اختبرت تل أبيب قدرات غير متوقعة من إيران وحزب الله بعد أسابيع من التصعيد الإسرائيلي، إذ تمكّن الطرفان من استعادة ميزان الردع الذي استولت عليه دولة الاحتلال في الفترة الأخيرة.
وبينما كانت إسرائيل تحتفل باغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وتعلن عن ضرب لبنان وتبدأ اجتياحه، ردّت طهران بإطلاق رشقات صاروخية باليستية غير مسبوقة، سقط أغلبها في الأراضي المحتلة، مستهدفةً مواقع عسكرية ومخابراتية.
بالتزامن، نفّذ حزب الله عمليات نوعية على الحدود، أسفرت آخرها اليوم الأربعاء عن مقتل 8 من جنود النخبة الإسرائيليين خلال محاولة فاشلة للتسلل إلى الأراضي اللبنانية. في وقت أعلن مركز “زيف” الطبي الإسرائيلي، استقبال 39 جنديًا مصابًا، وصلوا بواسطة المروحيات ومركبات الإسعاف العسكرية.

أدى هذا التغير في ميزان القوى العسكرية إلى إحراج سياسي وعسكري لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي كان قد أعلن مؤخرًا نهاية حزب الله، وتوعّد إيران ودعا شعبها للانقلاب على قيادتها السياسية. كما أثار تساؤلات حول الرد الإسرائيلي المتوقع خلال الساعات المقبلة، خصوصًا مع رفض حكومة اليمين المتطرف الاستماع لنصائح حليفتها الولايات المتحدة، وسعيها لفرض واقع جديد في الشرق الأوسط.
إلى أي مدى اقتربت الحرب الشاملة؟
نقلت صحيفة “ذي إندبندنت” البريطانية عن خبراء تحذيرهم من اقتراب المنطقة من حرب شاملة. إذ قال البروفيسور يوسي ميكلبرج، زميل برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “تشاتام هاوس”، إن الوضع “أقرب من أي وقت مضى” إلى حرب شاملة، مشيرًا إلى أن إسرائيل قد تلجأ لرد قاسٍ على إيران، لكن يبقى السؤال حول الخطوة التالية لإيران وحزب الله.
ويرى المحللون، وفق الصحيفة البريطانية، أن التصعيد قد يكون جزءًا من محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتحويل الأنظار عن الأزمات الداخلية، بما في ذلك محاكمته بتهم الفساد.
كما نقلت “ذي إندبندنت” عن مسؤول إسرائيلي أن “البقاء السياسي” لنتنياهو هو “الأولوية القصوى” له ولحكومته اليمينية، مشيرًا إلى أن إعادة توجيه النقاش الوطني نحو التهديد الإيراني يُعدّ مكسبًا سياسيًا له، ولذا فمن غير المتوقع أن تجنح إسرائيل إلى تهدئة الوضع.
أما بشأن الرد الإسرائيلي المحتمل، فيرى الخبراء أنه قد يتنوع بين ضربات محدودة على مواقع عسكرية إيرانية، إلى هجمات أوسع تستهدف البنية التحتية والموانئ الإيرانية، وقد يصل الأمر إلى استهداف البرنامج النووي الإيراني، وهي خطوة قد تدفع إيران للتفكير في التسلح كخيار دفاعي أخير.
ويقول ماثيو سافيل، مدير العلوم العسكرية في مركز أبحاث الدفاع والأمن، إن أي ضربة كبيرة على إيران قد تجعل طهران تعتقد أن التهديد وجودي، مما يُعقّد الوضع بشكل أكبر ويدفع المنطقة إلى مواجهة غير محسوبة.

عين إسرائيل على المواقع النووية الإيرانية
في تقرير أمس عن تطور الأوضاع، نقلت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن دبلوماسيين غربيين أن دولًا غربية نقلت تحذيرًا أمريكيًا لإيران من أن تدخلها في الحرب الدائرة بين إسرائيل وحزب الله قد يدفع إسرائيل إلى توجيه ضربات على مواقع استراتيجية داخل إيران، تشمل المنشآت ذات الصلة ببرنامجها النووي وصناعة النفط.
كما قال دبلوماسي غربي مطلع على محتوى التحذير الأميركي للصحيفة الإسرائيلية: “تلقى الإيرانيون رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة ستجد صعوبة في كبح جماح إسرائيل إذا هاجمتها إيران بشكل مباشر للمرة الثانية خلال 6 أشهر”. وأضاف: “في المرة السابقة، لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا في إحباط الهجوم الإيراني ومارست ضغوطًا على إسرائيل لتهدئة ردها”.
ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن تقرير بريطاني أعدته برونوين مادوكس، الرئيسة التنفيذية للمعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس)، أن تصاعد الضربات الإسرائيلية في لبنان يجعل مسألة معرفة نواياها الاستراتيجية أكثر إلحاحًا، وتساءلت عن سبب قيام إسرائيل بهذا، قائلة إن معظم التفسيرات تشير إلى أهداف تكتيكية تتعامل مع التهديدات المنفردة عند ظهورها.
وقالت مادوكس: “لا يوجد أي مؤشر على استراتيجية أساسية لتأمين السلام. وبدلًا من ذلك، يشعر بعض المحللين بالقلق من أن نوايا إسرائيل ربما تكون خلق ظروف لشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية”.

إسرائيل تسعى لتغيير معادلة الشرق الأوسط
ويوم الأحد الماضي، وصف الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إيران بأنها “إمبراطورية شر”. وقال في حديث مع قناة “سكاي نيوز” البريطانية، إن القوات الإسرائيلية سوف “تزيل أي تهديدات وجودية لدولة إسرائيل”.
اقرأ أيضًا: ماذا بعد حسن نصر الله؟
ورأت مادوكس أن هذا التصريح من هرتسوغ، وهو شخصية معتدلة وليس مؤيدًا كبيرًا لنتنياهو، يُعدّ حديثًا واضحًا بشكل لافت على اصطفاف الإسرائيليين بمختلف توجهاتهم الآن خلف الحكومة المتطرفة.
وأشارت إلى أنه بالنسبة للدول التي تعمل على تجنب اندلاع حرب إقليمية، يكمن الخوف في أن حكومة إسرائيل ربما تستغل الهجمات على لبنان وسيلةً لخلق خيار شن هجوم مستقبلي على منشآت إيران النووية.
ويعتقد نائب رئيس التحرير ورئيس قسم الأخبار في الموقع الإلكتروني “والا”، أرييل شميدبرغ، أن إسرائيل ملزمة بالرد على الهجوم الإيراني فورًا وبشكل قوي، ويرى أن “اللحظة فارقة وتعتبر فرصة تاريخية لتغيير المعادلة بالشرق الأوسط”.
ورجّح أن إسرائيل، “التي ستكون الشرعية الدولية إلى جانبها بعد ما تعرضت له من هجوم، سترد بقوة غير مسبوقة”. وقال: “في نهاية المطاف، لن تتسامح أية دولة في العالم مع مثل هذا العمل الذي لا يقل بأي حال من الأحوال عن إعلان حرب”.

تحول جذري في استراتيجية طهران
في تقرير على منصة “The Conversation“، وصف شهرام أكبرزاده، نائب مدير معهد ألفريد ديكين للمواطنة والعولمة بجامعة ديكين الأسترالية، الضربة الإيرانية الأخيرة لإسرائيل بأنها تحولًا جذريًا في استراتيجية طهران، بعد أسابيع من التصعيد الإسرائيلي ضد حلفائها في حماس وحزب الله.
وفق “أكبرزاده”، حافظت إيران طوال العام الماضي على استراتيجيتها التقليدية بالاعتماد على محور المقاومة (حزب الله – حماس – أنصار الله اليمنية) لخوض المعارك بالنيابة عنها، متجنبةً الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، للبعد عن تداعيات قد تهدد النظام الحاكم، خاصةً في ظل الأزمات الداخلية. وقد أبقت إيران على هذا الأسلوب حتى اغتالت إسرائيل حسن نصر الله ثم أعلنت عن بدء اجتياح بري في لبنان، وهو ما دفع إيران للتخلي عن حذرها بالرد المباشر على دولة الاحتلال.
إيران مجبرة على الحفاظ على هويتها السياسية
يشير “أكبرزاده” إلى أن الهوية السياسية الإيرانية تقوم على معاداة الولايات المتحدة وتحرير الأراضي الفلسطينية، وهو أمر يجعل عدم التصرف في هذه الظروف التي تشهدها القضية الفلسطينية ولبنان حيث حليف إيران الأقوى جماعة “حزب الله”، يمثل تهديدًا لهوية الدولة نفسها.
ويقول “أكبرزاده” إن النظام الإيراني بات مضطرًا لإبراز دوره كزعيم لما يسمى بـ “محور المقاومة” ومواجهة إسرائيل بشكل مباشر، رغم المخاطر.
ويؤكد “أكبرزاده” أن النظام الإيراني يعاني من أزمة شرعية متفاقمة، وسط موجات من الاحتجاجات الشعبية، مثل حركة “المرأة، الحياة، الحرية” التي انطلقت بعد مقتل مهسا أميني في حجز الشرطة.

سيناريو التصعيد المتوقع
وفي توقعه لسيناريوهات التصعيد القادمة، يقول “أكبرزاده” إن إيران مستعدة لتحمل تكلفة التصعيد، بما في ذلك الرد الإسرائيلي المحتمل الذي قد يشمل استهداف مواقع حساسة داخل إيران أو حتى اندلاع حرب شاملة تشمل منطقة الخليج بأكملها. ومع ازدياد احتمال تدخل الولايات المتحدة في أي صراع قادم، قد تكون الأصول الأمريكية في الخليج عرضة لهجمات، مما يهدد حركة التجارة والأمن في المنطقة.
ويختتم “أكبرزاده” تحليله بالقول إن التصعيد الحالي يصب في مصلحة نتنياهو، الذي لطالما دعا إلى استهداف إيران، ويمنح إسرائيل مبررًا لجر الولايات المتحدة إلى الصراع، مما ينذر بتداعيات كارثية على المنطقة بأسرها.