في منافسات كرة القدم، يختار المدير الفني لاعبيه الأساسيين والاحتياطيين، بحسب ما يريده أو يستطيع تحقيقه من كل مباراة، فإن كان يطمع في الثلاث نقاط، اختار تشكيلًا هجوميًا، وإن طمح إلى “خطف التعادل” من خصم قوي، انتقى لاعبين ذوي نزعة دفاعية.. ولا أحد بالطبع يخطط للخسارة.
وكما تُدار المباريات تُدار السياسة؛ فيتحدَّد التشكيل الوزاري مثلًا، بحسب الأهداف التي تتوخى الدول بلوغها، ويُعيَّنُ مساعدو الرؤساء، وفقَ قدراتهم على تنفيذ الاستراتيجيات المحددة سلفًا، في خطط بعيدة المدى.
هذا ليس معمولًا به في عالمنا العربي البائس، فالحاكمون بأمرهم يختارون كبار المسؤولين، من أهل الثقة لا الخبرة، وحبذا لو كانوا ممن لم يفقهوا من الكلام إلا مفردتي “حاضر وتمام”، يرددونهما متى تلقوا التوجيهات، التي تترجم دائمًا عبقريةً أصحاب الجلالة والسمو والفخامة؛ أولئك الذين يفهمون في كل شيء، إذ يكلمون رب العرش في السماء السابعة، فيلمهمهم ما لا نستطيع نحن العوام الجهلة فهمه، ومن ثم لا نستطيع معه صبرًا.
في بنيوية النظام السلطوي تكمن عوامل الفشل، وتستقر مسببات الوهن، ولذلك تخسر “فرق الرجل الواحد” العربية، أو قل الدول بأسرها المباريات، وتتذيّل قائمة جدول دوري التقدم والتحضر والحريات والتعليم والطب، ومن ثم الأخلاق والاقتصاد.

الرئيس ليس بطل العرض الأوحد
في الغرب المتقدم في كل ما سبق، وعلى رأسه الولايات المتحدة، ليس الوضع كذلك، فالأمور تنضبط بآليات مؤسساتية صارمة.
الرئيس مجرد ترس من تروس ماكينة تتحرك نحو أهداف واضحة، ليس بطل العرض الأوحد، وإن كان بطله الأول، وإلى جواره صُنَّاع قرار سياسي واقتصادي وعلمي إلى آخره، وأولئك يُختارون بمعايير الكفاءة، ويتسابقون بعدئذٍ كالطهاة في مطعم مزدحم، لإعداد “الطبخة الاستراتيجية الأمريكية”.
كذلك طالما كانت تتحدد الأسس، لكن يبدو أن ترامب بما له من شعبوية خشنة، وبما يتسم به من نزوع إلى السلطوية، لم يلتزم في اختيار مساعديه إرث التقاليد السياسية الأمريكية، إذ عمد إلى خرق منظومة الثوابت التي وضعها “الآباء المؤسسون”.
اُختير فريق ترامب بلا استثناء من أُولي الولاء له أولًا، بغض النظر عن خبراتهم السياسية، على غرار النائبة تولسي جابرد التي أثار ترشيحها للاستخبارات الوطنية، لغطًا أمريكيًا عارمًا حول عدم كفائتها لهذا المنصب الحساس.

واُختيروا كذلك من أشد مؤيدي إسرائيل وأكثرهم يمينية وتطرفًا.
النقطة الأولى قد لا تعنينا كثيرًا، كونها شأنًا أمريكيًا داخليًا، مع الاعتراف بأنها ليست عديمة التأثير في المعادلات الدبلوماسية العالمية، في حين تتصدر الثانية الأولويات العربية الراهنة، أو على الأقل يُفترض أنها كذلك.
أولوية اللحظة هي الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، واحتمالات توسعها عبر مناوشة إيران، ثم بدرجة أقل معضلة الإصلاح السياسي فيما يتعلق بالديمقراطية وحرية التعبير في الداخل العربي.
نبدأ بالثانية، فلا يعتقدن إلا أحمق طائش العقل، أن الولايات المتحدة كانت في أي مرحلة رسول حريات ومبعوث ديمقراطية، وقد ثبت في مواقف فاصلة أنها مستعدة لإسباغ حمايتها على أنظمة ديكتاتورية إجرامية “يكرهها طوب الأرض”، ما دامت تُلبي مصالحها.
لكن في إطار الصورة كانت هناك مساحة قد تتسع وقد تضيق، لألوان تستر قبح الحقيقة؛ تصريحٌ بإدانة قمع المظاهرات هنا، دعوة إلى تبني الإصلاح السياسي هناك، استفسار خجول عن سجناء الرأي هنالك.
كلمات.. محض كلمات لذر الرماد في العيون، سعيًا لعدم خدش أسطورة الحرص الأمريكي على الحريات وحقوق الإنسان.
لكن حتى هذا المشهد الظاهري، أو قل فيلم المقاولات الأمريكي، قد أُسدل الستار عليه، ولن يُعرض في فترة ترامب المقبلة.
جميع مساعدي ترامب ونخبته السياسية من “نقاوة عينه”، شداد غلاظ قساة، لا مساحة للاعتبارات الأخلاقية والمعنوية، في سيرهم الذاتية و”سابق أعمالهم السياسية”، وهم من خلفيات انتهازية ورأسمالية، قنَّاصة صفقات معظمها عقارية أو بتعريف أدق صفقات “بيع الأرض”.
وجميعهم استنساخ سياسي وفكري للرئيس، الذي يُبدي إعجابه جهرًا بالنماذج السلطوية العربية، وله “ديكتاتوريون مفضلون” يحتفي بهم، ويُقربهم إليه من دون مراعاة للحد الأدنى من الحياء أو الكياسة السياسية.
بعبارة أخرى، هم قمعيون واضحون، لا يهتمون ولا يعنيهم تجميل صورهم الفظة القبيحة، “وجوههم مكشوفة” ينطلقون من أسس برجماتية محضة، وشعارهم “أمريكا أولًا” أو قل “أمريكا فقط”.
مع فريق هذا شأنه، ليس ثمة مجال للتفكير في ضغوط أمريكية لتحقيق انفراجة سياسية في المنطقة.
العلاقات سترتسم بين واشنطن والعواصم العربية، حسب صفقات البيزنس الاقتصادية والسياسية، وما دام النظام هذا أو ذاك يلبي مصالح واشنطن وبالتبعية مصالح تل أبيب، وينفذ أوامر واشنطن وبالتبعية أوامر تل أبيب، فله أن يقمع شعبه كيفما يشاء، وأمريكا في هذه الحالة لن تسمع ولن ترى ولن تتكلم.
فريق أحلام إسرائيلي في البيت الأبيض
أما فيما يتعلق بمدى الانحياز لإسرائيل، فيكفي دليلًا ما تقوله الأوساط الصهيونية، في قمة الهرم السياسي لدولة الاحتلال، من أن فريق ترامب “فريق أحلام إسرائيل”، الذي سيطلق يد نتنياهو للقضاء على حركة حماس وحزب الله، والإجهاز على المشروع النووي الإيراني.
تمعن أسماء فريق ترامب، كفيل بتبديد أي أمل في حلول أمريكية عادلة لأزمات المنطقة.
من أبرز رموز الفريق، المرشحة لمنصب سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة؛ السيناتور إليز ستيفانيك.
سياسية شرسة في نحو الأربعين، انضمت للجمهوريين بعد انشقاقها عن الديمقراطيين، تحظى برضا الصهاينة ومؤيديهم، لِمَا قامت به من عملٍ محموم إزاء المظاهرات الطلابية الأمريكية ضد حرب الإبادة على غزة، إلى حد استجوابها رئيسي جامعتي هارفارد وبنسلفانيا في الكونغرس، واتهامهما بمعاداة السامية، حتى دفعتهما إلى الاستقالة.
ولا تختلف توجهات مارك روبيو المرشح لحقيبة الخارجية، فالسياسي الذي يوصف على نطاق واسع بأنه من عتاة الصقور الجمهوريين، كان أدان محاولات إدارة الرئيس بايدن إقناع نتنياهو بعدم اجتياح رفح، واعتبر حرب الإبادة الإسرائيلية ضمن حق الدفاع عن النفس، ووصف الشهيد الجليل يحيى السنوار بأنه “هتلر المعاصر”، واستعار لسان مجرم الحرب المطلوب للعدالة؛ وزير الدفاع الإسرائيلي؛ المقال يؤاف غالانت، إذ نعت الحمساويين بـ”الحيوانات”.
هنا لا بد من جملة اعتراضية، فالحمساوي في الميزان الأمريكي والإسرائيلي، هو توصيف يشمل الغزيين إجمالًا، وربما الفلسطينيين كلهم، فالكل أمام الرصاص الإسرائيلي سواسية.
أما مايك هاكابي حاكم أركنساس السابق، الذي اُختير لتولي سفارة واشنطن -التي نُذْكِّرُ أن ترامب نقلها إلى القدس المحتلة- فمن أشد السياسيين الأمريكيين حقدًا على الفلسطينيين، وقد بدت البغضاء من فمه حين قال في تصريحات سابقة: “لا يوجد شيء اسمه فلسطيني”.

يزداد التطرف وضوحًا وجموحًا بعدئذٍ، بترشيح اليهودي اليميني ستيف ويتكوف، مندوبًا إلى الشرق الأوسط، فالرجل الذي يلعب الغولف مع الرئيس الجديد القديم، ويرتبط بصداقة متينة وإياه نظرًا لأنه مقاول مثله، وقد حقق ثراءً فاحشًا من الاستثمارات العقارية، كان شن هجومًا لاذعًا على الديمقراطيين، على خلفية قرار إدارة بايدن وقف شحن القنابل “مؤقتًا” إلى إسرائيل، وردَّ على ذلك بجمع الأموال لحملة ترامب من يهود الولايات المتحدة.
الأسماء السابقة محض أمثلة، وتمثل جزءًا من كلٍّ لا يشذ أو يتباين أو يختلف عنها فكرًا وأداءً سياسيًا وأيديولوجيًا.
القول الفصل والحال كذلك، أن الدبلوماسية الأمريكية، ستغدو في قبضة نتنياهو والذين معه، وسيصير كبار مسؤوليتها عرائس ماريونيت، خيوطها مشدودة بقوة إلى مجلس الحرب الإسرائيلي “الكابينت”.
على أن ذلك لا يثير الاستغراب، ولا ينبغي أن يثيره، فالرئيس الجديد القديم الذي “خبزناه وعجناه” في فترته الأولى، لم يتجمّل خلال حملته الانتخابية، إذ أفصح عن توجهاته بوضوح: “أنا خير صديق لإسرائيل” وكذلك “ما لم أفُز ستكون إسرائيل إزاء تهديد وجودي”.
ملامح صورة المستقبل مع ترامب، تبدو واضحة للغاية، وقد اختزلها مجرم حرب إسرائيلي ومحللة سياسية عربية، كلٌّ حسب توجهه.
مجرم الحرب هو سموتريتش، وزير المالية اليميني الذي كتب احتفاءً بتعيين هاكابي سفيرًا لواشنطن لدى دولة الاحتلال، “أتطلع إلى العمل مع السفير الأمريكي الجديد، لتعزيز الانتماء التاريخي الذي لا جدال فيه لأرض إسرائيل بأكملها لشعب إسرائيل”.
أما المحللة فهي الفلسطينية نور عودة التي قالت في تصريحات صحافية: “أعتقد أن هذه التعيينات هي نحتاجه لفهم ما ينتظرنا”.
التناقض بين كلام الطرفين بديهيٌ، فالفرحة الإسرائيلية إزاء أي شيء، لا بد أن يقابلها توجس عربي، إذ ليس مستساغًا أن تتوافق مشاعرنا مع مشاعر أعدائنا، إلا إذا كنا خونة أو حمقى، أو ربما في منزلة بين المنزلتين.
قلنا في البداية إن المدير الفني يختار لاعبيه، بحسب ما يريده من المباراة، لكن ليس خافيًا أن مفاجآت المستطيل الأخضر، قد تدفعه إلى إجراء تغييرات، فيسحب لاعبًا ويدفع بآخر، وهذا ليس مستحيلًا في حالة فريق ترامب، فالمواجهة العسكرية مفتوحة على كل السيناريوهات، والمقاومة رغم خسائرها، تشن هجمات مرتدة مبهرة من حين لآخر، وإزاء ذلك قد يتبدل التشكيل لتبدل الخطط والأولويات.