القاهرة في أعين أولادها.. إعادة "رسم مصر" بالفرشاة والألوان

تُسافر "عُلا" أسبوعيًا من مدينتها الصغيرة -شبين الكوم- بمحافظة المنوفية إلى القاهرة، للاستمتاع بجولات رسم مصر، تخرج من السابعة صباحًا، وتستقل إحدى سيارات الأجرة كي تتمكن من اللحاق بالجولة في موعدها المُحدّد -التاسعة صباحًا- تصل إلى المكان المقصود بجدول رسم مصر لهذا الأسبوع.

تسرح بعينيها في ملامح المكان، تنظر بشغفٍ -قدر حُبها لتراث بلدها الحبيب- تفتح كراس الرسم، وترسم نقاطًا محددةً توصل بينهما فتجد رسمًا للمكان بتقاسيمه وملامحه، وفق رؤيةٍ فنيّة بديعة وصورة ذهنيّة خاصة بها وحدها. تبدو الصورة أقرب الآن، متماسكة وواضحة  وتُوثّق هذا المعلم الأثريّ.

عُلا أشرف مُعيدة بقسم الرسم والتصوير بكلية التربية الفنية، انضمت لمبادرة "رسم مصر" من أجل توثيق وتعريف الأماكن التاريخيّة

 وتحكي لـ فكّر تاني عن تفاصيل جولتها فتقول: "شغفي بالرسم والتصوير الخارجيّ، دفعني للانضمام إلى المبادرة منذ كنت بالفرقة الثانية في الكلية، تعرفت على فكرتها من زملائي في الجامعة، وبدأت بالنزول معهم أثناء أيام الجمعة من كل أسبوع".

اقرأ أيضًا:مصنع “الشوربجي”.. شاهد على اغتيال الصناعة المصرية

وتضيف عُلا، أنها التحقت بالجامعة لكنها لم تكن تهتم في البداية بالتصوير الخارجي، لكن منذ تعرفها على "رسم مصر" وانضمت لهم، أحبت أن تكون جزءً من ذلك التوثيق، وبعد ما يقرب للـ 30 زيارة للأماكن التاريخية، قررت هي وزملاؤها تطوير الفكرة و توسيعها.

وتوضح علا: "أصبحنا نتصرف بحرية، وأصبح لدينا خبرة بالعديد من الأماكن وطريقة الوصول إليها، كما صرنا كالخبراء، فعرفنا الفرق بين الأثر، المُستحدَث، الجامع، الإيوان والخنقة وغيرها من المصطلحات الأثرية الأساسية".

أصبحت علا من الأعضاء الرئيسيين في "رسم مصر" حيث تقول: "ممكن أساعد بضم أشخاص جُدد على جروب الواتساب مثلًا، أو التصوير، وتنظيم المعارض، ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة، ومؤخرًا بدأت أشرح المعالم التاريخيّة، حتى يتسنى لهذه المبادرة أن تستمر، ووزعنا المهام بيننا، من يُنظم الجولات، ومن يقوم بتوثيق الزيارات في صور فوتوغرافية ومادة فيلمية، ومن يقوم بعمل الدعاية".

جاءت تسمية مبادرة "رسم مصر" استلهامًا من كتاب "وصف مصر"،  الذي دوّنته الحملة الفرنسية عندما احتلت مصر عام 1798، والذي وصف ورسم الفرنسيون به كل مكان في مصر.

وأيضًا من "شُغل مصر" التي كان يطبعها المماليك ويكتبونها على البضائع التي يُصدرونها من مصر إلى جميع دول العالم.

يقول الدكتور محمد حمدي، أستاذ الرسم والتصوير بكلية التربية الفنية، جامعة حلوان، ومؤسس مبادرة رسم مصر، لـ فكّر تاني: "كتابة "رسم مصر" بالخط الكوفي، تعبيرًا عن الهُويّة الخاصة بنا كفريق، وشعارنا هو الرانك الإسلامي –اللون باللغة الفارسية- الذي يُعبّر عن أسماء الملوك والسلاطين، وهو عبارة عن دائرة مُقسّمة إلى ثلاث مناطق محفور داخلها اسم المبادرة".

ويضيف حمدي لـ فكّر تاني، أن فكرة المبادرة بدأت منذ ست سنوات، كانت عن الرسم بصفة عامة، للأماكن الشعبية والتراثية، لكن منذ بدأ بكتابة بعض المنشورات التاريخيّة على موقع "فيسبوك" لاقتْ استحسانًا بين الناس، ما دفعه إلى الدمج بين: الحكي والسرد التاريخيّ.

ويقول الدكتور محمد حمدي: "نقوم بحكاية تاريخ الأماكن الأثرية من سيرٍ ذاتية وترجمات عن أشخاص عاصروا هذه الفترة وعايشوا هذه الأماكن، وكانت الفكرة مقتصرة على طلاب الفنون فقط، بحكم دراستهم للرسم والتصوير الخارجي -خمسة عشر طالبًا-  ثم بعد فترة انضم إلينا تخصصات أخرى، وبدأت  الأعداد تتضاعف".  

وَلِع المؤرخون القدامى بتأريخ المنشآت العظيمة، المعارك، تواريخ وحياة السلاطين والأمراء والمماليك،  لكنهم –على النقيض- لم يهتموا بتأريخ الطبقات الكادحة والمُهمّشة في المجتمع المصري باستفاضة، كالحرافيش، أولاد البلد ونظيراتها من هذه الطبقات البسيطة بالمجتمع، بينما تُلقي "رسم مصر" الضوء على هذه الطبقات.

اقرأ أيضًا:المصريون وصندوق النقد.. وسنوات ثماني عجاف

"تمكنتْ "رسم مصر" من توثيق العديد من الأماكن التاريخية والأثرية المعروفة: شارع المعز، السلطان حسن والقلعة، وأماكن أخرى مثل: الحطّابة، المنكشيّة، الخربكيّة وعرب اليسار -التي تم توثيقها قبل الهدم- والتربة السلطانيّة، المقابر المتواجدة بمنطقة المقطم، المعابد اليهوديّة والكنائس،  مقابر الروم الأرثوذوكس، وغيرها من هذه المناطق الأثرية" بحسب الدكتور محمد حمدي.

جولة رسم مصر

يذهب الدكتور محمد حمدي –بمفرده- قبل الجولة بيومين أو ثلاثة أيام لتفقّد الأماكن، واختيار المكان المراد توثيقه والعمل عليه، وفق ما روى لنا في فكّر تاني، ويستعين بأبناء وأهل المنطقة الأثرية -أيضًا- للتعرف على التاريخ الأُسطوري لهذه المنطقة، والبحث عن أسماء الشوارع والحارات وأسباب تسميتها بهذه الأسماء. 

الدكتور محمد حمدي
الدكتور محمد حمدي

ولا يكتفِ بذلك، بل يُنظم تفاصيل الجولة البسيطة من اختيار محل الفول والطعمية للإفطار،  واختيار القهوة المناسبة لأوقات الراحة والتحدث والتشاور حول فاعليّات الجولة.

اليوم.. الجمعة، هو يوم الجولة، يبدأ بحكاية تاريخ هذه المنطقة، والناس التي عاشت فيها وعايشت أحداثها، وبعد صلاة الجمعة، يبدأ توثيق هذه المناطق بالرسم وتصوير المكان -بصفة عامّة- ثم بعد الانتهاء يتم بث مادة فيلميّة عن تاريخ هذا  المكان الأثريّ واللوحات التي تم رسمها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ويضيف حمدي: "في نهاية كل عام، توفر لنا كلية التربية الفنية بجامعة حلوان، قاعة  مُخصّصة لعرض لوحاتنا المرسومة، كما يتم عمل معرض للشباب".

كما يوضح، أن جولات رسم مصر مجانيّة، تصلح للجميع، صغارًا وكبار، فكل فرد لديه الحق في المشاركة في هذه الجولات بالرسم والتوثيق، كلٍ حسب رؤيته.

أما فرح عمرو سلامة، فهي مُعيدة -أيضًا- بقسم الرسم والتصوير بكلية التربية الفنية، فتقول لـ فكّر تاني: "انضممتُ إلى رسم مصر منذ التأسيس، وكان هدفي "المعرفة والاطّلاع على تاريخ بلدي وتوثيق الأماكن التاريخية بالرسم والتعرف على  أماكن جديدة لم أذهبْ إليها من قبل".

حكاية الأثر..

يحكي يوسف عبده، طالب بالفرقة الرابعة في كلية الهندسة، قسم العمارة لـ فكّر تاني: "انضممتُ لرسم مصر منذ أربع سنوات، عرفت عنها من الدكتور عُلا أشرف، شجعتني للانضمام، خاصةً، لأني مهتم بهذا النوع من الفن، وافقت مبدئيًا، وقررت الانضمام للفريق بعد أول جولة".

استفاد يوسف عبده من جولات رسم مصر، تعرف على تاريخ العديد من الأماكن التاريخية غير المعروفة، وعرف عنها ما لم يجده في الكتب والمراجع الرسمية والأبحاث التاريخية، ويقول: "وثقت الأماكن بعدة لوحات، كي تصبح مرجعًا في حال إزالتها، ويصبح دليلًا على وجودها".

أما عبد الرحمن أنيس، طالب بالفرقة الرابعة بكلية الهندسة، قسم عمارة، فانضم إلى المبادرة ليستطيع تكوين خلفية معرفية عن الأماكن الأثرية والتاريخيّة من الناحية المعمارية، مجال تخصصه.

ويقول أنيس لـ فكّر تاني: "كنت فاكر الجولة مجرد تلقين وسرد معلومات، لكنها أقرب لخلق حالة شعورية وجدانية عند كل فرد في المبادرة، فنحن نرسم برؤيتنا الخاصة، بعد أن يحكي لنا الدكتور محمد حمدي عن هُوية المكان والناس الذين عاشوا فيه، فالحكاية عن الأثر، شيقة وممتعة، كأننا نحكي عن صديق لنا عاش في زمن قديم نُخلده بلوحاتنا إلى الأبد".

طالع إزالة

شاركتْ رسم مصر في جولة "طالع إزالة " سبتمبر الماضي لتوثيق منطقة مقابر الإمام الشافعي قبل هدمها، وطمس ملامحها وهويتها، كما ساهمت في توثيق العديد من المناطق الأثرية المُهدّدة بالإزالة والتي تم إزالتها -أيضًا- كقيساريّة العنبرين، وقرافة أو جبانة المماليك قبل هدمها. 

اقرأ أيضًا:“طالع إزالة”.. مصريون إلى الشوارع بعيدًا عن السياسة

تُعرّف المناطق الأثريّة بأنّها: "الآثار والبقايا التاريخيّة التي تعود إلى الحضارات والثقافات السابقة، وتُمثّل شاهدًا ماديًا ملموسًا على تلك الحضارات والأنشطة البشرية في الماضي، وتشمل هذه المعالم الأثرية مجموعة متنوعة من المواقع والهياكل والآثار، ما بين معابد وكنائس، القصور والقلاع الأثرية، المواقع والمقابر الأثرية وغيرها، وتخضع لعددٍ من القوانين الخاصّة مثل القانون رقم 144 لعام 2006، والقانون رقم 119 لعام 2008".

 

ويحظر القانون رقم 144 لسنة 2006، التّرخيص بالهدم أو الإضافة للمنشآت ذات الطراز المعماريّ الفريد؛ المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية، أو تلك التي تمثّل حقبة تاريخية، أو تُعتبر مزارًا سياحيًا، وذلك مع عدم الإخلال بما يستحق قانونًا من تعويض.

عاشقو تراث الوطن

تحكي الدكتورة منى، طبيبة نفسية، لـ فكّر تاني: "انضممتُ للمبادرة، لأني أحب الرسم والتصوير والموضوعات التاريخيّة منذ صغري، تعرفت على الصفحة من مواقع التواصل الاجتماعي، الجولات منظمة جدًا،  وعادةً نبدأها بجولة في المكان، نتعرف على تاريخه والأحاديث بين الناس اللي عاشت فيه، وأهم الأحداث والمواقف، نصوّر المكان أولًا، وبعد صلاة الجمعة نفطر سويًا ثم نبدأ الرسم".

تجد الدكتورة منى في جولات رسم مصر مُتنفّسًا، بعيدًا عن الجلسات العلاجية والأمراض النفسية التي تقوم بتشخيصها والعمل المستمر، تحب الذهاب إلى الجولة للشرود بين معالم وملامح المكان، كأنها تستشف نفسيّته وكينونته وتستشعر ملامحه وصفاته، وفق رؤية نفسيّة بصريّة وتصويرية في آنٍ واحدٍ.

وتقول بسمة محمد، خريجة علوم، ومسؤولة علاقات عامة بإحدى شركات الاستيراد لـ فكّر تاني: "أحببت منذ طفولتي الرسم والتصوير، وطوال عمري مهتمة بالأشياء ذات الطابع الفني والتاريخي، ولكن لم يُحالفني الحظ للدراسة الأكاديمية، فدرستهما في ورش حُرة، وتعرفت على أساسيات الرسم بنسب معقولة، بدأت أبحث عن مجموعات وأفراد يرسمون في الأماكن المفتوحة حتى انضممت إلى "رسم مصر". 

بريق أمل وباب رزق

لم تكتفِ رسم مصر بتوثيق وإبراز المعالم الأثرية والتاريخيّة فقط، بل فتحت نافذة أمل أمام الطبقات المُهمّشة الكادحة، فساعدت طفلًا صغيرًا على استكمال تعليمه ووصلت به إلى بر الأمان، وفق ما روى لنا الدكتور محمد حمدي، فيقول: "اكتشفتُ موهبة الرسم عند طفل صغير، اسمه "حازم" بمنطقة مقابر الحطّابة وباب الوزير، رسمه جميل جدًا، موهوب بالفطرة، لكنه غير ملتحق بالمدرسة". 

ساعدت "رسم مصر" على التحاقه بالتعليم الموازي، حيث تم نشر تفاصيل هذا الموقف على مواقع التواصل الاجتماعي، وقام وزير التربية والتعليم، بتوفير الفرصة للصغير حازم.

أما العم "محمد لولو" الذي يعمل نجارًا، فهو شغوف بصنع نماذج مُصغّرة لبعض الآثار بالخشب، كتبت "رسم مصر" عنه في صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وتوافد عليه الكثير من الأفراد لشراء هذه التحف الفنية المصغرة.

طموحات وآمال

يقول الدكتور محمد حمدي مؤسس "رسم مصر": "نحلم بأن تنتقل المبادرة إلى المحافظات الأخرى؛ لرسم وتوثيق الأماكن التاريخيّة بها، وسرد وحكي تاريخ كلّ محافظةٍ على حدةٍ".

ويستكمل: "ولأنها مبادرة مجانية، فنحن لا نمتلك –على سبيل المثال- الإمكانيّات الماديّة، التي تُمكننا من الانتقال بحريّة وسلاسة بين المحافظات الأخرى، ولا يمكن تحميل المشتركين أعباء مادية إضافية، كجمع الأموال منهم/ نّ، من أجل توفير عربات للانتقال بين المحافظات".

وتابع :" أتمنى الدعم والرعاية من قِبَل إحدى المؤسسات أو الجهات الثقافيّة، لتحقيق حلم رسم وتوثيق مصر بالكامل، فجميع المؤسسات الثقافية تمتلك عربات مُخصّصة للموظفين، فإذا سمحت لنا باستخدام هذه العربات يوم الجمعة -يوم الجولة- للسفر والانتقال أسبوعيًا، وبذلك نتمكن من رسم الأماكن التاريخيّة والأثريّة بها وتوثيقها".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة