ماذا تفعل إن صادفت بلطجيًا مسلحًا يُوسع معاقًا ضربًا في زقاق ضيّق؟
الحد الأدنى من المروءة، يلزمك أن تغيث المسكين من يدي الظالم المتجبّر، فإما أنْ تكفَّه ولو بكلمة حق في وجهه، وإمّا أنْ تستصرخ الناس لإغاثته، فماذا إذا كان المعتدى عليه أخاك؟
عندئذٍ لن يستغرقُك التفكير، ولن تتردد لحظة، مهما كان من بطش البلطجي وقوته، ومن قسوته وفظاظته، ستهبُّ من فورك إلى الاشتباك وإياه، فإما أن تصرعه فتستخلص أخاك منه، وإما أن تتقاسم وإياه “العلقة الساخنة”، وإنْ لم تفعل فإنك لن تبرأ أبدًا من شعورك بالعار والمذلة.
تلك هي الأخلاق التي تعلمناها في الحواري المصرية، وهي ليست منبتة الصلة عن القيم العربية، التي يعبَّر عنها الشعر الجاهلي، في باب الفخر والفروسية، ومن ذلك قول زهير بن أبي سُلمى: “إذا فَزِعوا طاروا إلى مُستغيثِهمْ/ طِوالَ الرِماحِ لا ضِعافٌ ولا عُزلُ” إذ يمتدح قومه الشجعان الذين يطيرون طيرانًا لنجدة المستغيث بهم.
أخلاقٌ لازمت العروبة، حتى إن المتنبي بعد زهير بنحو أربعة قرون قال في داليته الشهيرة: “وبهم فخرُ كلِّ من نَطقَ الضادَ وعوذُ الجاني وغوثُ الطريد”، حتى وصل حال العروبة -وبما إنّ الشعرَ بالشعر يُذكرُ- إلى تساؤل نزار قباني المرير: “ما للعروبةِ تبدوُ مثلَ أرملةٍ، أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ؟”.
وغنيٌّ عن البيان أن هذه القيم الأخلاقية، هي التي حدت بالراحل الكبير الدكتور شوقي ضيف، إلى أن يقرر في كتابه الموسوعي “الشعر الجاهلي”، أن العرب لم يكونوا قبل الإسلامِ همجًا برابرة، بل إن الأقرب إلى الصواب أنهم كانوا أصحاب حضارة ذات نسق أخلاقي معنوي متين، يظهر جليًا في باب الفخر والحماسة بالشعر الجاهلي، ما يعني أن الجاهلية اصطلاحًا كانت تدل على الشرك بالله، والجهل بالتوحيد، لا بدائية الأخلاق وتدني القيم.
بعيدًا عن هذا الاستغراق، وعودًا إلى سؤال الاستهلال: ماذا تفعل إن وجدت بلطجيًا مسلحًا يوسع معاقًا ضربًا في زقاق ضيق؟
سؤالٌ طرحه وأجاب عليه، المستشار مرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك السابق، عبر مادةٍ فيلميةٍ طيَّرتها صفحات السوشيال ميديا، من صفحة إلى أخرى، ومن حساب إلى حساب.
كان رئيس نادي الزمالك السابق، يتحدث عن الموقف العربي المتهافت من مأساة الشعب الفلسطيني الذي يتكالب عليه “البلطجية الدوليون”؛ إسرائيل والولايات المتحدة ومن وراءهما الغرب بأسره، في حين يبلع العرب ألسنتهم كأنما القطة أكلتها.
مع التحفظ بالقطع على وصفه الشعب الفلسطيني بالمعاق، فلا يستوي أن يكون المقاوم ضد الاحتلال معاقًا، ومع الأخذ في الحسبان تبريره ذلك بحرمان الفلسطينيين السلاح والدعم السياسي فضلاً عن حرب التجويع، ومع تأكيد خلافي العميق وأيضًا كراهيتي الراسخة لمرتضى منصور، غير أنه إذ أدلى بما أدلى به، يفتح باب نقاش واسعًا، حول قضية بالغة الأهمية، ويطرح سؤالًا لا بد من الإجابة عليه بموضوعية، وهو “كيف أتعاطى مع شخص أو فصيل سياسي أبغضه إن هو اتخذ موقفًا أخلاقيًا لا يخالف ما وقر في ضميري”؟
اقرأ أيضاً : السنوار.. ثلاثية الخندق والسجن والأنفاق
هجوم على رعاية الشركات الأمريكية للقطبين
في التسجيل يشدد مرتضى على أن الأمة العربية، تقاعست عن تأدية واجبها المفروض تجاه الشعب الفلسطيني، ويغمز قناة الناديين الكبيرين؛ الأهلي والزمالك، لقبولهما منح حقوق الرعاية لشركات أمريكية، ويدعو جماهير الساحرة المستديرة إلى الاستمرار في المقاطعة، وهذا في ظني أيضًا من المتفق عليه.
أعلم أن لمرتضى تصريحات سابقة، ذهب فيها إلى شيطنة المقاومة، وتحدث عن الأنفاق بين مصر وغزة، وصب جام الغضب على قادة حركة “حماس“، وهناك شبهات حامت حول دوره في “موقعة الجمل” إبَّان ثورة الخامس وعشرين من يناير المجيدة، لكن ماذا بوسعي أن أفعل إزاء مقولاته الأخيرة التي لا أحمل مثقال ذرة من الاعتراض عليها؟
قلت إني أكره مرتضى، ولي مبرراتي، ومعظمها وليس كلها يتصل باستسهاله سب الأعراض، والاستغراق في النميمة بخصوص علاقات غرف النوم، وما إلى ذلك من فواحش أستقبحها وأستكره التسلح في حروب الخلافات الشخصية، لكني إزاء كلامه عن فلسطين لا أملك إلا أن أتفق وإياه.
صحيح أنه فاجئني، فليس معهودًا عنه هذا القدر من “الشجاعة الأخلاقية”، لكنه فعل فهل أصبُّ عليه اللعنات لمجرد أنه مرتضى؟
كلامٌ يمدُّ الخط على استقامته، فيثير الكثير حول إشكاليات تأييد حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، رغم خلافي الآيديولوجي المبدئي الأقرب إلى الخصومة، مع جماعة الإخوان، التي خرجت الحركة من عباءتها، وإن أعلنت فك الارتباط بها، وكذلك تأييد حزب الله اللبناني ذي المرجعية الطائفية بالقطع، وذي الدور الدموي في سورية، إبَّان الثورة المسلحة ضد نظام الأسد.
بل إن هذه الإشكاليات تحدو بالضرورة إلى أسئلة، حول ماهية الموقف الأكثر صوابًا وأخلاقية، إزاء جمهورية إيران الإسلامية.
ليس خافيًا أن إيران تُشكِّل رقمًا إقليميًا مهمًا في الشرق الأوسط، وليس سرًا أن طهران لها طموحات في الهيمنة السياسية، لكن هذا طبيعي بالنظر إلى عوامل حضارية وثقافية وعقائدية متشابكة، وأغلب الظن أن تأثيم إيران على هذه الخلفية هو سلوك ينبثق عن تفكير سطحي، منبت الصلة عن حقيقة أن الدول الكبرى، وإيران كذلك بالتاريخ والجغرافيا والمقدرات البشرية، تطمح دائمًا إلى شغر مساحة ترى أنها تناسب مكانتها في محيطها الإقليمي.
مسألة تصدير الثورة الإسلامية مثلًا، قد تمثل وجهًا من أوجه الخلافات مع إيران، التي يتحالف فيها الملالي والعسكر ضد الحريات والحقوق الإنسانية، وفق تعبير الراحل فرج فودة “في إيران يعتمر العسكر العمامة ويلبس أولو اللحى البيادة”، لكن المؤكد أن سعي إيران إلى بسط نفوذها، يأتي في إطار مصلحة نظامها السياسي، وهي إذ تفعل ذلك تستغل بالطبع انسحاب مصر، التي تمتلك كل المقومات لارتقاء الصدارة والريادة في محيطها الإقليمي، سياسيًا واستراتيجيًا وثقافيًا وحضاريًا، لولا انكماشها بعد كامب ديفيد في حدودها الجغرافية؛ الأضيق كثيرًا من مكانتها.
مناهضة إيران ورفض مشروعها الإقليمي، وظلاله الطائفية التي تنبعث عن أغراض سياسية أكثر من كونها عقائدية، فضلًا عن نزعات عرقية تتعلق بمقولات متهافتة، بسمو الفرس وعلو شأنهم حضاريًا، بالقياس إلى العرب، لا يعني الوقوف مع الاحتلال الصهيوني ضدها.
وبعدُ.. هل المفترض أن تنحرف البوصلة إلى حد تولية الوجه شطر تل أبيب نكايةً في طهران؟
متى تكون إيران أو حماس أو حزب الله أو الحوثيون، في مواجهة مع عدوي رقم واحد الصهاينة؛ العدو الذي يسفك دم شقيقي الفلسطيني، ويشن ضده جرائم الإبادة الجماعية بمنتهى الوحشية، مع التأكيد على أن مفردة شقيقي، لا تحمل الحد الأدنى من المبالغة والتزّيد، فالمفترض أن يُنحى الخلاف السياسي مع خصومي إلى حين.
محور المقاومة إذن قد يتألف من خصومي، لكن هؤلاء الخصوم يحاربون عدوي، فطبيعي أن أصطف إلى جوار الذين أخالفهم، إذ يحاربون الذين يريدون شطب خرائطي والإجهاز عليَّ.
صرخات السلفية ونهيق الوهابية
الزاعقون الصارخون من أولي اللحى المبعثرة بطول قبضتين، من أبواق السلفية الرجعية، والوهابية المتطرفة، ممن ينهقون بخطورة المد الشيعي، لا يجب أن يكون لهم صوت ولا كلمة، حين يرتفع دوي المدافع وأزيز الطائرات.
هؤلاء رجعيون متخلفون عن ركب الإنسانية في المجمل، محشورون في فتاوى ما “تحت السُّرة”، وإرضاع الكبير، وجهاد النكاح، فلا تنتظر منهم كلمة حق في المواقف المفصلية.
الحق يُنشد لذاته، وليس لقائله، ولا ينبغي ولا يستساغ اختزال قضية إنسانية في المقام الأول، وأخلاقية من قبل ومن بعد في زاوية طائفية ضيقة، لا تنتمي إلى سياق اللحظة الراهنة.
بالرجوع إلى مرتضى، الذي أثار كل ما سبق، فكما لا يجوز التموضع خلف لافتات الطائفية الدينية، إزاء محور المقاومة، فلا ينبغي كذلك أن يؤخذ كلام مرتضى في سياق طائفية “كرة القدم” ونعرات مشجعيها المتشددين، بل في إطار أنه قال كلمة واجبة، في وقت صمت فيه كثيرون، ممن كنا نتوقع منهم رد فعل أخلاقيًا.
لا محل لسؤال عن دوافع مرتضى، ولا مكان للنبش في نواياه، ولا منطقية في الدفع بأنه يريد أن يقلب الطاولة، بعد تنحيته عن إدارة نادي الزمالك، الذي كان عزبة خاصة يتصرف فيها كيفما يشاء.
ليس سهلًا عليّ، ولم أكن أتصور أن أكتب يومًا في مديح موقف لمرتضى منصور، لكني إزاء ما قاله، أردت طرح الأسئلة المتواطئة على غض البصر عنها، فيما غبار الركام يرتفع في أجواء غزة، وفيما كرة اللهيب قد تمتد فتحرق ألسنتها مساحات أخرى من الخارطة.