“كنتُ أعيش بالقرب من المطار في الخرطوم. مع بداية الحرب، اختبرت أقسى مشاهد الدمار والموت في مسرح عملياتها. بعد أيام، أدركت أني فقدتُ كل شيء: عملي، وحريتي، والأمل. لكن، هناك جزء صحفي مني، يبحث عن التوثيق. توثيق ما رأيت من حقيقة مؤلمة، مهما كان الثمن”.
مع تصاعد النزاع المسلح في السودان بين قوات الجيش والدعم السريع، تحوّل الصحفيون، وخاصة الصحفيات، إلى أهدف سهلة للعنف والاضطهاد وربما القتل، في حرب تخلى طرفاها عن كل قواعد القانون الدولي الإنساني، بارتكاب جرائم قتل أسقطت ما يزيد عن 20 ألف ضحية، هذا فضلًا عن مئات من الأطفال الذي أجبروا على القتال والنساء، اللاتي تعرضن لعمليات اغتصاب واستعباد جنسي واسعة.
“ت. ب” واحدة من هؤلاء الصحفيات اللاتي سعين لتوثيق هذه الأحداث المأساوية، متحديةً القيود المتزايدة والتهديدات بالقتل التي تطال العاملين في مجال توثيق الحرب. وقد استمرت على هذا الوضع حتى استسلمت أخيرًا للهروب من الموت المحتوم.

“في الأخير، اضطررتُ إلى مغادرة السودان مع أسرتي بسبب تصاعد العنف في ولاية الجزيرة”.
سلكت “ت. ب” -التي تحدثت لـ “فكر تاني”- وأسرتها طريقًا طويلة شاقة إلى مصر عبر مسارات التهريب. سيرًا على الأقدام قطعوا أكثر من خمسين كيلومترًا بحثًا عن ملاذ آمن. وعند وصولهم إلى مصر، كان عليهم أن يواجهوا صعوبات كثيرة جديدة، بدءًا من الاستغلال المادي، وصولًا إلى التهديد بالترحيل.
“اضطررتُ للعمل في ظروف صعبة للغاية لتوفير احتياجات عائلتي”، تقول “ت. ب”، التي ارتضت أن تكون صحفية لاجئة لا تجد عملًا مناسبًا لخبرتها في مقابل هذا الأمان النسبي بعيدًا عن جحيم الحرب.
“اللاجئون هكذا، يعيشون بلا دعم نفسي أو اجتماعي، حياةً تتصاعد إلى مزيد من التعقيد. مطاردة أنا حاليًا لا أزال أواجه مخاطر أمنية، تضطرني إلى تغيير رقم هاتفي بشكل دوري.. أعيش باسم مستعار خوفًا من الملاحقة”؛ تقول.
أن تكوني امرأة صحفية في السودان
احتل السودان المرتبة 172 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لعام 2023، وفقًا لتقارير منظمة “مراسلون بلا حدود” (RSF). وأوضح التقرير أن عدد الصحفيين المعتقلين أو المختطفين ارتفع إلى حوالي 25 صحفيًا منذ اندلاع الحرب.
تعكس هذه الأرقام خطورة الأوضاع، خاصة في ظل تصاعد حالات الاعتداءات الجسدية والتهديدات بالقتل التي تواجهها الصحفيات، اللاتي يُعتبرن الأكثر تعرضًا للعنف.
“عندما اندلعت الحرب، وجدت نفسي بين خيارين، إما أن أكون مع الجيش أو مع قوات الدعم السريع. كصحفية مستقلة، كان من المستحيل الاستمرار في العمل دون التعرض لضغوط سياسية وأمنية”، تقول زحل الطيب، صحفية سودانية.
الصحفيات في بلد كالسودان أهداف سهلة، لا يتعلق الأمر فقط بإسكات أصواتهن، بل بتخويفهن وبشكل ممنهج. تقول “زحل” في حديثها لـ “فكر تاني”: “رأيت زميلاتي يُستهدفن ليس فقط بسبب عملهن كصحفيات، ولكن لأنهن نساء يقاومن هيمنة العنف والجريمة. كنت أعيش تحت ضغط مستمر، أتوقع في أي لحظة أن أكون التالية على القائمة”.

حتى في المنفى، لا يزال الخوف يلاحقها. لكنها عازمة على المواصلة. “لن أتوقف.. العمل الصحفي ليس مجرد مهنة بالنسبة لي؛ هو رسالة ومسؤولية. سأظل أكتب، وأروي قصص من لا صوت لهم، وأكشف الحقائق التي يحاولون إخفاءها. قد نكون بعيدين عن الوطن، لكننا نحمل قضيته في قلوبنا وأقلامنا”.
صحفيات السودان.. صراع مزدوج
الحرب في السودان في أصلها هجوم على الحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الصحافة. وعلى الرغم من الأرقام المتزايدة للانتهاكات ضد الصحفيين بشكل عام، تواجه الصحفيات السودانيات تحديات خاصة. ففي بلد تسوده التقاليد الأبوية، لا يُنظر إلى النساء العاملات في المجال الإعلامي بعين الرضا، وهو ما يزيد من حجم المخاطر.
حنان الطيب، واحدة من الصحفيات شهود هذا الوضع؛ فبعد أن فقدت منزلها ومقر عملها، وجدت نفسها بلا أي وسيلة لمواصلة عملها في التحقيقات الصحفية التي كانت تُركز على حقوق المرأة والطفل.
تشير “حنان” إلى أن الوضع بات مأساويًا بعد أن أصبحت النساء المستهدفات في الحرب، سواء عبر الاغتصاب أو الاختطاف: “لقد شهدت حالات اغتصاب جماعي علنًا، وكأن أجساد النساء أصبحت أدوات في صراع لا يرحم”.
الاغتصاب والعنف الجنسي: أسلحة حرب
تشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى ما لا يقل عن 70% من النساء السودانيات قد تعرضن للعنف الجنسي خلال النزاعات المسلحة . هذه الأرقام المروعة تُظهر كيف أن النساء، خاصة الصحفيات اللاتي يسعين لتوثيق تلك الجرائم، يواجهن مخاطر مزدوجة. فبينما يحاولن نقل الحقائق من قلب الميدان، يتعرضن هن أنفسهن للخطر.
“عندما بدأت في توثيق جرائم الاغتصاب، أدركت أنني لم أعد فقط صحفية، بل أصبحت هدفًا. في كل مرة أخرج فيها من المنزل، كنت أعلم أنني قد لا أعود”، تقول الطيب.

وتضيف: “خلال الأشهر الماضية، شاهدت زميلات يُختطفن، وأخريات يُسجن بتهم واهية. الصحفيات في السودان يتعرضن لعنف مزدوج: عنف الحرب وعنصرية النظام. نحن لا نملك حرية التعبير، ولا حتى حرية الحياة. ورغم كل ذلك، أرفض الاستسلام. إن كنت هنا اليوم، في المنفى، فإنني أحمل صوت كل أولئك النساء اللاتي كُنّ يومًا زميلات لي، واللاتي لا يستطعن الآن قول كلمتهن. فقد تُسكتنا الحرب مؤقتًا، لكنها لن تُسكت الحقيقة التي نحملها”.
أدركت حنان -كصحفية- أن الكلمة مثل الرصاصة، لا يمكن استعادتها بعد خروجها. وأنها يجب أن تكون دقيقة في نقل الحقيقة بحيادية ووضوح، مع تقديم الصورة الكاملة دون تحيز: “أثرت الحرب عليّ بطرق لم أتخيلها، لكنني ما زلت أؤمن أن الصحافة مسؤولية كبيرة، وأننا صوت من لا يملك وسيلة للتعبير عن أنفسهم”.
للمأساة أوجه مُتعددة
بينما تستمر الحرب في تمزيق أوصال المجتمع السوداني، تُجبر الآلاف من الصحفيات على النزوح، سواء داخل السودان أو خارجه. وفقًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان، فإن حوالي 40% من الصحفيات السودانيات قد أُجبرن على مغادرة منازلهن أو حتى الهرب إلى دول مجاورة. هذا النزوح لا يعكس فقط الأضرار المادية، بل أيضًا الانهيار العاطفي والنفسي الذي يتعرضن له.
اقرأ أيضًا: النازحون السودانيون.. يدركهم الموت أينما ذهبوا
“لم يكن أمامي خيار سوى الهروب. تركت كل شيء خلفي: عملي، منزلي، وحتى كرامتي. اليوم، أعيش كلاجئة في مصر، حيث لا توجد أي فرص عمل، ولا أحد يعرف معاناتنا الحقيقية”، تقول إيمان إبراهيم، إعلامية نازحة.
وتضيف إيمان: “لم أكن أتصور أني سأترك كل شيء خلفي: منزلي، عملي، وحتى كرامتي. وصلت إلى مصر لاجئة، بلا أوراق ولا حقوق. كل شيء تغير بين ليلة وضحاها. في السودان، كنت صحفية تحظى بالاحترام، أما هنا، فأصبحت مجرد واحدة من بين آلاف اللاجئين، نبحث عن مأوى وعن لقمة العيش. الفرص للعمل كصحفية سودانية في المنفى تكاد تكون معدومة، والأسوأ من ذلك أن قصصنا ومعاناتنا الحقيقية لا تصل إلى العالم”.
وتكمل حديثها: “في كل مرة أحاول فيها الاتصال بزميلاتي في الخرطوم، أسمع قصصًا تدمع لها العين. نساء اختُطفن، صحفيات تعرضن للاعتداء، وأخريات أُجبرن على الصمت خوفًا من الانتقام. أشعر بالعجز لأنني هنا، بعيدة عن الأحداث”.
وتختم حديثها: “ولكنني لا أزال متمسكة بأمل واحد، هو أن أتمكن يومًا ما من العودة إلى بلدي، وأن تكون لدي الفرصة لأكمل رسالتي في نقل الحقيقة مهما كانت الظروف”.
الوضع الاقتصادي: بين المطرقة والسندان
تتفاقم معاناة الصحفيات السودانيات بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة. فبالإضافة إلى التهديدات الأمنية التي يواجهنها، فإن أكثر من 60% من الصحفيات فقدن مصادر رزقهن بسبب الحرب. تتحدث زحل الطيب، على سبيل المثال، عن تجربتها الشخصية في مصر، حيث أصبحت فرص العمل للصحفيات السودانيات شبه معدومة: “سوق العمل مغلق في وجهنا، وأصبحنا نعيش على الكفاف”.
وعلى الرغم من الانتهاكات المستمرة، فإن المجتمع الدولي لم يُقدم الدعم الكافي للصحفيات السودانيات، كما أن العديد من المنظمات المعنية بحرية الصحافة مثل “مراسلون بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش” أصدرت تقارير تدين الانتهاكات في السودان، ولكن يبقى تأثير تلك الجهود محدودًا على أرض الواقع. كما أن الدعم المالي والنفسي للصحفيات السودانيات اللاجئات يكاد يكون منعدمًا.
التحديات المستقبلية: هل من أمل؟
رغم كل هذه الظروف، لا تزال الصحفيات السودانيات مصممات على مواصلة عملهن. بالنسبة لـ “ت. ب”، فإن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة. تقول: “لا يمكن أن أتخلى عن الحقيقة، حتى لو كانت حياتي في خطر”.
بينما ترى زحل الطيب أن الصحفيات السودانيات بحاجة إلى دعم دولي حقيقي، ليس فقط بالبيانات، بل بالتحركات الفعلية، فنحن نواجه تهديدات يومية، ولا نعلم ما إذا كنا سنعيش لنرى السودان حرًا”.
في النهاية، يظل دور الصحفيات السودانيات محوريًا في نقل الحقيقة من قلب الصراع، ورغم كل التحديات التي يواجهنها، فإنهن يواصلن عملهن بشجاعة وإصرار.
الحرب في السودان لم تعد مجرد صراع بين طرفين متحاربين، بل أصبحت حربًا ضد الحريات، وضد حقوق الإنسان الأساسية. ولكن طالما أن هناك صحفيات مثل ت.ب وزحل وحنان وإيمان فإن صوت الحقيقة سيبقى، مهما كانت الظروف.
تصوير لقطات الفيديو بعدسة روان سعيد
