المرأة المسيحية المنفصلة.. بين أصولية الكنيسة وقانون هادر للحقوق

أثار مشروع قانون الضمان الاجتماعي والدعم النقدي جدلًا في الأوساط المسيحية وداخل البرلمان المصري حول البند 22، الذي أصبح البند 20 من المقترح، والذي يختص بتعريف الزوجة المسيحية المنفصلة بأنها الزوجة المنفصلة عن زوجها ولم يحدث طلاق كنسي، ويثبت ذلك بشهادة من الرئاسة الدينية التابعة لها، أو بموجب حكم قضائي بات، وذلك تمهيدًا لحصولها على الدعم المقدم من الحكومة بموجب مشروع القانون الذي يستهدف توفير حياة كريمة للمواطنين، وخاصة الفئات الأولى بالرعاية، لتحسين شبكة الأمان الاجتماعي.

حسب بعض المواقع الإخبارية، اعترضت النائبة ميرفت مطر على تعريف “الزوجة المسيحية المنفصلة”، حيث اقترحت إضافة جملة في نهاية النص تُكرِّس سيطرة الكنيسة على النساء المتضررات؛ ليصبح البند: “يثبت ذلك بشهادة من الرئاسة الدينية أو من تفوضه في ذلك”. وأكدت النائبة أنه لا يوجد طلاق كنسي في كل الطوائف؛ فالكنيسة الكاثوليكية تمنع الطلاق نهائيًا، والأرثوذكسية تسمح به في حالة علة الزنا فقط، وشددت على خطورة وضع كلمة “كنسي” بجوار كلمة “طلاق” داخل النص. وعلى هذا الاعتراض، استمر الجدل بالجلسة النقاشية بالبرلمان، وقرر رئيس المجلس إرجاء مناقشة المادة لجلسة أخرى في وجود النائب المستشار منصف سليمان، وتجهيز الحكومة ردًا حول الأمر.

فكّر تاني حاولت التواصل مع النائبة البرلمانية ميرفت مطر لتوضيح وجهة نظرها حول زيادة القيود على البند وتفسير اعتراضها على تعريف الزوجة المسيحية المنفصلة بشكل عام، لكنها رفضت التعليق إلا بعد استكمال المناقشة حول البند في الجلسات المقبلة في البرلمان.

أين إشكالية البند 20؟

ألقى هذا النقاش الضوء حول مشروع القانون على واحدة من أكثر القضايا حساسية وتعقيدًا، وهي معاناة النساء الفقيرات المسيحيات المنفصلات عن أزواجهن دون طلاق رسمي، في ظل نظام قانوني وديني لا يعكس دائمًا احتياجاتهن الفعلية، حيث يُعد بند تعريف “الزوجة المسيحية المنفصلة” مثيرًا للجدل لأنه يتشابك مع قضايا الهوية الدينية، والقوانين الكنسية، والعدالة الاجتماعية.

فالنساء المسيحيات اللاتي يعشن في الفقر يواجهن عنفًا تقاطعيًا متعدد الأبعاد يتمثل في التمييز الديني، والهيمنة الذكورية، ونقص الحماية القانونية، ما يزيد من هشاشة أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية. عطفًا على أن اشتراط إثبات الانفصال بشهادة كنسية أو حكم قضائي بات يضع العديد من النساء في مأزق قانوني واجتماعي، فالكنائس الكاثوليكية تمنع الطلاق تمامًا وتعترف بالانفصال، بينما الأرثوذكسية تضع شروطًا صارمة لذلك، ما يترك العديد من النساء في حالة قانونية “معلقة”، غير مؤهلات للحصول على الدعم الحكومي الذي وُضع لتحسين جودة حياتهن.

يقول المحامي والباحث المهتم بحقوق الأقليات سعيد فايز، في تعليقه على البند 20 لـ فكّر تاني: “إن البند بصورته الحالية يخاطب المرأة المسيحية المنفصلة التابعة للطائفة الكاثوليكية فقط، لأن الكنيسة الأرثوذكسية لا تعترف بالانفصال، عطفًا على أن الكنيسة الأرثوذكسية ليس لديها ما يُعرف بـ ‘الطلاق الكنسي’، فالطلاق يتم عن طريق المحكمة، ثم تعطي الكنيسة تصريح الزواج الثاني”.

ويشير فايز إلى أنه حتى المجالس الملية، حين تبحث الحالات الموجودة لديها، تتحايل على القانون بأن تدعم الطرف غير المخطئ بتصريح شهادة تغيير ملة، والذي يُعد بمثابة إقرار بالحق في بدء اتخاذ الإجراءات القانونية للحصول على الطلاق من المحكمة بالاستناد إلى الشريعة الإسلامية.

ويضيف أن هذا البند يتقاطع مع مسودة قانون الأسرة المسيحية المزمع صدوره، والذي يشير إلى الحق في الطلاق عند الهجر مدة 3-5 سنوات، وهي إشكالية جديدة أيضًا واجهتها الكنيسة، وهي: كيف سيثبت أي طرف هذا الانفصال؟ فكان الحل المتاح من خلال سر الاعتراف الذي يبيح فيه الفرد بما يحدث في حياته.

ويفسر سعيد فايز أن هذا البند أيضًا سيوقع الكنيسة في مأزقين هما: التزاحم الشديد للنساء اللاتي لديهن قضايا معلقة، والمشكلة الثانية أن وجود شهادة من هذا النوع هو إقرار رسمي بالانفصال، الأمر الذي ربما يقود الكنيسة لوضع مختلف في التفكير في هذا الحل “الاعتراف بالانفصال على طريقة الكنيسة الكاثوليكية”، وهو ما يغضب التيار المحافظ.

ووفق هذا الواقع، فإن الكنيسة لن ترضى بإصدار هذا النوع من الشهادات، ويصبح الناتج الفعلي حالات جديدة من الصراخ.

لذا يقترح فايز لتفعيل البند 20 وحصول المرأة المسيحية المنفصلة على حق الدعم من الدولة، أن تكون وزارة التضامن الاجتماعي هي المسؤولة بشكل مباشر عن دراسة الحالة لكل امرأة مسيحية منفصلة ولم تحصل على الطلاق، ومهما كان الوقت المستغرق في الدراسة للوزارة، فهو بطبيعة الحال أسرع كثيرًا من الكنيسة.

عقود من السيطرة والأزمات

يتقاطع البند 20 مع القيود المفروضة على المسيحيين في مصر فيما يخص أحوالهم الشخصية التي تسيطر عليها الكنيسة بالكامل، وتقع النساء المعنفات تحديدًا ضحية لها كحلقة أضعف في مجتمع أبوي من ناحية، ومجتمع كنسي يرفض الطلاق رفضًا قاطعًا من ناحية أخرى. بل تأتي شروط البند لتكريس استمرار هذه السيطرة الدينية ونزع أي ضمانات للحقوق الاجتماعية والمدنية عن المواطنات المسيحيات.

الأمر الذي يناقشه الباحث الحقوقي إسحق إبراهيم في ورقة معنونة بـ “Personal Status of Copts: Crisis Made by State and Church”، حيث يوضح أن مؤسسات الدولة تجنبت تحمل المسؤولية ووضعت الكرة في ملعب الكنيسة في الأمور المتعلقة بقوانين الأحوال الشخصية. فقبل عام 2010، تجاهلت الدولة المطالبات المستمرة من الكنائس المصرية والأقباط بوضع قانون للأحوال الشخصية، والذي قدمته الكنائس مجتمعة في شكل مسودة عام 1978.

وبعد عقود، عندما رفضت الكنيسة حكم المحكمة الإدارية الذي ألزمها بمنح تراخيص الزواج الثاني، شكلت وزارة العدل لجنة لمراجعة مشروع قانون الأحوال الشخصية. ومع ذلك، لم يصدر قط، وحافظت الدولة على الوضع الراهن، حيث تُعالَج قضايا الزواج والطلاق في مصر باعتبارها قضايا دينية بحتة خارج سيطرة الدولة.

في المقابل، رفضت الكنائس الحلول البديلة مثل الزواج المدني، بحجة أن مثل هذا المفهوم يتعارض مع تعاليم المسيحية. وبالتالي، ظلت أي خطوات تُتخذ لحل المشاكل المحيطة بالزواج والطلاق تحت رحمة حكم رجال الدين المسيحيين، دون أي تغيير حقيقي في نهجهم للتعامل مع الأسباب الجذرية لهذه الأزمة.

وفي سياق متصل، يحاول المحامي سعيد فايز تقديم صورة شاملة للأزمة: “أعمل على ملف الأحوال الشخصية للمسيحيين منذ عام 2004 وأتابع تطوراته بشكل دقيق، وأؤكد أن الأزمة الكبرى كانت تعديل لائحة 1938 عام 2008، والتي تسببت في هروب عدد ليس بقليل لحل التحول الديني كمنفذ. ما أجبر الكنيسة على فتح الأبواب الخلفية لتغيير شهادات الملة والطائفة، وهي حلول غير عادلة لأنها تستهلك أعمار الأفراد وكأنها عقاب لا ينتهي”.

ويشير فايز إلى أن الأزمة تكمن أيضًا في ازدواجية التعامل مع الملف. فالكنيسة التي تتمسك بمبدأ “لا طلاق إلا لعلة الزنا” هي نفسها التي تفتح باب تغيير الملة والطائفة لمحاولة احتواء الأزمة، وهي نفس الكنيسة التي تعطي تصريحًا في بعض حالات استحالة العشرة. أي أنها في محاولات للحلول لا تتقيد بالنص المشروط به الحصول على الطلاق. وحاولنا مرات عديدة تقديم تفسيرات متعددة للنص ومدى اختلاف لفظة “الزنا” بين المدلولات المسيحية والإسلامية، لكن لا نتيجة. ومع كل هذا التمسك، يلجأون أيضًا لطرق بديلة.

كيف يهدر البند 20 حقوق النساء المسيحيات؟

يزداد المشهد تعقيدًا في حالة كانت النساء المتضررات من قوانين الأحوال الشخصية المسيحية ينتمين إلى طبقات فقيرة، حيث يواجهن تحديات مضاعفة بسبب قلة الموارد والفرص المتاحة، وهي الفئة الأولى بالرعاية التي يشير لها مشروع القانون.

وفي حالات الانفصال غير الرسمي، تواجه النساء تحديات كبيرة؛ أولًا في توفير احتياجات أطفالهن الأساسية بسبب غياب الدعم المالي من الزوج وقوانين مُنصفة للنفقة أو الحضانة، وثانيًا نتيجة عدم اعتراف الكنيسة الأرثوذكسية، التي تمثل أغلبية المسيحيين في مصر، بوضعهن أو إصدار شهادات تثبت حالتهن، ما يحرمهن من الدعم الاجتماعي.

ورغم وضوح هذه الأزمة وتعرض النساء لعنف مؤسسي من الكنيسة، فإن البند 20 من مشروع قانون الضمان الاجتماعي يتجاهلها تمامًا، ما يزيد من تعميق المعاناة وتكريس العنف الديني ضدهن.

ويعلق المحامي والباحث والخبير الحقوقي عبدالرازق مصطفى: “شرط الحصول على شهادة من الرئاسة الدينية والمرهون بحصول النساء المسيحيات المنفصلات على دعم الدولة هو شرط غير عادل بل يهدر حقوق النساء ويضيف أعباء مضاعفة عليهن”.

ويشير عبدالرازق في حديثه مع فكّر تاني، أن القانون مفترض أن يكون مدنيًّا في الأساس، لكن الواقع الآن أنه يغلق الباب تمامًا على أي محاولة لإنصافهن. وبالتبعية، تقف الكنيسة أمام النساء للحصول على حقوقهن اجتماعيًا لتصبح السلطة الدينية هنا عقبة كبيرة، لذا فهو شرط مرفوض تمامًا ولابد من طرح البند لنقاش مجتمعي.

ويدعم الخبير الحقوقي فكرة وجود قانون مدني موحد للأحوال الشخصية لكافة المصريين، معللًا أن السلطة الدينية تشكل عبئًا بقيودها على تمتع الأفراد بحقوقهم المكفولة من القانون، كما يطالب بتفعيل المادة 53 من الدستور المصري التي تنص على أن “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة”.

وهذا البند تمييزي، ويشكل عنفًا تقاطعيًا تجاه النساء المسيحيات، وكلما زادت الطبقات الواقعة بينها المرأة ارتفع العنف ضدها “امرأة مصرية مسيحية منفصلة وتعول ولا يصلها الدعم”.

وفي دراسة بعنوان “تراتبيات متشابكة: تقاطعية الدين والجندر في قوانين الأحوال الشخصية للأقباط الأورثوذكس”، تذكر مارينا سمير -على ذكر الحديث عن العنف والنساء الفقيرات بالتحديد- أن الطبقة تلعب دورًا محوريًا في أنواع الفرص المتاحة أمام الأفراد وأشكال القهر التي يتعرضون لها.

وإلى جانب المعادلة العامة للسياق الاجتماعي لوضع الأقباط في مصر، فإن النساء المسيحيات يُضاف إليهن أعباء إضافية مرتبطة بجندرهن.

ولا تقف الكنيسة بدورها الأبوي على خط مستقيم تجاه حقوقهن. فمثلًا، استدعت الكنيسة لقيمة “التراضي” وعدم إكراه النساء المسيحيات حين تطلب الأمر ذلك، وهو ما ورد في المذكرة التي أرسلها البابا كيرلس السادس لوزارة العدل سنة 1962، والتي رفضت فيها الكنيسة تطبيق بيت الطاعة على النساء المسيحيات مهما كانت الظروف، وحتى لو كانت بسبب تغيير ديانة أو ملة أو مذهب الزوج، وذلك لأن “الحياة الزوجية في المسيحية مبنية على الاتفاق والتراضي والمحبة ولا يمكن أن يدخل الإرغام فيها بحال من الأحوال” -كما جاء في متن المذكرة.

ولكن لا تُستَدعى القيمة نفسها (التراضي) عند الحديث عن النساء اللاتي يرغبن في الطلاق، واللاتي يلجأن للكنيسة في هذه الحالة. فكيف لا ترى الكنيسة أن البقاء في زيجة بدون إرادة طرفيها، فقط لأنهما لن يتمكنا من الحصول على حكم بالطلاق والزواج الثاني، به شكل من أشكال الإرغام، وهو ما يتنافى مع القيم التي تنبني عليها الحياة الزوجية في المسيحية؟

يتفق كل من عبدالرازق مصطفى وسعيد فايز على أن السلطة الدينية على إطلاقها يتم استخدامها كأداة لتحجيم المرونة في التشريع وزيادة التقييد.

ويرى فايز أنه من الأفضل أن يخرج الأمر خارج سلطة الرئاسة الدينية، مُشددًا: “كفاية أوي سيطرة رجال الدين على الملف ده وتواجدهم فيه”، فيما يؤكد عبدالرازق أن النساء المسيحيات بالتحديد يقعن فريسة التعنت الديني على كافة المستويات، ولن ينقذهن إلا قانون مدني موحد.

ما يزال البند 20 في مشروع قانون الضمان الاجتماعي والدعم النقدي قيد المناقشة، لكن الواضح أن تصدير السلطة الدينية كمرجعية أساسية لإثبات حالة “الزوجة المسيحية المنفصلة” يحمل في طياته خطرًا كبيرًا على حق النساء المسيحيات في الحصول على الدعم المقدم من الدولة.

هذا الاشتراط يعيد إنتاج التمييز من خلال وضع النساء تحت رحمة قوانين دينية صارمة قد لا تتماشى مع احتياجاتهن الواقعية.

لذا، فإن الاعتماد الحصري على الشهادات الكنسية، في ظل تعقيدات الطلاق الكنسي واختلاف ممارسات الطوائف، يُهدد بحرمان كثير من النساء من الدعم الذي وجد في الأساس لحمايتهن وتأمين حياة كريمة لهن. ومن هنا، فإن ربط الدعم بآليات دينية قد يعزز من هشاشة النساء بدلًا من دعمهن.

نأمل أن تثمر المناقشات البرلمانية عن حلول عادلة تُحرر النساء المسيحيات من هذه الدائرة المغلقة، وتضمن لهن الوصول إلى الدعم دون الخضوع لتعقيدات بيروقراطية أو دينية. والمطلوب هو منهجية تُعلي من حقوق الإنسان وتضع احتياجات المواطنين، بغض النظر عن دينهم أو وضعهم الشخصي، في قلب الأولويات، تحقيقًا للعدالة الاجتماعية والمساواة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة