قبل ثلاثة أشهر، قرر أحمد يمني، البالغ من العمر 70 عامًا، التوقف عن استخدام سيارته في التنقل من مقر إقامته بمدينة السادس من أكتوبر إلى نقابة المهندسين بشارع رمسيس.
اتخذ قراره هذا بعد أن فوجئ في آخر رحلة بأن تكلفة استخدام سيارته القديمة من طراز السبعينيات في المشوار الواحد تصل إلى 150 جنيهًا. لم يجد بديلًا سوى ركوب أتوبيس تابع لشركة خاصة، رغم أن سعر تذكرته يبلغ 25 جنيهًا، وهو ضعف سعر أتوبيس النقل العام، إلا أنه أكثر راحة وأقل ازدحامًا.
يمني في حديثه لمنصة فكر تاني، يوضح أنه اشترى سيارته في التسعينيات بالتزامن مع انتقاله إلى مدينة السادس من أكتوبر، حيث كانت وسائل النقل محدودة آنذاك. "كان توفير الوقت أولوية مقارنة بتوفير المال، وأصبحت السيارة وسيلة تنقلي الوحيدة لمدة ثلاثة عقود.. اليوم أصبحت أسعار الوقود مرتفعة بشكل لا يُحتمل، ولم يعد توفير الوقت يعوض التكلفة المادية الكبيرة، خصوصًا بعد التقاعد".
عمل يمني مهندسًا حرًا قبل تقاعده، واستثمر مدخراته في بناء منزل مكوّن من أربعة طوابق بمدينة السادس من أكتوبر، حيث يسكن مع أبنائه الثلاثة. يؤجر أربع شقق، لكنّه يوزّع إيجاراتها على أبنائه، ليبقى له دخل شهري من إيجار شقتين فقط بقيمة 9000 جنيه، بالإضافة إلى 1600 جنيه معاش نقابة المهندسين، ليصل إجمالي دخله إلى 10600 جنيه.
ومع ذلك، يجد صعوبة في تغطية المصاريف، حيث يدفع فواتير مياه وكهرباء وإنترنت تتجاوز معاش النقابة.

المصريون والوقود وسياسات التخلي
يقصر يمني استخدام سيارته الآن على رحلتين أسبوعيًا؛ الأولى إلى سوق الحي السادس لشراء احتياجات المنزل بالجملة، والثانية إلى نادي نقابة المهندسين في المدينة نفسها، حيث يصطحب أحفاده. ويؤكد أنه خفّض زياراته لمقر النقابة في القاهرة.
يمني يعد نموذجًا لملايين المصريين الذين اضطروا إلى تغيير نمط تنقلاتهم بسبب الزيادات المستمرة في أسعار الوقود خلال السنوات العشر الماضية. وكانت وزارة البترول المصرية قد أعلنت، الجمعة الماضية، عن رفع أسعار الوقود للمرة الثالثة هذا العام، لتقليل الفجوة بين أسعار المنتجات البترولية وتكلفة إنتاجها.
ووفقًا لبيان الوزارة، أصبح سعر لتر "بنزين 95" يبلغ 17 جنيهًا، و"بنزين 92" يصل إلى 15.25 جنيه، و"بنزين 80" إلى 13.75 جنيه. كما ارتفع سعر السولار والكيروسين إلى 13.50 جنيه لكل لتر، في حين استقر سعر المازوت المخصص للكهرباء والصناعات الغذائية، بينما أصبح سعر غاز تموين السيارات 7 جنيهات للمتر المكعب.
مثل يمني، قرر أحمد فتوح، الذي يعمل صانع مشروبات في كافيتريا بشبرا الخيمة، استئجار غرفة بالقرب من مكان عمله بدلًا من التنقل يوميًا من محل إقامته في بنها، بعد أن ارتفعت تكلفة المواصلات إلى 68 جنيهًا يوميًا.
يبلغ راتب فتوح الأساسي 5000 جنيه، ويتلقى نحو 1500 جنيه إضافية من الإكراميات، ليصل إجمالي دخله إلى 6500 جنيه.
يؤكد فتوح لـ فكر تاني أن قراره السكن في شبرا الخيمة جاء بعد حساب تكاليف النقل والمعيشة، حيث وجد أن دفع 500 جنيه شهريًا مقابل غرفة مشتركة هو الحل الأنسب، مع إعداد والدته وجبات أسبوعية يأخذها معه. إلا أن هذا القرار لم يكن سهلًا عليه، خاصة في ظل مرض والده بالسرطان، وحاجته المستمرة إلى التردد على المستشفى.
القلق الأكبر الذي يشغل فتوح يتمثل في التفكير في مرحلة ما بعد الزواج؛ إذ أن هناك احتمال للانتقال بشكل دائم في شبرا الخيمة، ما يتطلب توفير شقة للسكن، أو البقاء في شقة العائلة والتنقل يوميًا، وهو ما قد يكون مكلفًا، أو البحث عن وظيفة جديدة في بنها، وهذا أمر صعب عليه أيضًا.

الوقود.. 11 زيادة في 10 سنوات
شهدت مصر خلال عشرة أعوام كاملة هي فترة حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي 11 زيادة في أسعار الوقود، كانت أولاها في 2014، حيث كان سعر بنزين 80 نحو 90 قرشًا، بينما بلغ في آخر زيادة 13.75 جنيه، أما بنزين 90 فقد ارتفع من 1.85 جنيه إلى 15.25 جنيه في آخر زيادة، أما بنزين 95 فكان يسجل 5.85 جنيه حتى وصل بسعره الحالي إلى 17 جنيه.

وسجل السولار الذي يستخدم على نطاق واسع في النقل تنقلًا في الزيادات من 1.10 جنيه إلى 13.50 جنيه، أما سعر غاز السيارات فكان سعره 40 قرشًا ووصل في آخر زيادة إلى 7 جنيهات.
وفي 2018 أصدر مجلس الوزراء القرار رقم 2764 بتشكيل لجنة لمتابعة أسعار الوقود، إلا أن القرار ظل مجمدًا حتى صدور القرار رقم 505 لسنة 2019 بتحديد أعضاء اللجنة، الذين أوكلت إليهم مهمة متابعة أسعار الوقود، وتحديد أسعاره، وفقًا للأسعار العالمية، وتصدر عنهم منذ ذلك الوقت كل الزيادات.
سيارة للجميع.. والجميع لحل أزمة الوقود
مع بداية العام الدراسي الجديد، وجدت مارسيل، والدة الطفلة أوليفيا، نفسها مضطرة لإيجاد حلول بديلة لتوصيل ابنتها من منطقة سانت تريزا في شبرا إلى مدرسة سان جوزيف للراهبات بالعباسية.
على مدار خمس سنوات كانت مارسيل تعتمد على سيارتها الخاصة، لكن مع ثلاث زيادات في أسعار الوقود هذا العام -اثنتان قبل بداية العام الدراسي وواحدة بعده- أصبحت تكلفة النقل عبئًا كبيرًا.
للتغلب على هذه المشكلة، أعلنت مارسيل عبر مجموعة المدرسة على تطبيق "واتساب" عن توفر ثلاثة أماكن إضافية في سيارتها مقابل 800 جنيه شهريًا للمكان الواحد. بالفعل، اتفقت ثلاث أمهات على الاشتراك معها لنقل أطفالهن ذهابًا وإيابًا.

تقول مارسيل: "المدرسة لا توفر أتوبيسات، لذا غالبية الأمهات يشتركن في سيارات خارجية أو يتعاونّ فيما بينهن. كنت أُفضّل توصيل ابنتي بنفسي توفيرًا للوقت، ولكن مع ارتفاع أسعار البنزين لم أعد أستطيع تحمل التكاليف. هذا الحل الجديد يتطلب من ابنتي الانتظار يوميًا ساعتين في السيارة ذهابًا وإيابًا مع زملائها، كما يقيدني بعدم القدرة على التغيب حتى في حال مرض ابنتي، وهو ما حدث بالفعل في الأسبوع الثاني عندما مرضت وتركتها عند أختي واضطررت لتوصيل باقي الأطفال".
مارسيل ربة منزل، وتعتمد الأسرة على دخل الزوج الذي يعمل محاسبًا ويتقاضى نحو 17 ألف جنيه شهريًا. لكن هذا المبلغ بالكاد يغطي احتياجات الأسرة المكونة من أربعة أفراد، بما فيهم طفل رضيع. بالإضافة إلى ذلك، يضطر الزوج لاستخدام سيارة أخرى يوميًا في تنقلاته إلى عمله بمدينة نصر، مما يضيف عبئًا إضافيًا على ميزانية الأسرة في ظل ارتفاع أسعار الوقود.
تظهر قصة مارسيل التحديات التي تواجهها العديد من الأسر في مصر نتيجة زيادة تكاليف المعيشة، حيث أصبحت الحلول الجماعية أو التخلي عن بعض الأولويات أمرًا لا مفر منه لمواجهة الأزمة.
التوكتوك لم يعد ملاكي
لم تقتصر تأثيرات زيادات أسعار الوقود على أصحاب السيارات ووسائل المواصلات العامة، بل امتدت إلى سائقي التوكتوك.

محسن سائق توكتوك في منطقة منطي التابعة لمركز قليوب، اضطر إلى تغيير طريقته في العمل بعد ملاحظة انخفاض أعداد الركاب نتيجة زيادة تكاليف التنقل. يقول: "مع بداية العام، لاحظت أن الركاب أصبحوا أقل إقبالًا على ركوب التوكتوك بسبب ارتفاع سعر البنزين. لذا فكرت في وسيلة تتيح لي تحقيق الربح مع تقليل التكلفة على الراكب. وجدت أن الحل هو تقاسم الرحلة بين راكبين متجهين إلى الوجهة نفسها.. أقف عند الطريق الدائري وأبحث عن راكبين وأوصلهما معًا مقابل تعريفة تزيد قليلًا عن نصف تكلفة الرحلة لكل راكب".
يضيف محسن: "بهذه الطريقة التي تختلف عن نظام المواقف في الاعتماد على تحميل عدد كبير من الركاب، اكتفي بنقل راكبين فقط، مستهدفًا بشكل خاص الركاب المعتادين على استخدام التوكتوك الذين لم يعودوا قادرين على دفع التعريفة القديمة".
من بين هؤلاء الركاب الذين يقصدهم محسن وجدت سعدية صالح، بائعة خضار من منطقة أبو الغيط بشبين القناطر، والتي كانت تبيع في سوق العرب بشرق شبرا الخيمة، نفسها مضطرة إلى ركوب سيارة مخصصة لنقل الخضار، بعد ارتفاع أجرة التوكتوك.
تقول: "كنت أخشى الركوب فوق الخضار بسبب حادث قديم شاهدت فيه فتاة تسقط من السيارة، لذا كنت أدفع 100 جنيه يوميًا لسائق توكتوك ليُوصلني مع الخضار. لكن قبل أربعة أو خمسة أشهر، أبلغني السائق بزيادة الأجرة إلى الضعف بسبب ارتفاع تكاليف الوقود، ما اضطرني للانتقال مع زميلاتي في السوق بسيارة نصف نقل مقابل 50 جنيهًا فقط".
تغيرت الحياة اليومية لسعدية، التي لجأت إلى تخفيض الخروج مع أحفادها لتجنب زيادة التكاليف. تضيف: "عندما نضطر للخروج أنا وبناتي، تُجلس كل واحدة منها حفيدًا على رجلها لتوفير تكلفة المقاعد في الميكروباص، رغم أن أحد الأحفاد تجاوز السنوات العشر من عمره".
هذا التغيير في السلوك الذي تتبعه سعدية وبناتها يؤدي أحيانًا إلى مشاجرات مع بعض السائقين الذين يرفضون تجاوز عدد الركاب المسموح به. بينما البعض الآخر يواصل محاولة البحث عن حلول بديلة للتكيف مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وسط توقعات بمزيد من التحديات مع الزيادات المستقبلية في أسعار الوقود.
ما الذي تغير في الراكب الكبائني؟
قبل سنوات صدر كتاب "فيصل تحرير.. أيام الديسك والميكروباص" للكاتب حمدي عبد الرحيم، يصف فيه أنواع الركاب، ومن بينهم الراكب الكبائني، الذي يفضل الكرسي المجاور للسائق، رغم أنه يحسب باثنين.

مصطفى عيسي كان أحد هؤلاء، لا لشئ إلا لإصابته بخشونة في مفصل الركبة استدعي تفضيله لهذا النط الكبائني حماية لساقه التي لا تتحمل ثنيًا لفترة طويلة، خاصة وأنه يتنقل يوميًا من منزله في حدائق أكتوبر الذي حصل عليه ضمن مشروعات الإسكان الاجتماعي، وعمله في شركة شحن بمنطقة أكتوبر كمدير فرع.
الراتب الجيد بالشركة لسنوات، ساعد مصطفى في الحصول على سيارة خاصة، مستعملة نعم لكنها خاصة. ولكن مع ارتفاع تكلفة البنزين، وكذلك الأعطال المتكررة للسيارة، اضطر لبيعها، لاسيما مع ولادة طفله الثالث، وتكاليف المعيشة، ومنذ ذلك الوقت حافظ على كونه الراكب الكبائني.
يقول: "حتى المقعدين إلى جانب السائق لم أعد أتحملهما إذ ارتفعت الأجرة من 12 إلى 14 جنيهًا.. أتحمل خشونة الركبة لكن كيف أتحمل الارتفاعات المتتالية في الأسعار.. أي مقعد في الميكروباص الآن يشبه الآخر.. هعمل ايه مضطر".
لم تكن تأثيرات الأزمة على مصطفى مقتصرة على تنقلاته فحسب. بسبب ارتفاع أسعار الوقود وزيادة تكاليف النقل الذكي، اضطرت زوجة مصطفى إلى تعديل نمط حياتها بشكل جذري.
كانت في السابق تتنقل بين منزلها ومنزل عائلتها في فيصل رفقة أطفالهما الثلاثة لعدة أيام في الأسبوع، ثم تعود بهم إلى منزل الأسرة في حدائق أكتوبر. لكن مع الأعباء الاقتصادية المتزايدة، أصبح من الصعب القيام بهذه الرحلات بشكل أسبوعي.
حاليًا، يقيم الأطفال مع عائلة والدتهم لفترات أطول، ويعودون إلى منزلهم في الأسبوع الأخير من كل شهر فقط. هذا الحل المؤقت فرض نفسه نظرًا لصعوبة تنقلهم المتكرر وتفاقم النفقات، لا سيما أن زوجة مصطفى تعاني من مضاعفات حملها الأخير، مما يجعل من الصعب عليها رعاية الأطفال بمفردها.
لم تتوقف التحديات عند التنقل فقط؛ فالأسرة تعيش في حالة من التكيف القسري مع الوضع الاقتصادي، ما يزيد من الضغط النفسي على جميع أفرادها.
كل زيارة نادرة من الأطفال إلى منزلهم تتحول إلى لحظات ثمينة، لكنها مشحونة بالقلق حول ما إذا كان الوضع سيزداد سوءًا في الأشهر المقبلة.
الزيادات المستمرة في تكاليف الوقود تلقي بظلالها على حياة الأسر المصرية، تلقى بظلالها على الأفراد المقبلين على الزواج، تلقي بظلالها على المسنين الراغبين في ختام هادئ بعيدًا عن القلق، تلقي بظلالها على الجميع.
تخلى يمني عن سيارته، وتخلى أحمد عن أسرته، وتخلت سعدية عن أمنها، وتخلى مصطفى عن مراعاة وضعه الصحي، وتخلت مارسيل عن خصوصية ابنتها.
كل هؤلاء حاولوا للتكيف مع وضع، وعد رئيس الوزراء بعدم زيادته سوءًا إلا بعد 6 أشهر أخرى، مع اجتماع لجنة تسعير المواد البترولية الجديد. ولا يعرف هؤلاء وملايين غيرهم من المصريين ما الذي يمكن التخلي عنه مع الزيادة القادمة؟