يتحايل محمد على وضعه الاجتماعي حين يتدنى كل مرة بفعل عدم التكافؤ بين الراتب والأسعار، بأن يقنع أطفاله بأهمية الفول والطعمية كتراث ووجبة حفظت معدة المصريين لقرون طوال، ويتحايل محل الفلافل بدوره على ارتفاع السعر 100 جنيهًا زيادة في أسعار أنبوبة البوتاجاز، بأن يخفض كميات الفول والطعمية المعتادة. هكذا هي سياسة إقناع الزبون شيئًا فشيئًا بالأمر الواقع وأن لستة أسعار المحل هي الأخرى آن لها أن ترتفع كما كل شيء.
فاجأت الحكومة المصريين، يوم الأربعاء، برفع أسعار أنابيب البوتاجاز للاستهلاك المنزلي من مستوى 100 لـ 150 جنيهًا توصيل مستودع، لتصل إلى المواطن في المنزل بنحو 175 جنيهًا في المتوسط، بينما ارتفعت أسعار الأنابيب الكبيرة المخصصة لأغراض التجارية المطاعم من مستوى 150 إلى 250 جنيهًا.
المواطن أكثر تضررًا
القاعدة تقول: إن كل رفع في الأسعار تحمّله الدولة للتاجر - أي تاجر يبيع أي صنف - يرتد فورًا إلى وجه المواطن.
اشترى محمد 10 أرغفة خبز سياحي صغير، وعلبة صغيرة من الفول، وقرصين من الطعمية الكبيرة مقابل 60 جنيهًا. هذه الحسبة المُكلفة لأرخص وجبة إفطار في مصر لا تزال تخلو من متطلبات المدارس التي بدأت عامًا جديدًا اليوم الأحد 22 سبتمبر 2024.
لم يرد محمد الذي يتم عامه الأربعين في أكتوبر المقبل، أن يعكر صفو مزاجه بالاطلاع على باقي قائمة أسعار المطعم المتأثرة بقرار رفع أسعار أنابيب البوتاجاز. لا يعلم أن ساندويتش الفول والطعمية يتراوح الآن بين 9 و10 جنيهات ببعض المطاعم وفقًا للمنطقة، بينما قفز الطلب (طبق فول وبيضة مسلوقة و4 قطع باذنجان مخلل و4 أرغفة خبز) إلى 55 جنيهًا.
اقرأ أيضًا: المصريون وبقايا الطعام.. الموت في وجبة منخفضة التكلفة
المشكلة الحقيقية أن ارتفاعات الأسعار الأخيرة - المتزامنة مع عودة الدراسة - لم تضرب فقط أنابيب البوتاجاز، بل أيضًا مشتملات إعداد الوجبات كلها: البقدونس والجرجير والطماطم. مكونات الساندوتش مش فول وطعمية بس.. كل مكونات السلطة غليت، كيلو الطماطم مثلًا بقى بـ 40 جنيه.. وواحدة الخس بقت بـ 10 و12 جنيه، والخيار الكيلو بـ20؛ يقول أحمد عمر صاحب أحد محلات الفلافل.
على مدار السنوات العشر الأخيرة، شهد سعر ساندوتش الفول والطعمية ارتفاعات متتالية في الأسعار من مستوى جنيهين إلى 10 جنيهات، بنسبة ارتفاع 400%، فيما ارتفعت أسعار أنابيب البوتاجاز بنسبة 1775% من مستوى 8 جنيهات في 2013 إلى 150 جنيهًا في سبتمبر 2024.
يضيف أحمد عمر: أسعار الكهرباء والمياه والزيت زادت.. والعامل بيطلب زيادة عشان يعرف يعيش.. صاحب المحل دلوقتي بيحاول يحقق أي هامش ربح مع زيادة التكاليف اليومية ومش عارف، لأنه يا إما يرفع الأسعار أو يستخدم خامات سيئة زي الفول الإنجليزي أو يضيف مواد تسهل التسوية السريعة للفول.
الخبز على قائمة الزيادات
مع صدور قرار رفع الأنابيب، قررت الشعبة العامة للمخابز عقد اجتماع عاجل لأعضائها لبحث تأثير قرار مجلس الوزراء بزيادة أسعار الغاز الطبيعي وأسطوانات الغاز، تمهيدًا لاجتماع مع وزير التموين والتجارة الداخلية الدكتور شريف فاروق، لبحث الزيادة المتوقعة في أسعار الخبز السياحي.
اقرأ أيضًا: لماذا اختفت وجبة الجمعة من موائد المصريين؟
يدور الجدل حاليًا داخل شعبة المخابز بين فريقين؛ أولهما يطالب بزيادة سعر الرغيف بنسبة 50% ليبلغ سعر وزن 40 جرامًا جنيهًا ونصف الجنيه بدلًا من جنيه، ووزن 50 جرامًا جنيهين بدلًا من جنيه ونصف، ووزن 80 جرامًا 2.5 جنيه، بينما يطالب الفريق الثاني بامتصاص قدر من الزيادة بعد انخفاض طن الدقيق من 16 ألف جنيه إلى 14 ألفًا و500 جنيه؛ بتقليل نسبة الزيادة.
التضخم الآتي مع زيادات أنابيب البوتاجاز؟
هنا، يقول مصطفى عادل، عضو مجلس إدارة غير تنفيذي بالشركة الوطنية للسمسرة في الأوراق المالية والمستشار الاقتصادي لغرفة التجارة الكندية، إن الزيادات آتية لا محالة وفي كل شيء تقريبًا بفعل زيادة أسعار أنابيب البوتاجاز: أسعار العيش السياحي سترتفع، وكذلك أسعار ساندوتشات الفول والطعمية. بينما يحذر من موجة تضخم مستمرة لا تتوقف وستتفاقم، حتى يصل الضرر إلى مستويات حرجة من خفض فاتورة الدعم.
وتقدر وزارة البترول نسبة الوفر الذي تحققه لموازنة الدولة برفع أسعار الأنابيب من 12 إلى 14 مليار جنيه في ميزانية الدولة خلال العام المالي الحالي 2024-2025.
لكن عادل يقول: اللي بنوفره في الدعم بندفع أضعافه دون أدنى مبالغة في فوائد ديون وتضخم.. بند مدفوعات فوائد الدين وحده نسبته ارتفعت من 37% إلى 47% بزيادة أكثر من 715 مليار جنيه.
من يحمي طعام الفقراء؟
مع زيادة أسعار أنابيب الوبتاجاز، قدم نواب بالبرلمان طلبات استجواب للحكومة. وقال النائب محمود قاسم عضو مجلس النواب، إن أبسط شيء يتوقع حدوثه هو ارتفاع كبير في أسعار ساندوتشات الفول والطعمية والبطاطس، أي الأكلات الشعبية لدى الغالبية الكاسحة من المواطنين.
اقرأ أيضًا: اللانش بوكس.. وجبة المدرسة تلتهم من أخفوا فقرهم خلف الأبواب
وارتفاع سعر الفول والطعمية إلى مستوى الـ 10 جنيه للساندوتش يزيد الضغط بشدة على الطبقات المتوسطة وما دونها؛ فأسرة مكونة من 4 أفراد، لو تناول كل فرد بها ساندوتش واحد فقط في الوجبة الواحدة، تحتاج لـ 40 جنيهًا، أي ما يعادل 1200 جنيه شهريًا فقط لوجبة فول وطعمية.
يتساءل النائب محمود قاسم: إذا كان ارتفاع أسعار أنابيب البوتاجاز داخل المستودع وصل إلى 150 جنيهًا فبكم ستصل إلى المواطن؟! وهل الحكومة لديها القدرة على السيطرة وإحكام الرقابة على الأسواق والأسعار بعد ارتفاع أسعار أنابيب البوتاجاز؟، مؤكدًا أن الحكومة الحالية تسير على نهج الحكومة السابقة (الحكومتان يديرهما الرجل نفسه مصطفى مدبولي) في ملف ارتفاع الأسعار.
ووعد الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، في بيان الحكومة الجديدة، أمام مجلس النواب بمقر البرلمان في العاصمة الإدارية الجديدة، في الثامن من يوليو الماضي، بتحسين واقع حياة المواطن بجميع جوانبها، وبذل كلِّ الجهد للحدِّ من ارتفاع الأسعار والتضخم وضبط الأسواق.
التضخم.. كل حاجة وعكسها
في بيان صحفي قبل 10 أيام، قال مدبولي إن الدولة تستهدف بنهاية 2025، خفض التضخم إلى أقل من 10%، متوقعًا عدم الدخول في برامج أخرى مع صندوق النقد الدولي بنهاية 2026، بينما تتضمن خطة البنك المركزي معدلًا للتضخم يتراوح بين 5 و9%.
لكن الخبير المصرفي رمزي الجرم، نائب مدير عام قطاع الرقابة الداخلية في بنك القاهرة، يرى أن قرار رفع سلعة وسيطة تدخل في الكثير من الصناعات وإنتاج السلع تامة الصنع والسلع الغذائية الأساسية في هذا التوقيت تحديدًا، وفي ظل السعي لاستهداف معدلات التضخم المرتفعة بنهاية العام القادم وفق المستهدفات الموضوعة والتي عاودت الارتفاع بنهاية أغسطس الماضي، أمر غير لائق.
ويلخص الجرم تبعات القرارات الأخيرة بأنها ستؤدي إلى تنامي معدلات التضخم بشكل مقلق ومخيف. وربما يقصد أيضًا أن قرار رفع الأنابيب يأتي قبل أيام قليلة من اجتماع لجنة تسعير المنتجات البترولية لحسم تعريفة بيع الوقود في مصر خلال الربع الأخير من العام 2024.