اللبن المسكوب على تروس متهالكة.. هل تكفي الوجبات عمال المصانع؟

يتذكر القيادي العمالي، صلاح الأنصاري، رحلة الوجبة الغذائية المقدمة إلى عمال وعاملات المصانع بكثير من الأسى، على ما آل إليه حال الدولة، التي بدأت جمهوريتها بعد ثورة 1952، بإيلاء اهتمام كبير بالصناعة الوطنية والقائمين عليها، بينما يُذكّر بالوضع الاقتصادي الراهن، الخانق على مستوى الأسعار وتدني مستوى الأجور، في وقت تُرك فيه العاملين والعاملات بالمصانع لإدارات لا تتوانى عن الهروب من منحهم استحقاقاتهم.

لماذا يطالبون بوجبة عادلة؟

قانونًا، تنص المادة 64 من قانون العمل رقم 91 لسنة 1959، والمادة 123 من قانون العمل رقم 137 لسنة 1981، وقرار وزير العمل رقم 110 لسنة 1968، وقرار وزير الدولة للقوى العاملة رقم 11 لسنة 1982، على استحقاق العمال للوجبات الغذائية.

وواقعًا، فإن عمال المصانع في مصر يواجهون أوضاعًا صعبة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وإدارات متعنتة في تلبية متطلباتهم، مستفيدة بسياسة عامة أميل إلى تحرير الصناعة القديمة من الحمائية الوطنية لصالح قطاع خاص، محمي بتشريعات منحازة لرجال الأعمال على حساب العمال.

صلاح الأنصاري
صلاح الأنصاري

وبين هذا وذاك، كان من المنطقي أن يصعد مطلب زيادة بدل الوجبات إلى رأس قائمة المطالب العمالية في الفترة الأخيرة، باديًا كشعار رئيسي في احتجاجات عمال شركة كيما أسوان لإنتاج الأسمدة النيتروجينية بمحافظة أسوان، الشهر الماضي، والذين نادوا بزيادة قيمة الوجبة الغذائية من 1000 إلى 2500 جنيه، وفيما تلاها من احتجاجات بالحديد والصلب للمناجم والمحاجر بالسويس، ومصر للألومنيوم، ومصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، وشركة سيراميكا فينيسيا، الذين طالبوا بزيادة بدل الوجبة والحليب.

يسرد القيادي العمالي والنقابي، صلاح الأنصاري أحد قيادات شركة الحديد والصلب المصرية والتي صدر لها قرار تصفية في العام 2021، تاريخ الوجبة الغذائية التي كانت تصرفها الشركة، منذ بداية عمله فيها عام 1968، والتي كانت تحتوي على بسكويت بالكمون والحليب، لما للحليب من أهمية في تنظيف الرئة من الشوائب المستنشقة من "الرايش" الناتج عن تصنيع الحديد.

"شكل الوجبة الغذائية تطور عدة مرات، وارتبط هذا التطور بالوضع الاقتصادي والسياسي في مصر خلال تلك الفترة، وبعدما كانت الوجبة عينية أصبحت نقدية بسبب توجه العمال لبيع كوبونات الوجبات، بخلاف صعوبة توزيع الوجبات خصوصا في الوردية الليلة، فتحول بدل الوجبة من نقدي إلى عيني، وكان هذا خطأ شديد لما للوجبة ومكوناتها من أهمية لصحة العامل، وهذا هو فلسفة إقرار الوجبة، ولحمايته من الأضرار الناتجة عن استنشاق الكربون أو خام الحديد" يضيف الأنصاري في حديثه لـ فكر تاني.

المرحله التالية لشكل الوجبة، وفق الأنصاري، كانت ضمن مطالب اعتصام 1989، حيث طالب العمال بصرف وجبة غذائية عينية، وتمت الاستجابه من قبل الإدارة، وبدأوا في صرف وجبة عبارة عن " فطيرة، 2 بيضة، قطعة جبنه نستون"، ومع ذلك حدثت مشاكل في توزيع الوجبة بسبب الأعداد الكبيرة للعمال خلال تبادل الورديات المقسمة إلى ثلاث، بجانب فساد الطعام عند وصوله لآخر وردية.

للمره الثالثة تطور شكل الوجبة في نهاية سنة 1989 وبداية 1990 على حسب كلام الأنصاري، وأصبحت عبارة عن وجبة غذائية مجمعة شهرية، شملت "علبة سمن فيرن أو شيراتون، عبوة شاي العروسة ربع كيلو، وزجاجتان زيت، وعبوة أرز 5 كيلو، وأربعة أكياس سكر"، أما في العيد يُصرف للعامل علبتا سمن.

ويوضح الأنصاري أن العمال اتخذوا هذا القرار وأبلغوا به الإدارة، حتى يضموا الحفاظ على  مكونات الوجبة، مهما ارتفعت الأسعار ، كما اهتم العمال أيضا بطبيعة المنتجات التي تشملها الوجبة  وطالبوا بصرف سمن مصر للألبان، لكونها سمن بلدي وليست صناعي.

الوعي سبب انتشار المطلب

"الوعي عدوى"، يقول الأنصاري، موضحًا أثر التواصل العمالي ونقل الخبرات بين العمال وبعضهم البعض، حيث انتقلت العدوى إلى فروع الشركة في الواحات والمناجم. وبعد الاعتصام في عام 1989، نُقل عدد من القيادات من شركة الحديد والصلب إلى عدد من الشركات، منهم كمال عباس، الذي نُقل إلى شركة السيليكون. وبعد ذلك، طالب العمال بوجبة عينية أسوة بشركة الحديد والصلب.

واستمر حال الوجبة بهذا الشكل إلى حين خروج القيادي العمالي إلى المعاش المبكر في عام 2008.

هنا يشير الأنصاري إلى وجود أزمة تتعلق بتغييب الوعي، حيث فرطت الأجيال الجديدة من صغار العمال في هذا المكسب، وعادت الوجبة لتصبح نقدية بدلًا من عينية.

"عامل القطاع الخاص يريد أن يخرج بمال في جيبه، والدليل على ذلك أنه عندما حدثت أزمة عمال مصنع فرجلو، اكتشفنا أن صاحب الشركة كان قد وفر لهم مطبخًا يقدم وجبات قيمة تشمل أسماكًا ولحومًا ودجاجًا. ومع ذلك، طالب العمال بصرف بدل وجبة نقدي، غير مدركين لأهمية الوجبة العينية"، يقول القيادي العمالي.

أوضح الأنصاري أن شكل الطبقة العاملة تغيّر، وهو ما يظهر في عدة إشكاليات، منها إقبال العمال على الخروج إلى المعاش المبكر للحصول على التعويض والعمل في أي مشروع صغير. وأصبح هدف أغلب شركات الاستثمار هو إخراج العمال إلى المعاش المبكر.

يُرجع الأنصاري غياب دور النقابات واتحاد العمال في توعية العمال والدفاع عن حقوقهم سببًا رئيسًا في تردي أوضاعهم.

الوجبة حق أقره القانون

يتذكر القيادي العمالي والنقابي بشركة الدلتا للصلب، صابر بركات، حينما بدأ عمله في الشركة عام 1964، منذ أن كان طفلًا لم يتخطَّ الـ14 عامًا. حينها، كانت الشركة تضم مطعمين: أحدهما للموظفين الأجانب يُعدّ لهم أطعمة تناسبهم، والآخر للعمال المصريين يُعدّ لهم الطعام المصري.

"كانت وجبة العمال عبارة عن طبيخ أحمر، قطعة لحم أو فراخ، طبق أرز، سلطة، مخلل، حلويات، ورغيف ونصف من الخبز. مقابل تلك الوجبة، كانت الشركة تخصم قرشًا ونصفًا، كنوع من أنواع تنظيم الوجبة، ليحصل كل عامل على وجبة واحدة فقط، وليس بالقيمة الفعلية لمحتويات الوجبة"، يضيف بركات.

"كانت الشركة تصرف دفتر كوبونات مؤرّخ، وكل عامل يحصل على وجبة واحدة يوميًا. إلا إذا كانت هناك ساعات عمل إضافية، حينها يحصل العامل على وجبة أخرى دون أي مقابل. كان يكفي تقديم ورقة من رئيس القسم تفيد بعمل العامل ساعات إضافية".

صابر بركات
صابر بركات

يوضح بركات أن هناك وجبة أخرى للفطور كانت عبارة عن سندوتشين من الفول والطعمية، مقابل نصف قرش لكل سندوتش، بحد أقصى أربعة سندوتشات لكل عامل. وكان من يعمل في وردية الصباح يحصل على وجبة غداء، ومن يعمل في وردية بعد الظهر يحصل على وجبة غداء متأخرة، بينما من يعمل في وردية المساء يحصل على وجبة عشاء في بداية الوردية.

في حديثه لـ"فكر تاني"، يقول بركات إن هذا الوضع استمر طويلًا، مع بعض التدهور في جودة الوجبة، حتى عام 1990، حيث أصبحت الوجبة سيئة للغاية، لدرجة حدوث حالات تسمم بين العمال.

يرى بركات أن إدارة الشركة تعمدت تقليل جودة الوجبة، والتقليل من تنوعها وحجمها، بهدف التمهيد لإلغاء صرف الوجبة. هذا الوضع دفع العمال إلى تنظيم عدد من الإضرابات والاعتصامات حتى بداية عام 1992، ما أسفر عن مفاوضات مع إدارة الشركة لصرف محتويات الوجبة عينية، مجمعة شهريًا.

قام العمال بحساب تكلفة الوجبة في حال إعدادها داخل المصنع، بدءًا من ثمن الأجهزة المستخدمة وحتى أجور الطباخين، وكانت قيمتها تعادل حينها 31 جنيهًا يوميًا. في ذلك الوقت، عرضت الشركة صرف بدل نقدي للوجبة، لكن العمال رفضوا وطالبوا بصرفها مواد غذائية.

يشير القيادي العمالي إلى محتويات الوجبة، التي كانت تتضمن: "2 كيلو سمن بلدي من شركة مصر للألبان، 3 كيلو أرز، 3 كيلو سكر، 2 باكو شاي العروسة (ربع كيلو)، 1 كيلو عدس، و3 زجاجات زيت كريستال".

ويؤكد بركات أن العمال حددوا كمّية ونوع المنتجات لضمان عدم التلاعب فيها. ونتيجة لذلك، زادت قيمة الوجبة لتصل إلى 35 جنيهًا، ووافقت الإدارة بعد الضغط عليها، خاصة مع رغبتها في التخلص من فكرة المطعم. استمر صرف هذه الوجبة حتى عام 2010، وخلال هذه الفترة تضاعفت قيمتها أربع مرات، إذ بدأت بـ53 جنيهًا حتى وصلت إلى 115 جنيهًا.

يوضح بركات أن الوجبة المجمعة العينية كان لها بعض السلبيات، منها أن بعض العمال كانوا يقفون أمام المصنع لبيع محتويات الوجبة مقابل نصف ثمنها.

يشير بركات إلى أن هذا التوجه ظهر في عدد من الشركات، خاصة في قطاع الغزل والنسيج. فقد بدأ صرف بدل نقدي للوجبة بقيمة عشرة صاغ يوميًا، ثم 3 جنيهات شهريًا، وكان هذا المبلغ مهمًا حينها، لكنه فقد قيمته الشرائية مع مرور الوقت. تطور مطلب زيادة بدل الوجبة ليصل إلى 120 جنيهًا يوميًا، وهو المبلغ الذي رفعه عمال شركة المحلة للغزل والنسيج. ومع ذلك، لم يعد لهذا المبلغ قيمة تُذكر في ظل ارتفاع أسعار السلع.

ويقول بركات: "ما كنت أحصل عليه من وجبة مجمعة تُصرف شهريًا، كان يكفي استهلاك أسرتي، لدرجة أنه كان يفيض منه وأُهادي به إخوتي".

البدل النقدي بلا قيمة شرائية

تتحدث عزة السيد، إحدى الموظفات في شركة المحاريث الزراعية، والتي تعمل محامية بالشركة، لـ"فكر تاني" عن ضعف راتبها الذي لم يتجاوز 5 آلاف جنيه، شاملًا بدل الوجبة، بدل التفرغ، بدل الانتقال، الراتب الأساسي، والحافز. وأكدت أن الشركة لم تطبق عليهم الحد الأدنى للأجور حتى الآن.

تقول عزة إن بدل الوجبة يبلغ 500 جنيه شهريًا، وإنها تفضّل أن يكون نقديًا بدلًا من عيني، حتى تتمكن من تخصيصه ضمن بنود التزاماتها تجاه أسرتها.

وتوضح عزة أن أغلب العاملين في الشركة يفضلون صرف البدل نقدًا، قائلة: "الناس بتحتاج الفلوس علشان اللي هيجيب منها هدوم، ولا يدفع قسط جمعية ولا فلوس مدارس، ولو على الأكل يجيب أكل من بيته ويوفر الفلوس تساعد معاه في المصاريف".

تعمل شركة المحاريث الزراعية في مجال بيع الجرارات والمعدات الزراعية، ولها عدد من الفروع في المحافظات. أغلب العاملين فيها موظفون، وليسوا عمال إنتاج.

وفي سياق مشابه، تقدم عمال شركة ناروبين للكاوتش بطلب إلى النقابة العامة للصناعات الكيماوية لزيادة بدل الوجبة. وذكر أحد العمال، الذي رفض ذكر اسمه، أن بدل الوجبة ظل لسنوات طويلة لا يتجاوز 300 جنيه. وفي عام 2016، طالب العمال بزيادته إلى 400 جنيه، وحصلت زيادة أخرى منذ ستة أشهر ليصل إلى 500 جنيه.

ويوضح العامل، الذي يعمل في الشركة منذ 22 عامًا ولم يتجاوز راتبه 5 آلاف جنيه، أن القانون ينص على تحديد قيمة بدل الوجبة بما يعادل ثمن كيلو لبن. وبحسبة بسيطة، إذا كان سعر كيلو اللبن وصل إلى 40 جنيهًا، فإن أقل قيمة لبدل الوجبة شهريًا يجب ألا تقل عن 1000 جنيه، أسوة بالشركة القابضة للصناعات الغذائية.

ويشير العامل إلى أن العاملين في قطاع الكيماويات هم من أكثر العمال احتياجًا لوجبة غذائية قيمة نتيجة ما يتعرضون له من مخاطر بيئة العمل الملوثة، خصوصًا اللبن. ومع ذلك، فإن المبلغ الحالي غير كافٍ حتى لشراء كيلو لبن، خاصة في ظل ارتفاع أسعار السلع.

مبلغ هزيل

يتشابه الوضع في شركة الدلتا للأسمدة لصناعة الكيماويات مع شركة ناروبين.

يتحدث محمود علي، الذي يعمل في فرع الشركة بمحافظة الدقهلية طلخا لـ فكر تاني، عن بدل الوجبة الغذائية الذي يبلغ 600 جنيه، مشيرًا إلى أن المبلغ أصبح هذيلًا بعد زيادة الأسعار للسلع، وبالتالي قفد قيمته الشرائية.

صورة من احتجاجات سابقة لعمال مصنع (أرشيفية - وكالات)
صورة من احتجاجات سابقة لعمال مصنع (أرشيفية - وكالات)

يطالب عمال الشركة بزيادة بدل الوجبة، ليصل إلى 1000 جنيه، وتقدموا بمذكرة لرئيس النقابة العامة للصناعات الكيماوية لمطالبة الشركة القابضة للصناعات الكيماوية بزيادة بدل الوجبة.

يشير علي إلى أن الوجبة تصرف لمن يعمل في الوردية من 8 صباحًا إلى 4 مساء، ولكن من يعمل في الوردية المسائية يتم صرف وجبة حسب قرار الإدارة، قد تكون وجبة جافة أو ساخنة.

ويؤكد علي أن العمال يفضلون بدل الوجبة النقدي، بسبب الظروف الاقتصادية يعتبر أغلب العمال بدل الوجبة زيادة للدخل، خصوصا في ظل توقف أغلب العلاوات منذ ثمان سنوات، فلا يتم صرف علاوات سوى الـ 7% والعلاوة الخاصة، حتى الحد الأدنى للأجور لم يطبق حتى الآن، حسب كلامه.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة