ما يزال المجتمع المصري إلى الآن يُعطي نفسه حق مناقشة عمل المرأة، وكلما كان الإطار دينيًا، زاد التدخل والسيطرة. ولأن الدين لم يُحرم عمل المرأة، تأتي الحجج في صورة إهمال تربية الأبناء والتقصير في شؤون المنزل، وهذا لم يعد كافيًا.
هنا يأتي دور “مشايخ” اليوتيوب والسوشيال ميديا، وعلى رأسهم عبد الله رشدي، اليوتيوبر الذي يتعمد دائمًا إثارة الجدل من خلال تصريحات خلافية ومثيرة، من أجل “اللقطة والترند”. وغالبًا ما تكون التصريحات حول النساء، بين التشجيع على زواج القاصرات أو الحديث عن ملابس النساء، ومؤخرًا التحريض ضد النساء العاملات.
قام رشدي مؤخرًا بنشر “كوميك” مُسيء على صفحاته الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي، يُصور فيه امرأة عاملة وهي تُدلك كتفي مديرها، وعلى الجانب الآخر ترفض طلبات زوجها وتتمرد عليه، في إسقاط مُهين وتصوير للنساء العاملات بأنهن عاهرات.
ولم يكتفِ بهذه الصورة بل نشر أيضًا ما كتب فيه: “بعضهنَّ عند مديرها جارية وديعة وعند زوجها ناشزة غفيرة!.. زوجُكِ أولاً ثمَّ عملُكِ إن أذن لكِ زوجُكِ، فإن لم يأذن فلا عمل..”.
وبناءً عليه، تقدمت الناشطة الحقوقية نهاد أبو القمصان، رئيسة المركز المصري لحقوق المرأة، ببلاغ إلى النائب العام ضد عبد الله رشدي، بسبب منشوراته المُسيئة والمُحرضة ضد النساء العاملات. وهذا يُعد تحريضًا ضمنيًا وتشجيعًا على العنف ضدهن، ودعوة لنبذ النساء وتهميشهن، والتقليل من دورهن في المجتمع، والرغبة في حصر دور المرأة في الأدوار الخدمية والرعائية غير مدفوعة الأجر في المنزل فقط.
اقرأ أيضًا:تلاقي اللي سايقة واحدة ست!
تواطؤ مجتمعي باسم الدين
يلجأ الكثيرون إلى الطبيبات لعلاج زوجاتهم، ويثقون فيهن حتى لا تذهب نساؤهم إلى الأطباء، لكنهم يُشاركون ويتفاعلون مع تحريضات الشيوخ ويَعيبون على النساء العاملات. الأمر الذي يُعد جزءًا من تواطؤ المجتمع في الترويج والتأكيد على فكرة أن حياة وأجساد النساء ملكٌ لأزواجهن وعائلاتهن، وتجسيدًا واضحًا للنظرة الدونية للمرأة.
أما عن نظرة هؤلاء للمرأة أثناء تأدية عملها وتصويرها كأداة جنسية، فهو تعبير عن أفكار شيوخ اليوتيوب ووجهة نظرهم في النساء عمومًا. فمن غير المنطقي أن تخرج امرأة مكافحة للعمل لتكسب قوتها، ثم تُعامل بهذا الشكل المُهين.
وكيف يمكن لشخص يُصنف نفسه “داعية” وله جمهور كبير، أن يوصم النساء المكافحات العاملات بتهمة تُعد قذفًا للمحصنات دون دليل؟! كما أن هذا الاتهام يتعارض مع اتهامات سابقة منه، بوصف المرأة العاملة “بالمسترجلة” وأن العمل أثر على أنوثتها.
لوم الضحية
ولعلّ من أكثر الأسباب انتشارًا بين الدُعاة ومريديهم في هذا الشأن هو “اختلاط النساء بالرجال في أماكن العمل وما يتعرضن له من انتهاكات بسبب هذا الاختلاط!” وهو ما يُعد أمرًا غريبًا، فالنساء يختلطن بالرجال في الأسواق والمواصلات العامة، ومع مُدرسي أولادهن في المدرسة، وحتى في الطواف حول الكعبة حيث يحدث اختلاط أيضًا!
فإذا كان السبب هو الخوف على النساء من التعرض للمضايقات، فلماذا لا تكون لديهم تصريحات تنتقد التحرش في أماكن العمل مثلاً؟! هل لأن من قام بالفعل “ذكر” وتقول القاعدة المجتمعية إنه لا هجوم على الرجال، ولا انتقاد لأفعالهم، وأن الأسهل يكون في توجيه اللوم – دائمًا وأبدًا – للنساء لأنهن من يفتن الرجال؟
وفي هذا التناقض الفج، يأتي التساؤل: “إذا كنت ترى أن النساء ناقصات عقل ودين، فلماذا لا تطلب من كامل العقل والأهلية والدين أن يلتزموا بتعاليم الدين وألا يعترضوا طريقهن ويكفوا الأذى؟ لماذا لا يتحمل الرجال مسؤولية تطاولهم على النساء؟”.
ثقافة مجتمعية
عادةً ما تؤثر المرجعية الثقافية والاجتماعية والفكرية في كل مجتمع وحقبة زمنية على حقوق الأفراد. والثقافة السائدة الآن في مجتمعاتنا ذكورية، ترى أن دور المرأة الأساسي يتلخص في أعمال الرعاية المنزلية، وأن خروجها للعمل يُعتبر استثنائيًا وبمثابة منافسة للرجال، وأنه من الأفضل أن تكون فرص العمل لهم.

اقرأ أيضًا:“زوجتك نفسي”.. حق يكفله الشرع والقانون
كما أن هناك اعتقاد سائد بأن بعض المهن لا تصلح للنساء بسبب القيود المجتمعية، أو لأنها لا تتناسب مع طبيعة أجسادهن. وهناك اعتقاد بأن عمل النساء هو في الأصل رفاهية، والحقيقة أن هناك أسر بالكامل تعولها النساء، ويعتمد أفرادها على دخلهن. هذه الأسر قد تكون مُعرّضة للانهيار في حال توقفت نساؤها عن العمل.
بالإضافة إلى المعيلات اللاتي يتم مساومتهن على أولادهن من الزوج مقابل الإنفاق عليهم: “عايزة ولادك خديهم واصرفي عليهم أو سيبيهم”، فتضطر الأم للعمل من أجل أولادها. لذلك، فإن التلاعب بالنساء ماديًا بين المنح والمنع أدى إلى تمكينهن اقتصاديًا وإدراكهن لقيمة وضرورة العمل وأنه ليس رفاهية.
لن تعملن إلا إذا وافقن على الشروط
ويُبرر المناصرون لرأي عبد الله رشدي تصريحاته بأنها لا تخص جميع النساء، بل تلك التي تعمل لتعاون زوجها وتطيعه، أو -إذا أردنا الدقة- التي تعمل وفق شروط زوجها، فتُعطيه راتبها نظير قبوله نزولها إلى سوق العمل، كما تقوم بالأعمال المنزلية والرعاية دون شكوى أو كلل، وبلا راحة أو إجازات.
وإذا استعانت بعاملة تساعدها، فتدفع لها من راتبها الشخصي، لأن الزوج غير مسؤول عن تلك الأمور. وفي واقع الأمر، فإن هذا التبرير أكثر ظلمًا وإجحافًا من التصريح نفسه، لما فيه من استعباد النساء إرضاءً للمجتمع.
أما النساء اللاتي لا تنطبق عليهن تلك الشروط، فالاتهامات جاهزة عند شيوخ اليوتيوب ومتابعيهم، فهن ناشز، أو يرغبن في الطلاق وهدم أسرهن وتشريد أطفالهن، أو الأسوأ، أنهن يُقدمن رشاوى جنسية لمديراتهن.
لذلك حتى الآن، فإن كثيرين عند الزواج يفضلون المرأة غير العاملة، أو التي يمكن السيطرة عليها بتلك الأفكار والتي توافق على هذه الشروط وتعيش وفقها.
إن عدم الاعتراف بالأسباب الحقيقية للرغبة في قمع النساء والبقاء عليهن داخل المنزل، تذرعًا بحجج واهية مثل الغيرة والخوف عليهن، إنما هو انعكاس لعقلية غير ناضجة وانعدام ثقة، هذا بالإضافة إلى اختلال مفهوم الشرف مجتمعيًا وتداخله مع سلوك المرأة. فمن الطبيعي أن يكون الشرف في النزاهة والصدق والأمانة، إلا أن مجتمعنا المصري يحصره في أجساد النساء.
ولا ننسى الخوف من المنافسة والتفوق على الزوج، والخوف من فقدان مصدر سلطته عليها واختلال موازين القوى داخل المنزل في حال استقلالها ماديًا.
ومن هذا المنطلق، يقوم مشايخ اليوتيوب بنشر الجهل والتعصب الأعمى والتحيز الجندري، حصر المرأة في الطاعة العمياء لزوجها اعتقادًا منهم أنها خُلقت بالأساس -فقط- لخدمته. والحقيقة هنا أن نقطة الخلاف ليست في الدين وإنما الرغبة في تحجيم المرأة ومنع تمكينها الاقتصادي واستقلالها المادي لما فيه من تهديد للنظام الأبوي الذكوري الذي يرغب في تجريد المرأة من كل نقاط القوة وإضعافها.
اقرأ أيضًا:حقوق المرأة في “استراتيجية حقوق الإنسان”.. كلام نظري يفتقد التطبيق
ولأن مثل هؤلاء الشيوخ لا يستطيعون ادعاء “تحريم عمل المرأة”، فإن من الأسهل كتابة مثل هذه المنشورات ونشر مثل هذه الصور المسيئة التي تحض على العنف والكراهية ضد المرأة العاملة.
واقع أكثر قتامة
ورغم القيمة الاقتصادية لعمل المرأة بالنسبة للأسرة والمجتمع، فإن النظرة إليها غالبًا ما تكون قاصرة. ومن هنا، يجب التركيز والتوعية مجتمعيًا على دعم المرأة العاملة، باعتبارها وسيلة لتكافؤ الفرص ومنع تعرضها للتهميش والإقصاء.
في أبريل الماضي، صدر بيان عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان “مؤشر المساواة للنساء في العمل والاقتصاد.. والواقع العملي أكثر قتامة”، استجابةً لتقرير البنك الدولي لمتابعة العوائق أمام النساء في سوق العمل والاقتصاد في العالم، حيث جاءت مصر في المركز 175 من أصل 190 دولة.

وكانت مؤشرات مصر متدنية بناءً على قياس أوضاع النساء في ثمانية مجالات هي: المساواة في التنقل، مكان العمل، الأجور، الزواج، الوضع، ريادة الأعمال، الملكية، والمعاش التقاعدي. وذلك من خلال أسئلة حول الأطر القانونية والسياسات الداعمة وواقع الممارسة الفعلية.
اقرأ أيضًا:الأزمة الاقتصادية.. قيد إضافي في معاصم المستقلات
وأفاد التقرير أن مشاركة النساء في العمل والاقتصاد لم تتجاوز 50.6٪، بينما المتوسط العالمي 77%.
وعلى مؤشر وضع الحماية القانونية ضد العنف ورعاية الأطفال، يصل مؤشر مصر إلى 37.5٪، بينما المتوسط العالمي 64%.
وفي المؤشر الموازي الذي يقيس اللوائح والآليات التنفيذية للقوانين، يصل مستوى العدالة بين النساء والرجال في مصر في هذا المجال إلى أقل من 27٪، بينما المتوسط العالمي 40%.
ووفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في الربع الثالث من العام 2023، بلغت نسبة النساء من إجمالي المشتغلين في مصر 15.3%، كما بلغت نسبة المتعطلات عن العمل 47.6%، وهي النسب التي لا تُعبر عن واقع النساء اللاتي يرغبن في العمل ولا يستطعن الوصول للعمل المناسب. بل وتزداد الفجوة بين النساء والرجال في التشغيل بشكل مستمر منذ 2012 وحتى الآن.
فإذا كان هدفنا -نحن- الأساسي هو تحرر النساء من القيود والابتعاد على التنميط وحصرها في الأدوار التي يُفضلها المجتمع الأبوي وسُلطته الذكورية، فيجب التخلص من النظرة الدونية لها وعدم اعتبارها تابعًا للرجل، والبدء في الاعتراف بحقها في تقرير مصيرها.
شكرا على المقال الرائع و المدعوم بإحصائيات مهمة.