صلّي وتحملي زوجكِ.. تجميل العبودية بالقداسة

"وإن كان قلبه حجرًا، بالصلاة سيتحول إلى قلب لحمي".. كانت نصيحة واعظة شهيرة من الكنيسة الإنجيلية في مصر، للسيدات المتزوجات، مشجعة إياهن على الاستمرار بالمناجاة لله من أجل تغيير طبائع الزوج وعدم اليأس من عدد سنوات قسوته حتى وإن بلغت 30 عامًا، ضاربة مثل بذلك لسيدة ظلت تصلي من أجل زوجها إلى أن فاجأها باعترافه وهو على فراش الموت بشعوره بذنب الابتعاد عن المسيح طوال العمر مبديًا ندمه على ذلك..

هذه العبارة وإن كانت في النموذج السابق سببها ابتعاد الزوج عن الله، كان هدف الواعظة في الفيديو المنتشر على منصات التواصل الاجتماعي، هو صلاة الزوجة لعودة الزوج روحيًا إلى الله، لكن التعليم نفسه يوجه بقوة للنساء المسيحيات في الاجتماعات الدينية بهدف تحمل المرأة التعنيف والقسوة.. الزوجة بالأخص. 

الصلاة من أجل المخطئين/ات والمسيئين/ات، هي نصيحة تتردد في الكنائس والاجتماعات الروحية مًتخذة من وصية المسيح "صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم" شعارًا لها، فتقال حين تُستنفذ جميع الحيل من تغيير شخص أو موقف ما، فلا يبقى إلا رفع الأعين نحو السماء، وترك التصرف لضابط الكون.

اﻷمر مفهوم لي ولمن تتلقى النصيحة، فلا بأس من اللجوء لله في أي مأزق، هي فكرة ليست ببعيدة عن كل الأديان والمعتقدات، لكن أن تتردد هذه العبارات على مسامع نساء تتعرض للإساءة الزوجية من باب ضرورة التحمل يعني أن ينفلت الخطاب نحو منعطف آخر مائلًا نحو التطبيع مع العنف، وربما تمجيده في أحيان. 

مثلًا.. أخبرتني صديقة عن حوارها مع أعضاء اللجنة المسؤولة حول حل المشكلات الزوجية في كنيستها - "لجنة يمر عليها كل من يطلب الطلاق"- قالت إن ردود 5 أفراد أعضاء وعضوات اللجنة دارت في إطار أن النساء خُلقن لتحمل الإساءة، وكل المتزوجات تتحمل بالفعل الأسوأ، فلماذا لا تتحملي أنتِ.. 

حتى أنهم طرحوا عليها أسئلة من نوعية: "إيه نوع العنف الجسدي؟ هل أحدث عاهة؟ هل يحدث كل يوم؟ هل ترك المنزل ولا يراعي أبناؤه؟ ولأن الإجابات على الأسئلة السابقة كانت بالنفي انتهى الحديث بقولهم "أنتِ بتدلعي"، رغم أن العنف الذي تعرضت له صديقتي -أوصلها للعلاج النفسي والانهيار  العصبي في فترات من حياتها- إلا أنهم اعتبروه "دلع" طالما لم يسفر عن عاهة أو شيء ملموس، وكانت نصيحتهم لها: "صلي كي تتحملي أنتِ أولًا وليتغير زوجك للأفضل".

اقرأ أيضًا:" 99% من الكتب دي هدفها الفلوس".. عظة مفاجئة لأسقف نقادة تفتح ملف "تجارة المعجزات"

الصلاة للمخطئين.. فرحة للسماء وألم للنساء

أتصور حوارًا تخيليًا -لكنه غير منفصل عن الواقع- يدور بين القادة الدينيين والنساء، وكأن لسان حالهم يُخبرهن: "نحن لا نستطيع تغيير واقِعِك، ولا حتى إنقاذِك منه، ولنكن أكثر وضوحًا فيدنا قاصرة عن دعمك أو دفعك لموقف تثأرين فيه لكرامتك، فهذا سيحط من كرامتنا نحن، ويحد من دورنا وسيطرتنا عليكِ، وعلى قضية الأحوال الشخصية بالكامل وملفها الذي لن نُفلته من يدينا فطالما رددنا منذ سنوات "لا طلاق إلا لعلة الزنا".

 فإن فلتِ أنتِ من زيجة مدمرة.. فماذا سنفعل نحن الباقي من عمرنا؟ وعلى من نلقي باللوم؟ وهل سنترك هكذا النساء تنفلت من أيدينا لصالح كرامتهن واحدة وراء أخرى؟

الأسهل أن نخبرك بجدوى التحمل، ونعدُك بنعيم سمائي بانتظارك سيعوضك بالضرورة عن كل ما عانيته.

ولنكن أكثر صراحة معكِ.. أليس من الأفضل أن تتحملي وتصلي ﻷجل زوجك وإن كان يَضرب، يُعنف، يُسيء، يحيل عشرته إلى كارثة.. لا يهم طالما أن طريق الانفصال الفعلي مغلق فهناك بابًا مفتوحًا أمامك عزيزتي المرأة عليك ألا تُوصديه هو باب السماء.

فقط صلي.. ﻷجلك ولأجل تحملك أولًا، ثم لأجل كسب آخرة زوجك تاليًا.. نعم آخرته في يدك كما في يده، فإذا ما اعترف في نهاية العمر بخطأه حدثت فرحة في السماء كما على الأرض، لا يهم عمرك الضائع سيدتي وسنوات شبابك المارة أمامك.. إن تعرضت ﻷقسى أنواع التعذيب، ففرحة السماء تكفي، كما أنكِ لستِ وحدِك.. هل سمعتي عن أم عبد السيد؟!

اقرأ أيضًا:أهل الكهف.. "أسلمة" الشخصية المسيحية في السينما المصرية

أم عبد السيد.. أو هالة القداسة على العبودية 

تشتهر قصة أردينا مليكة يوسف، أو "أم عبد السيد"، التي أُطلق عليها "أم الغلابة" وذلك بعد رحيل البابا شنودة الثالث، وتم إنتاج فيلم ديني عن قصتها يحمل اللقب ذاته، بين قطاع كبير من المسيحيين الأرثوذكس، وترددت سيرتها باعتبارها نموذجًا لتحمل النساء الفاضلات حياة بائسة من أجل أهداف تسمو فوق الإيلام، تتمثل في الحفاظ على الوصية الدينية باستحالة الطلاق، وكذلك الحفاظ على البيت مستقرًا في عُرف المروجين للقصة. 

"أردينا" ذات الأصول الصعيدية ولدت في عام ١٩١٠ من أسرة ثرية وتربت في كنف والدها بعد وفاة أمها في طفولتها، ثم انتقلت إلى القاهرة في حي شبرا مصر، كما خدمت أيضًا فى كنيسة مارمينا بشبرا مع القمص أخنوخ سمعان.

أم عبد السيد "أم الغلابة"
أم عبد السيد "أم الغلابة"

 

الجانب اﻷبرز في حياة هذه السيدة هو تزويجها قسرًا وهي لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها لإبعادها عن طريق الرهبنة الذي طالما سعت إليه، ولسوء حظها كان زوجها شخصًا قاسيًَا، عاشت معه سنوات طويلة تحملت فيها معاملات غير آدمية.

فقد كان يضربها -مثلًا- بخشبة على جسدها ورأسها حتى تنزف أمامه،  ووفق سيرتها وما كان يتردد عنها أنها كانت كثيرة الصلاة من أجل زوجها، حتى أنها في شدة ألمها كانت تناجي بصوت عالٍ لله أمام الناس، وتخاطبه: "ده شريك حياتي، يرضيك يا رب تسيبه عايش فى الخطية؟ يعنى أنا أروح السما وهو يروح جهنم؟ ده حرام، أوعى يا رب تكتب على جوزي خطية".

اختيار العبودية بالدين 

كلما سمعت نصائح عن ضرورة تحمل النساء للعنف الزوجي لأن طريق الانفصال مغلق أتذكر المفكر الفرنسي إيتيان دولا بويسي الذي تحدث عن صورة جديدة من العبودية في مقالاته الشهيرة "العبودية المختارة أو العبودية الطوعية"، والتي حولها فيما بعد إلى كتاب أكسبه شهرة واسعة عام 1576، قال فيه: "عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتلائم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر".

الكتاب أتمه إيتيان في ظروف سياسية شديدة التعقيد  كانت وقتها الصراعات الدينية على أوجها بين الكنيستين الكاثوليك والبروتستانت في المجتمع الفرنسي، ثم تحول الصراع الديني إلى سياسي لصالح السلطات الحاكمة التي راقت لها إلهاء الناس في هذه النقرات الداخلية كي لا يحاسبهم أحد على خسائرهم الحربية والدولية.

اقرأ أيضًا:الوقوع في قبضة "تصنيفك".. عن "الميول الجنسية" المختلفة

فكرة العبودية الطوعية التي كتب عنها إيتيان دولا بويسي، يمكن أن تكون مظلة كبيرة لتشكل جميع مناحي الحياة، فهي تنطبق على علاقتنا بالدين أو بالأدق علاقة المواطن "المستقر" الذي لا ينطبع الدين على تعاملاته اليومية أو يغير من سماته الشخصية للأفضل، لكنه يظهر كمُسكن حين يفشل في أخذ موقف واضح من حياته المرتبكة. 

لا ألمح هنا إلى قصة أم عبد السيد التي اختارت هذا النوع من العبودية بكامل إرادتها حد الاندماج معها، لزوج عنيف وأب قام بتزويجها قسريًا في سن الطفولة، لكني أشير إلى من يستخدم قصتها في الترويج لفكرة التصالح مع الإساءة وتمجيدها من باب التسامح، حتى يصل إلى ما أسماه المفكر الفرنسي "المواطن المستقر" الذي يتلائم مع الاستبداد تدريجيًا حتى يصبح يومًا هو نفسه مستبدًا وعلى أقل تقدير مروجًا له ومدافعًا عنه..

 فالصلاة من أجل المسيئين يمكن أن تكون مدخلًا للسلام النفسي إذا ما تبعتها مواقف حاسمة تجاه هذا المُسيء أو هربًا من محيطه وتوقيف دائرة العنف بالقوة إن لزم الأمر؛ وقتها الصلاة لأجل المُسيء جيدة ومطلوبة إذا ما كانت مرحلة ينشد صاحبها قليل من الهدوء والسلام مقابل عواصف الإساءة وتركتها من انكسارات داخلية، لكنها "الصلاة" ستصبح لعنة وطريق لصناعة ضحية لا تملك سوى الاستقرار مع الإساءة ويحول العنف مع الوقت نهجًا قد توقفه الضحية عندها في أسلم الأحوال، أو تكرره مع آخرين، لندور داخل دائرة جهنمية من الإساءة والعنف البشري.

عودة الزوج.. هل يمثل أي انتصار؟

في القصة التي عرضتها بدايةً للواعظة الإنجيلية، عاد الزوج معترفًا بخطأه بعد 30 عامًا من القسوة الروحية أو ابتعاده عن الله، وفي سيرة القديسة أم عبد السيد، ترك الزوج بيته وأبنائه صغار تُربيهم الأم وحدها، ثم عاد إليها نادمًا بعد مرضه، فخدمته وصارت تداويه حتى وفاته. 

هكذا تُحكى الحكايات على مسامع النساء المسيحيات، وعود بنهايات سعيدة عليهن تحمل الشرور والاستبداد ﻷجل الظفر بها.. تحملي لأن النهاية سعيدة، سيعود ويتوب ويبكي، ولا يهم عمرك الضائع، وسنوات يمكننا المقامرة بعددها، فلا يهم من وجهة نظرنا -كقادة دينيين- 30 أو 60 عامًا من الإهانة، فقط عليكِ بالانتظار،والانتظار.. وألا تكوني "دلوعة" كما أطلق أعضاء اللجنة وعضواتها على صديقتي، 

انتظرتي؟ مبارك عليكِ عودة زوجك ومعنفك باكيًا، مع دموعه أصبحتِ حاملة لقب العبدة، أو كما أطلق عليها  إيتيان دولا بويسي هي مرحلة "العبودية الطوعية".

اقرأ أيضًا:هل مهدت مصر طريق الانتخابات الرئاسية لذوي الهمم؟

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة