"النداهة".. مشروع يحارب خطر اندثار السمسمية

"غنّي يا سمسمية لرصاص البندقية ولكل إيد قوية حاضنة زنودها المدافع"؛ هكذا كنت أدندن مع صوت محمد منير أثناء مشاهدتي فيلم "حكايات الغريب" الذي أحبه. لم تكن علاقتي بالسمسمية سوى هذه الأغنية وهذا الفيلم، أي لم أكن من دروايشها ولم أندفع مرة للبحث عنها، حتى التقيت محمد مسعد، وهو مؤسس مشروع باسم "النداهة" لحفظ وتوثيق تراث ألة السمسمية، أهداني ميدالية صغيرة على شكلها، وحكى لي بشغف عن فكرته، فوجدتني وبعد حضور حفلة غناء وعزف بختام المشروع، أعرف لماذا سماها "نداهة"، وجدتني أبحث عن أغاني الحب والحرب والحرية وأنا أرقص ببهجة!

النداهة محاولة إنقاذ السمسمية

قرر الشاب البورسعيدي محمد مسعد، المغرم بتراث محافظته، أن يؤسس مشروعًا يخص تراث آلة السمسمية، خوفًا من اندثارها بعد رحيل معظم رواد العزف والصناعة، وبعد حصوله على تمويل من معهد جوته الألماني ضمن مشروع خارج حدود العاصمة، بدأ العمل على تقسيم مشروعه إلى مراحل متعددة حتى يضمن إنتاجًا جيدًا في نهاية أشهر قليلة. 

محمد مسعد مؤسس مشروع النداهة
محمد مسعد مؤسس مشروع النداهة

يقول مسعد لـ"فكر تاني" إن "النداهة" مشروع يهدف إلى الحفاظ على تراث آلة السمسمية على ثلاث مراحل: البحث والتوثيق، وتقديم ورش حكي، ثم الإنتاج الذي يتنوع بين العزف والرقص وتصنيع الآلة.

ويقوم المشروع في الأساس، وفق مسعد، على توثيق كثير من الأغاني التي تم غنائها على السمسمية، وبدأ الناس يتناسوها، تحديدًا مع غياب المؤثرين من المشاركين في صناعة هذا التراث بسبب الوفاة مثلًا، وأبرزهم الريس زكريا، لذا شعرنا بضرورة وجود مشروع توثيقي يخلد تاريخ السمسمية عمومًا، ويربط الأجيال الجديدة بها لنضمن استمراريتها.

يضيف مؤسس "النداهة": "فكرت في المشروع أيضًا بسبب أن صانع آلة السمسمية في بورسعيد هو شخص واحد فقط؛ الريس محمد غالي، وبالتالي تقلص دور وجود السمسمية كآلة وكصناعة تراثية معبرة عن هوية مدن القناة، ومهملة من قبل العازفين بالتبعية".

تقوم المرحلة الأولى من مشروع "النداهة" على التوثيق، التي يتولاها فريق بحثي يجمع أغاني السمسمية وألحانها وكلماتها والمؤثرين فيها؛ لإتاحتها في شكل أرشيف رقمي، ومن ثم تعريف الناس بالآلة تاريخيًا.

أما المرحلة الثانية فتخص التعليم والتعزيز، وتستهدف خلق جيل جديد قادر على العزف على السمسمية، وتتضمن ورش وجولات وحفلات، أما ورشة التصنيع فقد تفوقت فيها 4 فتيات، صنعن 4 آلات سمسمية بأشكال مبهرة ومتنوعة، كما يوضح مسعد، الذي يشير إلى تخرج 3 راقصين بينهم طفل و4 عازفين، عطفًا على 7 مشاركين في ورش الحكي، ومثل حفل الختام المرحلة الأخيرة التي عرضت كل هذه الجهود وثمارها.

يحلم مسعد باستمرارية مشروع "النداهة" ليكون الوجهة الأولى لكل دروايش ومحبي السمسمية. ويقول إن الأمر مرتبط بمدى استمرارية التمويل للحصول على مكان مناسب مثل مسرح صغير وجاليري وستديو للتسجيل، لكن في كل الأحوال يؤكد أنهم سيعملون بكل جد للتواجد المكثف دائمًا.

السمسمية الشكل والتاريخ

السمسمية آلة وترية تراثية تنتمي لفئة القيثارة، بخمسة أوتار، تُشكل عنصرًا ثقافيًا هامًا بتاريخ المدن الواقعة على طول قناة السويس: بورسعيد، والسويس، والإسماعيلية.

"يبدو أن السمسمية وصلت إلى قناة السويس عبر طرق وهجرات مختلفة للعمال النوبيين في القرن التاسع عشر وأثناء حفر القناة، وهي تشبه آلة الطنبورة إلى حد ما، لكنها حين دخلت إلى الدلتا وشمال القناة قابلت بيئة موسيقية ترتبط بالصوفية وأناشيد الموالد والذكر، عطفًا على أغاني البحارة والصيادين، فامتزج كل هذا الكنز الغنائي وتلحن على السمسمية"؛ تقول الدكتورة كوكب توفيق، باحثة ما بعد الدكتوراة في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية (IFAO) ومركز الدراسات الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (CEDEJ) بالقاهرة.

فيما يذكر الدكتور وليد حسين عناني مدرس النظريات والتأليف بكلية التربية النوعية بجامعة بورسعيد، في دراسته، أنه بينما كانت موسيقى الجاليات الأجنبية بمدن القناة تؤدي نوتات أشهر الموسيقيين، كانت موسيقى وأغاني السمسمية البسيطة تحكي التراث والقصص الشعبي، وتسير وفق فطرة مؤدييها الذين ربما لا يعرفون أي نوتات موسيقية، ومع ذلك لم تكن عشوائية أبدًا، بل اقترنت بالأداء الشفهي، وأصبحت أداة تواصل بين عدد من المدن البحرية. 

كذلك، يشير عناني إلى "الضمة" كأحد أبرز مظاهر أغاني منطقة قناة السويس، وهي طقس شعبي ارتجالي ينضم خلاله الناس حيث يؤدون رقصات فلكلورية وهم يرددون الأغاني على أنغام السمسمية، وتسمى مجموعة الضمة بالصحبجية، بينما تُسمى الرقصات بـ"البمبوطية".

ومن أشهر صحبجية الضمة الريس زكريا مؤسس فرقة الطنبورة، والذي سعى بكل جهده للحفاظ على تراث بورسعيد من أغاني الضمة.

في حديثها لـ"فكر تاني"، تقول الكاتبة دينا شحاتة، وهي إحدى المشاركات في ورشة الحكي بمشروع النداهة: "حضرنا ورشات حكي وكتابة وحاول كل مشترك/ة كتابة حدوتة تخصه عن السمسمية. أيضًا من ضمن أنشطة ورش الحكي كانت جولاتنا في حي العرب المعروف بحي العمال، الذين كانوا يلتفون حول السمسمية قديمًا، ويعتبرونها فنهم الخاص المُعبر عنهم، وكانوا يدعونها (قعدة حظ)، وينادون بعضهم بـ(يالا نتحظ) لارتباط السمسمية بجلسات الحظ والمزاج في البداية، لكن العدوان الثلاثي على مصر في 1956 كان نقطة تحول في طبيعة السمسمية، وأصبح الأمر مرتبطًا بأغاني المقاومة.. بقت تتكلم بلسان الناس في الشارع وتحكي حكايات مقاومتهم والأحداث السياسية والتاريخية".

تضيف دينا: "حين تم تهجير أهالي بورسعيد في نفس الفترة إلى محافظات ومناطق مختلفة، كانت السمسمية نقطة تجمعهم باعتبارها رمزًا تراثيًا يخفف عنهم غربتهم عن محافظتهم. ثم، في عصر الانفتاح، ولما أصبحت بورسعيد منطقة حرة، فقدت الآلة حسَّها الأصيل وأصبحت تُستخدم في الأفراح بشكل مبتذل دون الحفاظ على روحها الأصلية. حتى ظهر "الريس زكريا"، الذي بدأ في تجميع الناس والأغاني التراثية للسمسمية، وحاول بكل الطرق التواصل مع المغنيين لإقناعهم بالعودة للغناء. وبالفعل، أعاد إحياء السمسمية بطابعها الأصيل مرة ثانية، واستطاع من خلال فرقته "الطنبورة" أن يُسجل أغاني السمسمية، وأشهرهم كانت أغنية "زي النهاردة". وظل يعمل على تدريب أطفال صغار على عزف السمسمية ليضمن جيلًا جديدًا، كان من ضمنهم العازف أحمد عشري، الذي أصبح الآن قائد فرقة "صحبة سمسمية".

فتيات يتفوقن في تصنيع الآلة

تتطلب صناعة آلة السمسمية إتقانًا تامًا وعملًا مجهدًا، يبدأ من التقطيع والرسم وصولًا إلى استخدام الأخشاب في تشكيل الآلة. في مرحلة من مشروع "النداهة"، نجحت مجموعة من الفتيات في صناعة أربع آلات سمسمية مختلفة الأشكال والأحجام، بعد شهر من العمل الشاق. لكل منهن حكاية خاصة حول رحلتها المثمرة في هذا المشروع.

التقت "فكر تاني" بإيناس الزاهد في حفل تخرج المشروع، وكانت تحمل سمسميتها الزرقاء في يدها وكأنها رضيعتها. تقول إيناس: "منذ سنوات وأنا أستمع لأغاني السمسمية، وكان لدي شعور بأنها نادتني. كل أغنية وكل كلمة وراءها قصة وحكاية ورسالة".

إيناس الزاهد
إيناس الزاهد

بدأت إيناس حضور حفلات السمسمية منذ ثلاث سنوات، وعندما رأت إعلان ورشة التصنيع قررت أن تجرب، لكنها كانت خائفة جدًا، على حد تعبيرها. تقول: "شعرت أن الموضوع صعب جدًا، كيف يمكنني أن أصنع سمسمية حقيقية من الخشب؟ لكن مع مرور الوقت، كنت متشوقة لإنهاء العمل في كل مرحلة. عشت كل مرحلة بداية من تخيل الشكل إلى رسم التصميم على الورق ثم نقله إلى الخشب. في النهاية، أنجزت السمسمية وأصبحت أكثر تعلقًا بها".

أما رحمة الله حمادة، البالغة من العمر 21 عامًا وتدرس التربية الفنية، فقد بدأت علاقتها بالأخشاب مع والدها. تقول: "كان لدي شغف بالأخشاب وصناعة الأشكال، لكن بعد وفاة والدي فقدت شغفي بهذا المجال وبكل شيء يتعلق به، بما في ذلك دراستي. لكن بعد رؤية إعلان ورشة التصنيع، قررت أن أعود لهذا الشغف. في البداية، كنت أعتقد أنني لن أصنع آلة حقيقية، بل ربما مجرد ميداليات صغيرة، ولكن تفاجأت بأنني مطالب بصناعة آلة سمسمية حقيقية من البداية للنهاية".

كانت رحمة تعمل بشغف كبير، وكانت تتعلم الكثير عن السمسمية، حتى أنها الآن تحولت إلى مساعدة الآخرين على التعلم.

تحكي فاطمة، البالغة من العمر 22 عامًا، بحماس وهي تقف بجوار سمسميتها المصنوعة على شكل قمر، أنها لم تحظَ بدعم أسرتها في البداية، لكنها استمرت في العمل حتى أنجزت الآلة. وقالت: "أنا أحب كل الأعمال اليدوية، وعندما سمعت نداء السمسمية لبّيت الدعوة. عملت لساعات طويلة في النجارة حتى أنجزت الآلة، وعندما رأيت السمسمية تُعزف في الحفل، كنت في غاية السعادة".

 

كانت فاطمة تُظهر فخرًا عميقًا بما أنجزته، حتى أن شقيقتها التقطت لها صورًا تذكارية في الحفل.

أما ندى، طالبة في كلية الهندسة، فقد صنعت سمسميتها على شكل قطة، مشيرة إلى حبها الكبير للقطط التي تربّيها، مما جعلها تختار هذا الشكل الفريد.

اتفقت الفتيات جميعًا على أن الفضل في ظهور آلاتهن بهذا الشكل يعود إلى الريس محمد غالي، صانع السمسمية الوحيد في بورسعيد، الذي تولى تدريبهن.

ترك غالي لهن مساحة للخيال والإبداع، وظل يدعمهن حتى النهاية. وأشاد في كلمته بفتيات المشروع، قائلًا إنه انبهر بقدرتهم على تحمل مشقة العمل في النجارة وصناعة السمسمية بدقة عالية.

عزف السمسمية بين الأجيال

يقول أحمد العشري، مؤسس فرقة "صحبة سمسمية" ومدرب العزف في مشروع "النداهة"، إن فيلم "النداهة" الذي أخرجه الريس زكريا إبراهيم قبل 22 عامًا كان السبب الرئيسي لبدايته مع السمسمية. فقد تعلم العزف وهو طفل، وعزف في الفيلم صحبة والده محسن عشري وجده حسن عشري.

وبعد ذلك، بدأ في تعليم بعض الشباب العزف، وكانوا يجتمعون مع آخرين للعزف والرقص والغناء.

يضيف العشري: "فكرت حينها في تأسيس فرقة صحبة، وأصبحت مؤمنًا بأن السمسمية تراث يجب الحفاظ عليه، وأصبح شعار الفرقة: تراث الأجداد يحييه الأحفاد".

وفي حديثه لـ"فكر تاني"، أشاد العشري ببعض الأسماء البارزة في هذا الفن، مشيرًا إلى الريس زكريا إبراهيم كأفضل مدير ومناضل ومؤرخ لحفظ التراث. وقال: "لولا وجوده لكانت السمسمية قد اندثرت".

كما أشار إلى دور جده حسن عشري، الذي سافر إلى دول مختلفة ومثل مصر في مهرجان عيد استقلال أمريكا، حيث حصلت مصر على المركز الأول في فئة الموسيقى الشعبية.

وأضاف أنه أنتج حوالي 18 ألبومًا للسمسمية وشارك في عدد من الأفلام السينمائية.

كما ذكر العشري دور والده محسن عشري في تطوير آلة السمسمية، حيث أضاف "العرب" أو صفًا آخر من المفاتيح، مما ساعد في التنقل بين المقامات، وقام بتأليف أول مقطوعة لحنية في السمسمية وسجل ألبومًا كاملًا من مؤلفاته بعنوان "أرواح".

وعن مشاركته في مشروع "النداهة"، أكد أحمد العشري أن مرحلة تعليم العزف كانت ذات أهمية كبيرة لتخريج عازفين من الأجيال الجديدة، استكمالًا للهدف الأكبر وهو حماية التراث.

وذكر أنه تم تخريج أربعة عازفين بعد حوالي ثلاثة جلسات تدريبية طويلة، مشيرًا إلى أن تعلم آلة السمسمية، مثل أي آلة موسيقية أخرى، يتطلب الصبر والشغف والاطلاع المستمر.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة