الحسن بنان الجمال (توفي عام 336 هـ). ومع مرور الوقت، اتخذ التصوف شكله المنظم، وظهرت الخانقاوات – وهي أماكن مخصصة لخدمة الصوفية المتفرغين للعبادة – بدءًا من عام 569 هـ، عندما أنشأ صلاح الدين الأيوبي أول خانقاه في مصر باسم "خانقاه سعيد السعداء".
ولاحقًا، أصبحت الخانقاوات جزءًا من الحياة الثقافية والدينية في مصر، خاصة خلال العصر المملوكي، حيث تحولت القاهرة إلى مركز روحي للصوفية.
قال الله تعالى: "قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى" (الشورى: 23).
أهل البيت ومكانتهم في مصر
عندما وصلت السيدة زينب إلى مصر بعد مأساة كربلاء، وجدت استقبالًا حافلًا من أهل مصر، فقالت لهم: "يا أهل مصر، نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، جعل الله لكم من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا".
يرى الكثيرون، وأنا منهم، أن مصر حُفظت ببركة دعائها ودعاء نسلها من الأولياء حتى يومنا هذا. وقال رسول الله ﷺ: "والله لا يدخل قلب رجل الإيمان، حتى يحبهم لله، ولقربتهم مني."
بعد مأساة كربلاء، حيث استشهد الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه، أصبحت مصر ملاذًا آمنًا للمسلمين الذين تعرضوا للاضطهاد. وحين وقعت الواقعة في كربلاء، توجّه ركب من سيدات أهل البيت الطاهرات، ومعهن سيدنا علي زين العابدين، إلى دمشق ثم إلى المدينة المنورة. هناك، اشتكى والي المدينة إلى يزيد بن معاوية من أن وجود أهل البيت يثير القلوب عليهم، فأمر يزيد بإخراجهم إلى أي مكان بعيد.
عندما طُلب من السيدة زينب أن تختار مكانًا للإقامة، قالت: "قد علم الله ما صار إلينا، قُتِلَ خَيْرُنَا، وسُقْنَا كما تُسَاق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب، فوالله لا خرجنا وإن أُهرقت دماؤنا."
التصوف وآل البيت في وجدان المصريين
التصوف في مصر ارتبط ارتباطًا وثيقًا بمحبة آل البيت، الذين أضفوا بعدًا روحانيًا على الحياة الدينية. كما كانت مصر بمثابة الحاضن الروحي للصوفية من خلال الخانقاوات التي شيدت لخدمتهم، مما جعلها منارة للتصوف الإسلامي حتى يومنا هذا.
السيدة زينب تختار مصر موطنًا لها
عندما اختارت السيدة زينب بنت علي رضي الله عنها مصر، كان لهذا القرار أسبابًا وأسرارًا عظيمة، عبّرت عنها بقولها لوالي المدينة الأشدق، كما ورد في كتاب أخبار الزينبات ليحيى بن الحسن العبيدلي: "لأكون وأنا في برزخي بعد سنين ستمضي في شرف استقبال رأس الإمام الحسين الذي سودتم تاريخكم بدمه الطاهر".
رافقت السيدة زينب في رحلتها إلى مصر السيدة فاطمة النبوية ابنة الإمام الحسين وأختها السيدة سكينة. وقد استقبل المصريون آل البيت بحبهم الفطري وتعاطفهم العميق، حتى يروى أن المصريين رفضوا السماح بدخول رأس الإمام الحسين إلى بلادهم في تلك الحالة المأساوية بعد استشهاده.
آل البيت في مصر وأثرهم الروحي
بعد قدوم السيدة زينب ومن معها في الفوج الأول، توالت زيارات آل البيت إلى مصر. في الفوج الثاني، جاء الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الإمام الحسين، ومعه السيدة نفيسة، التي استقرت في مصر عام 145 هـ، وأصبحت وجهة لكل من يطلب الدعاء والتوسل إلى الله.
تروي إحدى الحكايات أن زوجها إسحاق المؤتمن طلب منها الرحيل إلى الحجاز، لكنها رفضت بعدما رأت النبي محمد ﷺ في المنام، يقول لها: "لا ترحلي من مصر، فإن الله تبارك وتعالى متوفيك بها".
وفي الفوج الثالث، جاءت السيدة عائشة بنت جعفر الصادق. توافد بعدها الأشراف إلى مصر من الحجاز والعراق والمغرب، وكان من بينهم السيد البدوي، والأمير يوسف المغربي، وسيدي عبد الرحيم القنائي.
مساهمات آل البيت في نشر الدين والثقافة
ساهمت هجرة آل البيت إلى مصر في تعزيز نشر الإسلام وثقافته في البلاد. شيدوا المساجد، أسسوا المدارس، ونشروا العلم، ما ترك أثرًا كبيرًا على التراث الثقافي المصري. كما ارتبط المصريون بآل البيت عبر الأضرحة والمقامات التي أصبحت مع الوقت مقاصد دينية مهمة. وفقًا لوزارة الثقافة، تحتضن مصر حوالي 6,000 ضريح للأولياء وآل البيت.
لحظات روحانية أمام المقام
في سرد شخصي مليء بالمشاعر، تروي الكاتبة كيف وجد نفسه بلا تخطيط أمام مقام السيدة زينب، وكأن السيارة اختارت وجهتها بنفسها. وسط الزحام النسائي والمكان الضيق المخصص للسيدات مقارنة بمساحة الرجال، جلست الكاتبة مسندةً ظهرها إلى الحائط، وغرقت في حالة من التأمل والهدوء.
يكسر هذا الصمت فتاة عشرينية، تربت على كتفها بيد ممدودة بسبحة إلكترونية، وتقول لها بلطف: "قولي يا لطيف 129 مرة". عندها، تُدرك الكاتبة معنى قوله: "من ذاق عرف".
حلو اوى ياريت تكتبى اكتر