"ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد" إنجيل متى "6: 13".
لطالما كنت مُغرمًا بالتجربة، فأنا أُدرك عواقبها ولكن إغراءاتها قوية. ويبدو أن القدر حمايته واسعة، فلم تكن التجارب مُدمرة رغم قسوتها، فضلًا عن محدودية التجربة الشخصية التي أدركتها مع الأيام.
في كتاب "تلات ستات.. سيرة من ليالي القاهرة" للكاتبين محمد العريان وعمر سعيد، نتعرف على التجربة بمعانٍ أوسع ونعيش عواقبها، وندرك بوضوح دعوة المسيح من خلال مصائر ثلاث نساء عشن التجربة، تحملن عواقبها القاسية، وتمنين في كل لحظة لو أنهن لم يخضنها.
تدور أحداث الكتاب الصادر عن دار "المرايا" للثقافة والفنون في العالم السفلي للقاهرة، المدينة التي تحمل من اسمها نصيبًا كبيرًا. نتعرف على وجوه متعددة قهرتهم الحياة في شوارعها، من خلال سيرة ثلاث نساء ورطتهن الحياة في العمل بالجنس التجاري.
في القصة الأولى "قتلت نفسي مرتين"، نتعرف على "سمرا"، الفتاة الصغيرة التي هربت من عائلتها في صعيد مصر بعد صدمتها في حب حياتها الأول وتخليه عنها، فضلًا عن تدهور أوضاع أسرتها المادية والمعيشية بعد إصابة والدها بجلطة منعته من العمل.
تخوض سمرا رحلة قاسية في القاهرة، بدءًا من التسول في شوارعها، حيث عرفت الجوع والعطش والحرمان، مرورًا بالعمل في أدنى درجات سلم الجنس التجاري، وصولًا إلى الضياع للنفس والابن. ترى سمرا بعد سنوات من التجارب والخبرات القاسية أنها لم تعد شخصًا واحدًا، بل جعلت منها التجربة ومرارة الهزائم وخذلان الأحبة والقدر أكثر من شخص.
"أحيانًا أستغرب نفسي.. لم تبدأ حكايتي من هنا.. هذه كانت نسختي الثالثة. تبدأ حكايتي بالحب، الذي غيرني مرتين، وجعل مني إنسانة مختلفة تمامًا. في كل مرة يهز كياني ويجعلني أندم وأفقد الثقة في كل شيء. وبعد 27 عامًا، تعلمت شيئًا واحدًا: الدنيا جميلة لكن الناس وحشون، والآن أنا أقترب من الناس بحدود وللضرورة فقط."
يُقدم الكتاب سيرة ذاتية لثلاث نساء من أعمار وتجارب مختلفة، سيرة تبدو قادمة من عالم قديم، قبل عقدين من الزمن، قبل ثورة التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب والتيك توك وغيرها من منصات تقديم المحتوى التي جعلت من الجنس التجاري وما يدور حوله مادة ومحتوى يتسابق عليه كثيرون من مختلف الطبقات متجاوزين الوصم المجتمعي.
كيف وصلنا إلى هذه المرحلة من التسليع لكل شيء، والتفكك الأسري، والتردي الأخلاقي، وشيوع الجهل والفقر، وهل من سبيل للنجاة؟!
لا يشتبك الكُتّاب مع هذه الأسئلة بصورة مباشرة، بقدر ما يقدمون لنا صورة عامة من خلال ثلاث سير شخصية لواقع مجتمعي مأزوم اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا، واقع مهد الطريق للوصول إلى هذه اللحظة المُربكة والقاسية التي نعيشها.
حيث لم يعد هناك معنى لورقة التوت التي تستر المجتمع، وصار "كله على عينك يا تاجر"، ليس في الجنس التجاري فقط، ولكن في معظم مجالات الحياة. فقد دخلنا بوعي أو بدونه في التجربة التي حذر منها المسيح، ورغم دعوته ألا ندخل فيها، إلا أننا دخلناها وتحللت فيها كل القيم والمعاني لصالح سطوة المال واللذة والنفوذ.
عن هذه التجربة والرحلة المسكونة بالكثير من التساؤلات، حاورنا محمد العريان وعمر سعيد.
اقرأ أيضًا:الـ "مانسبريدنج".. رجال يتمددون ونساء ينكمشن
-
بدأتما رحلتكما مع هذا الكتاب منذ سنوات بالعمل على إعداد فيلم تسجيلي عن عاملات الجنس التجاري في مصر. كيف جاءت فكرة تحويل سيناريو الفيلم إلى كتاب مطبوع؟

بدأ مسار الكتابة مع العمل على تحقيق صحفي كُتب ونُشر في 2014. تلقينا بعدها عرضًا من الأستاذ يحيى فكري، مدير "المرايا"، لمناقشة العمل على فيلم تسجيلي عن عاملات الجنس التجاري في مصر، وبدأنا بالفعل العمل سوياً ضمن فريق مُكوَّن من ثلاثة باحثين ومخرجة ومنتجة. عملنا على البحث عن العاملات، واختيار من سنعمل معهن.
كنا قد التقينا ستة عاملات، اخترنا منهن ثلاثًا، وكان معيار الاختيار لشخصيات لها تجارب مختلفة وخلفيات اجتماعية واقتصادية متنوعة، وأيضًا، الأكثر ارتياحًا في الكلام والحكي معنا. وفي ذلك الجزء تحديدًا، كانت عملية الاختيار متبادلة، نحن اخترنا التحدث معهن، وهن اخترن الحديث إلينا.
وكانت فكرة العمل على فيلم تسجيلي تُشعرنا أن كثيرًا من التفاصيل والمشاعر لن تنعكس فيه، ربما لأسباب تتعلق بطبيعة الحكاية وكيف تكون مرئية، وربما لأسباب خاصة بمخرجة الفيلم ورؤيتها الفنية. هنا، تولد لدينا شعور مشترك بالخسارة الكبيرة، فقيمة هذه القصص تكمن في التفاصيل والمشاعر المعقدة والمركبة لكل واحدة منهن.
هل يضيع كل هذا بسبب محدودية العمل أمام الكاميرا، ناهيك عن القيود المفروضة رقابيًا على الأعمال المرئية، بينما تمنحنا الكتابة براحًا غير محدود؟ فبدأنا التفكير فيما سنفعله بهذه الثروة - الحكايات المُسجلة. لدينا تفاصيل واقعية تحكي قصصًا ترتبط بالاجتماع الاقتصادي، قصص لنساء على الهامش تستطيع تقديم صور عن سياسات بلدنا والمجتمع، غير تلك التي تحكيها قصص سيدات الأعمال والوزراء والكتاب الكبار.
فكرنا في كتابة مجموعة قصصية مستلهمة من الحكايات، فهل يمكننا تقسيم جرعات المشاعر والأفكار بين الواقع والخيال على دفعات قصيرة ونافذة؟ أم ننقلها بمنطق الشهادات المباشرة؟ بعد حيرة لم تطل كثيرًا، اخترنا طريقًا يجمع بين الطريقين.
اتفقنا على أن ننقل الحكايات وأن نكتب القصص بأسلوب سردي، يعمل فيه الخيال على توضيح سياقات أو إطار زمني أو صور للتغيرات الاجتماعية المتزامنة مع كل حكاية.
-
اختلاف الوسيط الفني غالبًا ما يتبعه اختلاف في شكل ومحتوى النص، ما الفرق بين الكتاب والفيلم، ولماذا اقتصر الكتاب على شهادات الثلاث نساء تحديدًا وما هي معايير اختيارهن دون غيرهن؟
الوسيط الفني هو رؤية بالأساس، وأعتقد أن الفيلم التسجيلي أقل جرأة من الكتاب لأسباب تتعلق بالصورة وأيضًا برؤية المخرجة ووقت الفيلم - ساعة تقريبًا - بينما الكتاب هو نسخة أكبر وأعمق من الحكايات في الفيلم، وليس هذا الاختلاف الوحيد بين الفيلم والكتاب.
يرتكز الكتاب على رؤانا الخاصة في تناول موضوع عاملات الجنس التجاري، ومن خلال هذه الرؤى نُبرز أصواتهن ونُخرجهن من الهامش ليُعبرن عن أنفسهن في مفاهيم محددة - مثل الحب - حيث هناك تداخل بين العلاقات الحميمية مع الزبائن والعلاقة الحميمية مع شركائهن، سواء كان زوجًا أو حبيبًا، أو بمعنى آخر، عملية منح الجسد والمشاعر في العمل بأجر ومنحه لحبيب.
مفهوم آخر يرتكز عليه الكتاب هو علاقة عاملة الجنس التجاري مع جسدها الذي تؤجره ومدى شعورها بالاستباحة أو التحكم فيه. هل جسدي ملكي؟ أم أنه واقع تحت سيطرة سلطة أخرى؟ سواء كانت هذه السلطة زوجًا أو أمًا، في حالة انشراح، أو قوادة في حالة سمرا. كيف تتعامل عاملة الجنس التجاري مع التحرش والاغتصاب؟ كل هذه المفاهيم هي التي شكلت جزءًا كبيرًا من الحكايات، وبعد ذلك تم معالجتها في الكتاب بطريقة تُبرزها من خلال حدوتة مؤثرة مشاعريًا.
أما بالنسبة لاختيار العاملات الثلاث، كما قلنا سابقًا، كان اختيارًا مشتركًا، لأنه كما هو مفهوم، فإن البحث عن عاملات جنس في مصر يستطعن الحديث عن تفاصيل حياتهن ومشاعرهن ليس مسألة سهلة بالمرة.
بطلات الكتاب الثلاث أكثر من التقينا صراحةً واستعدادًا للحديث، وهذا لا يعني بالطبع أن سرد القصص كان سهلاً. أرى أنه بعد مرور عشرات الساعات في الجلسات مع العاملات الثلاث، استطعنا بإرادة مشتركة بيننا وبينهن على تجاوز الكثير من الحواجز، مثل الخوف من الوصم، وتغيير بعض الحقائق للحرص على إظهار صورة معينة.
اقرأ أيضًا:"شهرزاد".. ملكة الحكايات المُلهمة
كتاب "تلات ستات" هو عمل صحفي منذ بدايته، والحكايات فيه عبارة عن معلومات وتفاصيل اجتماعية أقرب لدراسة مجتمعية عن عاملات الجنس في مستوى طبقي معين.
لكن الحيرة كانت في تصنيف الكتاب لبدء مشروع الكتابة، لأننا أردناه بلا أحكام أو تحليل أو حتى ظهور واضح لنا كمؤلفين بالتعليق. ولهذا أيضًا، ظهرت المقدمة مقتضبة تكشف باختصار شديد عن مسيرة استمرت سنوات ومشروع كتابة استمر عامًا كاملًا.
وبالنسبة لقرارنا بعدم التصنيف، فقد حررنا من محددات ومعايير تُقيدنا في الكتابة. والناشر يحيى فكري - لأنه يعلم تفاصيل الحكايات وأهميتها - كان حريصًا على صدور الكتاب ودفعنا بكل الطرق إلى إنهائه، وكان واثقًا في رؤيتنا كصحفيين وكُتاب.
بشكل شخصي نرى أن واحدة من مهام الصحافة هي كسر العهود التي تجاهلت بعض الأمور. هنا يأتي دوري في القول: "عفوا، سنخرب هذا العهد، ونفشي السر بوعي وصراحة". وفي هذا السياق نرى أن تلك الآراء التي استهجنت الحديث عن الأمر كمعيار نجاح أسعدني شخصيًا.
أما هؤلاء أصحاب فكرة "شخصيات أغرب من الخيال"، نعم هذه فكرة أساسية مرتبطة بالفكرة السابقة، نظامنا السياسي والاجتماعي يعمل منذ عقود على تصوير المجتمع ككتلة واحدة، لها أفكار واحدة وقيم واحدة وأخلاق واحدة، على نسق تعبير "أخلاق الأسرة المصرية"، عندما تأتي فرصة مثل تلك التي أردنا تقديمها في الكتاب يكون رد الفعل المستغرب الخروج عن تلك الجماعية المتصورة أمرًا طبيعيًا.
في الحقيقة، لم نواجه صعوبات تُذكر في هذا السياق، ولا يعني ذلك أننا اتفقنا على الكتابة ثم شرعنا فيها ونفذناها بشكل آلي.
فمنذ وقت العمل على الفيلم، خُضنا العديد من النقاشات المرتبطة بالتحليل الاجتماعي للموضوع. وكنا متفقين من البداية وعلى المستوى الشخصي، أن رؤيتنا لمسألة العمل التجاري في الجنس كانت متقاربة، لذا لم نواجه نقاشات حول الوصم الاجتماعي أو الحكم الأخلاقي والديني.
وعند التحول إلى الكتابة عن الموضوع، تناقشنا في بعض المسائل التقنية، وربما كان أهمها: من هو الصوت الراوي؟ هل يكون صوتنا نحن، أم أصواتهن؟
اخترنا بالتأكيد أصواتهن، فهي صوت القصة، والغوص في مشاعرها بدلاً من النظر إليها بشكل سطحي من الخارج.
كما اتفقنا على أن لكل منا أسلوبه الخاص في السرد، وعلينا التمسك بذلك. فاتفقنا على بعض الخطوط العريضة، وعند انتهاء كل منا من كتابته، عُرضت على الآخر.
وفي النهاية، من أول جولة تبادل للكتابات، وجدنا أن الأمر لا يحتاج لمراجعات أو المزيد من النقاشات التحريرية.
اقرأ أيضًا:"العدودة".. إيه اللي جاب الحِزن لك يا آمنة؟
-
إلى أي مدى واجهتكما تحديات في تمثيل وكتابة حكايات ثلاث نساء بصيغة "الأنا"، خاصة فيما يتعلق بالجسد والمشاعر ونمط الحياة، وكيف تعاملتما مع هذه التحديات بحكم الاختلاف الجندري؟
بالتأكيد، كانت هذه الفكرة مقلقة وعبّرنا عنها في المقدمة بخوفنا من أن يتغول صوت الرجال على أصوات نساء استثنائيات. ظلّ هاجس ظهورنا كذكور في حكايات سيدات حاضراً في الكتابة، حتى أننا عرضنا الكتاب على كاتبات وصديقات بهدف واحد، وهو سؤالهن: هل تُعبر هذه الكلمات عن مشاعر الأنثى حقًا؟ هل ظهرنا كذكور في الحكايات؟ هل نقلنا مشاعرهن بصدق؟
في مناقشاتنا الأولية مع أصدقاء وكُتاب، اعترض بعضهم على الكتابة بضمير المتكلم. حتى أن أحدهم قال: "هل جربتما تأجير جسديكما في الجنس التجاري لكي تكتبا بضمير المتكلم؟" ولكن هذا المنطق لم يصمد أمام فكرة أن المشاعر الإنسانية واحدة، وليس بالضرورة أن أكون مدمنًا حتى أستطيع أن أشعر وأكتب عن مأساته.
لا ننكر أن هذه تجربة معقدة ومؤثرة، جعلتنا أقرب لحياتهن ومشاعرهن أكثر. وهذا يتضح في نجاحنا في نقل مشاعرهن بأكبر قدر من الصدق والتعبير عن الصورة الحقيقية لما عاشوه.

-
كيف تحققتما من صدق حكايات النساء في الكتاب، خاصة في ظل القاعدة الأساسية التي تتعلمها النساء في هذا العالم السفلي: "لا تحكي حكايتك الحقيقية لأحد" كما في قصة "سمرا"؟
دعنا نتفق في النهاية على أننا أردنا حكي القصة كما ترويها صاحبتها، ولم نكن مهتمين بنقل وقائع أو حقائق مباشرة ومحددة بقدر ما كنا معنيين بنقل مشاعر وأفكار وتجارب كبيرة ترتبط بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية. في هذا السياق، القصة كما تعيشها صاحبتها وتراها وتتأثر بها هي معيار الحقيقة.
ومع ذلك، فإن الكثير من التفاصيل كانت تتغير كلما قضينا وقتًا أطول في النقاش والاستماع. نعتقد أن هذا التغير جاء من مصدرين: الأول هو خوفهن من الحكم عليهن، فكانت بعض التفاصيل تميل إلى تجميل الحقائق أو تغييرها قليلاً. لكن مع الوقت، وبعد ساعات طويلة من سرد نفس الحكايات، كنا نصل في النهاية إلى قصة متماسكة وواضحة ومتكاملة.
أما المصدر الثاني للتغير، فنظن أنه جاء من أن الكثير من التفاصيل لم تكن واضحة لديهن أصلاً، بل أدركنها في اللحظة التي رَوَينها فيها.
نحن صحفيان نتعامل مع مصادر متنوعة، وجزء كبير من مهاراتنا يدور حول النقد والشك في التصريحات، وكذلك قدرتنا على التحقق من صحة القصص. بالإضافة إلى ذلك، العلاقة الإنسانية التي توطدت بيننا وبينهن كان لها دور كبير، فقد شعرن بعدم إصدارنا أحكامًا عليهن، وتفهمنا لطبيعة مهنتهن. كما تفهمنا لضرورة خلقهن سيناريوهات كاذبة لمواجهة محيطهن الاجتماعي وخوفهن الدائم من كشف أمرهن، مما جعلهن يشعرن بالحاجة إلى البوح بدون تجميل.
-
كيف تنظرون إلى الأزمات المجتمعية والسياسية والثقافية التي يطرحها الكتاب، مثل السلطوية والفقر والفساد والعلاقة المأزومة مع الجسد بين الرغبة والتجريم والتحريم؟ وما هو السبيل للتعامل مع هذه التحديات؟
لسنا متأكدين من الإجابة، فهذه نقاط تختلف تقديراتها بين شخص وآخر.
في تقديرنا، وهذا رأي شخصي جدًا، أن كل تلك الأزمات مرتبطة ببعضها بشكل ما؛ الأسلوب الاقتصادي - السياسي الذي نعيش فيه لا يُنتج إلا هذا النوع من الأزمات.