“يا واخد قوتي يا ناوي على موتي”. هذه هي الفلسفة التي يؤمن بها العمال حاليًا، والتي تفسر بها رئيسة نقابة الضرائب المصرية أمينة العمال بحزب “المحافظين” فاطمة فؤاد، الوضع العمالي الراهن مع استمرار غياب الحقوق وتصاعد وتيرة الغضب حد الإضراب عن العمل في القطاعين العام والخاص، في ظل تعامل أمني عنيف مع مطالب هذه الفئة التي تواجه تضخمًا وتصفية أو تعطيلًا لمصادر رزقها.
ألقت السلطات الأمنية، فجر الأحد الماضي، القبض على 9 من عمال شركة وبريات سمنود في محافظة الغربية، بعد إضراب عن العمل بدأ قبلها بـ 10 أيام ويتواصل للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، فيما شهدت المواقع العمالية المتنوعة تصاعدًا في وتيرة الاحتجاجات بين صفوف العمال والموظفين، شملت القطاعين العام والخاص، وكان المشترك بينهم دائمًا هو المطالبة بزيادة المستحقات المالية خصوصًا بعد عدم الالتزام بتطبيق قرار زيادة الحد الأدنى للأجور الصادر في مايو الماضي، لتصل إلى 6000 جنيه، من قبل أصحاب الأعمال وإدارات المصانع والشركات.
لا نطلب أكثر من تطبيق قرار الحكومة
يقول جمال عثمان، القيادي العمالي في مصنع طنطا للكتان، إن مطالب العمال تتركز على الحقوق المالية. ويضيف في حديثه لـ فكر تاني: “نعم هناك مطالب أخرى مثل مشاكل تأسيس النقابات، واستبعاد القيادات النقابية، لكن الغالبية العظمى تحتج للمطالبة بزيادة الأجور وفي القلب منها الحد الأدنى للأجور”.
ويطالب العمال والموظفين بتطبيق قرار اتخذته الحكومة بزيادة الحد الأدنى للأجور، بالتزامن مع رفع الأسعار، دفعًا بأن القرار يعتبر ملزمًا للجميع كما جاء به. ومع ذلك، فإن هذا القرار يتم التحايل عليه من قبل المئات من أصحاب الشركات والمصانع الذين طلبوا من وزارة القوى العاملة استثناءهم من تنفيذه، وهو ما لم بتم الرد عليه بالرفض أو الاستجابة حتى الآن وتستغله الشركات جيدًا لصالحها على حساب العمال.
كان آخر الاحتجاجات العمالية إضراب المئات من عمال شركة وبريات سمنود للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، ومع تجاهلهم من قبل الإدارة، أعلنوا الاعتصام داخل مقر الشركة لحين الاستجابة لمطلبهم الوحيد، الأمر الذي أدى إلى القبض على 9 منهم، 4 عاملات و5 عمال من منازلهم من قبل قوات أمنية.
في حديثه لـ فكر تاني، يقول أحد العمال بالشركة إنهم لن يتراجعوا عن الاعتصام والإضراب عن العمل، لحين الإفراج عن زملائهم وإقررا الحد الأدنى للأجور، مشددًا على ضرروة أن تضغط الحكومة على الشركات القابضة وأصحاب الأعمال لتنفيذ القرار “رحمة بالناس في ظل الارتفاع الشديد في الأسعار، ومن أجل الصالح العام أيضًا”؛ على حد قوله.
قبل أيام دخل عمال شركة سيراميكا فينيسيا في إضراب عن العمل لمدة أسبوع احتجاجًا على رفض الإدارة تطبيق الحد الأدنى للأجور، وتدني الحافز، وعدم صرف الأرباح بحجة مرور الشركة بأزمة مالية.
لنفس الأسباب لم يكن أمام عمال شركة النصر للغزل والنسيج والتريكو “الشوربجي” سابقًا، أي حلول سوى الاحتجاج داخل مقر الشركة للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، خصوصًا في ظل الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات، وصرف البدلات “المخاطر، العدوى، والانتقال”، وصرف الحافز بسبة 100% على أساسي الأجر، وزيادة الأرباح السنوية من 5 أشهر لتصل إلى 12 شهرًا.
وفي السياق ذاته، تقدم عمال شركة الصلب للمناجم والمحاجر والتي تضم محجر الواحات البحرية ومحجر بني خالد بالمنيا ومحجر الأدبية بالسويس، بطلبات لصرف ثلاث وجبات غذائية متكاملة، أسوة بباقي الشركات، وكما نص عليه قانون المناجم والمحاجر رقم 27 لسنة 1981 في المادة (23).
المكن الداير.. أزمات العمال لا تنتهي
أزمات العمال وتطبيق حقوقهم التي نص عليها القانون ليست وليدة العام الجاري فقط وإنما تمتد لسنوات طوال. وقد شهد العام الماضي 2023 عددًا من الاحتجاجات بالتزامن مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وزيادة الأسعار وأزمة الدولار، حيث دخل العشرات من عمال مصنع سكر كوم أمبو في أسوان في إضراب مفتوح عن العمل، للمطالبة بزيادة أجورهم، وكذلك فعل عمال مصنع سكر أرمنت في الأقصر في اليوم التالي.
شكاوى العمال في المصنعين جميعها تتلخص في ضعف المرتبات التي تتدنى حد 300 و500 جنيه في بعض الحالات، والزيادة السنوية التي اقتصرت على العلاوة السنوية وقيمتها التي تتراوح بين 21 و150 جنيهًا في حدها الأقصى للعامل.
وتشمل مطالبهم 20 بندًا، أبرزها: رفع البدل النقدي والوجبة والحافز وضم العلاوات إلى أساسي الراتب وزيادة شهور الأرباح وتحريك سلفة غلاء المعيشة المتوقفة منذ سنوات، بالإضافة إلى توقيع عقود مؤقتة للعمالة الموسمية، وتجديد مستجدات الحالة الاجتماعية للعمال، والنظر في التعاقدات الطبية، وتوفير العلاج للأمراض المزمنة، وتعديل بند إصابة العمل، وفترة نهاية الخدمة حسب المدة الفعلية للعمل، وعدم خصم 45% من المكافأة.
التخلص من 15 ألف موظف بـ”تحليل مخدرات”
أيضًا كان من أسباب تعدد الوقفات الاحتجاجية، القانون 73 لسنة 2021 والذي يجيز فصل الموظفين الحكوميين إذا ثبتت إيجابية تحليل المخدرات لهم. حسب بعض الإحصائيات غير الرسمية، فصلت الدولة حوالي 15 ألف موظف من قطاعات مختلفة على مستوى الجمهورية منذ بداية تطبيق القانون 73 لسنة 2021.
وفي تقريرها السنوي، قدمت دار الخدمات النقابية والعمالية رصدًا للانتهاكات التي تعرض لها العمال في العام 2023، تزامنًا مع بداية الأزمة الاقتصادية:
نوع الانتهاك | عدد العمال |
نقل العمال تعسفيًّا من أماكن عملهم كعقاب | 4 |
تقييد الحرية وتوجيه تهم جنائية | 32 |
فصل العمال | 109 |
تهديد بالفصل | 900 |
تهديد بالأمن الوطني | 4 |
امتناع عن دفع الأجر | 2517 |
استدعاء الشرطة | 300 |
إيقاف عن العمل | 28 |
طرد العمال خارج مقار العمل | 1700 |
إنذار بالفصل | 131 |
العنف اللفظي والبدني | 500 |
التحقيق مع العمال | 15 |
الجزاء المالي للتعبير عن الرأي | 1 |
وطالت الاحتجاجات عمال شركة يونيفرسال البالغ عددهم 1700 عامل، يعانون من تدني الرواتب التي لا تتجاوز 3200 جنيه للعامل، أي أقل من الحد الأدنى للأجور، وتمثلت مطالبهم في صرف الـ 10% التي حددها القانون من الأرباح السنوية، وإعادة صرف بدل غلاء المعيشة المتوقف منذ يناير 2022، وتوقف الإدارة عن خصم 50% من قيمة منح المناسبات على خلفية جائحة كورونا، والنظر في تعديل جدول الأجور بالنسبة لكل العاملين بما يتناسب مع ارتفاع نسب التضخم التي أدت إلى ارتفاع الأسعار وغلاء المعيش، وتعليق لائحة الجزاءات في مكان واضح بالمصانع، وكذلك صرف اشتراكات العمال باللجنة النقابية، والتي حصلتها الإدارة من العمال ولم توردها إلى النقابة.
زيادة الأجور تبتلعها الأسعار
وفق رئيسة نقابة الضرائب المصرية فاطمة فؤاد، فالقرارات الأخيرة برفع الدعم عن المحروقات والطاقة وزيادة أسعار السلع والخدمات قاسية على المواطنين بشكل عام ومن بينهم عمال المصانع ذوي الرواتب الزهيدة. وحتى مع زيادات الحد الأدنى للأجور، ومع فرضية أن تُطبق في جميع المنشأت، فإن هذه الزيادات تبتلعها زيادات الأسعار باستمرار. الأزمة ستظل مستمرة في ظل الأزمة الاقتصادية، والأمر بحاجة لما هو أكثر من مجرد زيادة بالحد الأدنى للأجور.
“الموظفون الحكوميون أصبحوا غير قادرين على إعانة أسرهم، في ظل الارتفاع الشديد في الأسعار وما يقابلها من تدني شديد في الأجور، رغم عمل الزوجات إلى جانب الأزواج”.
ترى “فاطمة” أن الحد الأدنى العادل لمتوسط أسرة مكونه من خمسة أفراد، على فرض وجود طلبة في التعليم الابتدائي والجامعي، لا يقل عن 20 ألف جنيه شهريًا.
وتضيف أن التلاعب والهروب من تطبيق الحد الأدنى للأجور الذي أصدرته الحكومة في مايو الماضي، من قبل العديد من أصحاب الشركات والمصانع، يجب أن يقف عند حده.
الحد الأدنى ومعضلة التطبيق
منذ ثلاث سنوات اتخذت الحكومة عددًا من القرارات بشأن زيادة الحد الأدنى للأجور، في ظل الزيادات المتتالية في أسعار السلع والخدمات ورفع الدعم بشكل تدريجياً، وبتتبع تطور الحد الأدنى للأجور للعاملين بالقطاعين العام والخاص نجد أن أول زيادة كانت في يناير 2022 إلى 2400 جنيه، ثم تم رفعه إلى 2700 جنيه في يناير 2023، ومره أخرى تم رفعه في يوليو 2023 ليصل إلى 3000 جنيه، ثم إلى 3500 جنيه في يناير الماضي، وآخر ما وصل إليه الحد الأدنى للأجور 6000 جنيه متضمنًا حصة صاحب العمل في الاشتراك التأميني.
ويشير عثمان، في حديثه لـ فكر تاني، أن الحد الأدنى للأجور بهذا القدر لم يكن ما تطمح إليه الطبقة العاملة، بسبب الظروف الاقتصادية، ومع ذلك فحتى هذا القدر لم يطبق، معتبرًا القرار غير شامل وغير صائب، لأنه لم يشمل جميع الفئات، كما جاء غير كاف لتلبية احتياجات العمال في ظل الارتفاع الشديد في الأسعار.
ويلفت النظر إلى أن من يطبق عليهم الحد الأدنى لا يتحصلون عليه كاملا بسبب الاستقطاعات، مما يعمق الأزمة ويزيد من سخط العمال بسبب ما يتعرضون له من أعباء مالية، وهذا إن دل يدل على فشل منظومة الأجور في مصر والذي أثبتت عدما قدرتها على تلبية احتياجات الناس.
سوء الأوضاع المعيشية وراء موجة الاحتجاجات
يؤكد الباحث الاقتصادي ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، إلهامي الميرغني، أن قضية الأجور والأسعار هي أكثر القضايا تفجرًا على مدار الأشهر الأخيرة، خصوصًا مع بداية توقيع اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي.
ويقول الميرغني، لـ فكر تاني، إن تحريك الأجور وإن أوصل الحد الأدنى إلى 6000 جنيه، يبقى هذا الحد غير مُطبق على كل العمال بأجر، بل على قطاع محدود منهم، مما يعني تخفيض الأجور الحقيقية لباقي العمال الذين لم تشملهم الزيادات، في ظل تجاهل الجهات المسؤولة التي لم تتحرك لمعالجة الخلل، وتهرب مئات المنشآت من تطبيق الحد الأدنى.
ويشير “الميرغني” إلى الارتفاع المتواصل الذي شهدته الأسواق في أسعار الطعام والشراب والأدوية، وأسعار الخضروات الأساسية كالبطاطس والطماطم لتصل لمستويات غير مسبوقة، يعجز معها الحصول على المتطلبات الأساسية بالنسبة للغالبية من محدودي الدخل.
زيادة الأجر على رأس المطالب
تنوعت القطاعات المشاركة في الاحتجاجات خلال النصف الثاني من العام 2023 والنصف الأول من لعام 2024، ولكن المشترك بينها كان المطالبة بزيادة المرتبات والحوافز وصرف الأرباح.
في السياق ذاته، يشير الميرغني إلى زيادة أسعار النقل والمواصلات، وارتفاع أسعار استهلاك شرائح الكهرباء بمعدلات تتراوح بين 15% و50%، وإلغاء صرف السكر الحر علي البطاقات التموينية ضمن صور الأعباء المتزايدة على المواطنين.
ويرى الميرغني أنه من الطبيعي أن يكون أصحاب الدخول الثابتة من أجور ومعاشات هم أكثر الفئات المتأثرة بالزيادات، وبالتالي الأكثر بحثًا عن وسائل تعويض تعينهم على مواجهة الغلاء، فلم تغنيهم العلاوات التي تراوحت ما بين 7% و10% و15%، عن المطالبة بزيادة الأجور التي لا تكفي في ظل غلاء تجاوزت نسبته 25% حتى أصبحت المرتبات والمعاشات عاجزة عن تلبية نفس الاحتياجات التي كانت تحصل عليها قبل الزيادات الأخيرة.
في وقت سابق، نظم محصلو الفواتير وقارئو العدادات بنظام العمولة في شركة مياه الشرب بالجيزة، وقفة احتجاجية قرب مقر الشركة بالوراق، للمطالبة بالتثبيت وتحرير عقود شاملة تضمن لهم رواتب ثابتة.
كما نظم عمال شركة “تي أند سي” للملابس الجاهزة والتي تضم 7 آلاف عامل نصفهن تقريبًا من سيدات، وقفتهم الاحتجاجية أمام مقر مصنعهم في منطقة العبور، للمطالبة بتحسين أوضاعهم المالية، كما طالبوا بزيادتهم السنوية التي لم تصرف، في ظل عدم تناسب رواتبهم التي تتراوح بين 2500 و4 آلاف جنيه، خصوصا في ظل الارتفاع في سعر الدولار والزيادات المطردة في الأسعار، مطالبين برفع الأجور 50%.
ويحذر الميرغني من انهيار جبل الجليد، معتبرًا احتجاجات عمال الشوربجي وفينيسا وغيرها الجزء العائم الذي يدق جرس الإنذار للمسؤولين، ليعلن لهم أن الأوضاع أصبحت تفوق طاقة التحمل العمالي وبما ينذر بموجة كبرى من الاحتجاجات. وإذا لم يتم التحرك السريع والتدخل بإجراءات حاسمة في الأجور والأسعار والسيطرة على الأسواق فإن الموجة الاحتجاجية ستزيد وتتسع ولا يعرف مداها الا الله. على حد قوله
وقف نزيف الفصل التعسفي
تقول عائشة أبو صمادة، رئيس اللجنة النقابية سابقًا بشركة الحناوي للدخان والمعسل: “هناك الآلاف من العمال تم فصلهم على مدار السنوات الماضية، وبالتالي هناك ملايين الأسر من دون دخل، ومن يسعده الحظ ويحصل على عمل موسمي لا يتحصل على دخل يكفيه العيش الحاف هو وأسرته، وبالتالي عند الحديث عن حد أدنى للأجور يجب أن نأخذ في الاعتبار من هم من دون أجر”.
وتطالب بضبط الأسعار عند حد معين، حتى لا تبتلع أي زيادة تحدث في الأجور، قائلة أنه عندما نتحدث عن حد أدنى للأجور أقل من عشرة آلاف، لا يعتبر حد أدنى.
وتؤكد عائشة التي تم فصلها تعسفيا هي وتسعة وعشرون عاملة أخرى منذ بداية العام 2023، أن العمال هم عصب الدولة، هم عجلة الإنتاج، ولا يجب أن تتخلى عنهم الدولة بهذا الشكل، حتى لا نضيف أعداد جديدة لسوق البطالة.