أمام أحد مباني التأمين الصحي في حي الهرم بمحافظة الجيزة، غربي العاصمة القاهرة، تنتظر “وسام عبد السلام” في منتصف طابور انتظار طويل، على أمل صرف جرعتها من حقن الإنسولين. 38 يومًا كاملة لم تتمكن خلالها من توفير دواء تتوقف عليه حياتها. الإجابة المعتادة في كل مرة: “لسه ناقص”.
تحتل مصر المرتبة 10 (21%) في قائمة أعلى 20 دولة تعاني من أسوأ معدلات الإصابة بمرض السكري، وفقًا للأرقام التي جمعتها Our World in Data، باستخدام بيانات من الاتحاد الدولي للسكري (IDF) في مايو 2023، وهي نسبة آخذة في الزيادة في ظل العادات الغذائية السيئة في المجتمع المصري.
في إحدى مرات الفشل في الفوز بجرعة الإنسولين، وتحت أثر الإرهاق والمرض، فقدت “وسام” وعيها على أبواب مقر التأمين الصحي. تقول لـ فكر تاني: “ما كانش حد من ولادي عارف أنا فين.. الغياب طول وبدأ الشك إني اتعرضت لغيبوبة سكر بس ما كانوش عارفين يدوروا فين لحد ما الممرضة اللي لحقتني كلمتهم وبلغتهم بحالتي”.
المهددون بإغماء دون عودة
شخص الأطباء حالة “وسام” بأنها انخفاض حاد في معدلات السكر في الدم بسبب عدم الانتظام على جرعات الإنسولين المعتادة، وحذروا من تكرار هذه الحالة التي قد تصل إلى نوبات طويلة من غيبوبة السكري أو الوفاة.
السكري هو مرض مزمن، يحدث عندما يعجز البنكرياس عن إنتاج كمية كافية من الإنسولين، أو عندما يعجز الجسم عن استخدام الإنسولين – الذي تنتجه – بشكل فعال. وهذا يؤدي إلى زيادة تركيز الجلوكوز في الدم (فرط سكر الدم).
ووفق منظمة الصحة العالمية، ينقسم السكري إلى نوعين أساسيين: السكري نمط 1 (المعروف سابقًا باسم السكري المعتمد على الإنسولين أو السكري الذي يظهر في مرحلة الطفولة) ويتميز بقلة إنتاج الإنسولين، والسكري نمط 2 (الذي كان يسمى سابقًا السكري غير المعتمد على الإنسولين أو السكري الذي يصيب البالغين) وينتج عن عدم فعالية استخدام الجسم للإنسولين. وهو ينتج ـ غالبًا ـ عن فرط وزن الجسم والخمول البدني.
منذ حادث الإغماء الذي تعرضت له، ترتدي “وسام” قلادة مُدون عليها: “اسمي وسام وده رقم زوجي… أنا مريضة سكر”. حل يعتمد مبدأ الاستسلام لوضع لا يمكن فيه توفير حقنة إنسولين أو بديل رخيص لها.
لكنه أيضًا، لا يخلو من رعب احتمالات التعرض لما هو أسوأ من غيبوبة سكري عابرة. لذا، فإن هذه السيدة مدفوعة بالقلق تضطر بين الحين والآخر لتدبير جرعات إنسولين على نفقتها الخاصة. يحدث هذا فقط حينما يكون الوضع حرج للغاية. تقول: “باضطر أحيانًا اشترى الإنسولين على حسابي الخاص عشان ما يوغماش عليا تاني.. بس ده كمان لو لقيته”.
غياب الاستقرار = تفاقم الوضع
الاستقرار هو ما ينشده مرضى السكري على الأغلب، وهذا الاستقرار ليس فقط في مستويات الإنسولين وإنما الاستقرار المرتبط بتوافر وأسعار الإنسولين باعتباره العلاج الأهم في حالات السكري من النوع الأول، والذي بدونه تتفاقم حالة المريض إلى تدهور أبعد من مجرد غيبوبة سكر.
يقول “حسين عبد الرحمن” – وهو رجل سبعيني مريض بالسكري من النوع الأول: “الناس مفكرة إن أزمتنا بتقف عند توفير حقنة الإنسولين. ما يعرفوش إن الأزمة أكبر وإن المضاعفات اللي بتوصل لأجزاء تاني من جسم المصاب معناها تكاليف مادية أكتر لعلاج المضاعفات.. كل حاجة في الحياة بتتوقف على حقنة الإنسولين دي.. انهيار الجسم كله متوقف ع الحقنة دي”.
أصيب “حسين” -وفق آخر تشخيص طبي لحالته- بالقدم السكري نتيجة تأثر أعصاب الأطراف، خاصة بعد التأخر عن تناول جرعات الإنسولين اليومية المطلوبة لحالته، وقد وصفت له أدوية أعصاب إضافية حتى لا تتفاقم أزمته ويصل إلى مرحلة بتر الطرف المصاب.
ويحذر الدكتور أحمد زيدان، استشاري أمراض الباطنة، من عدم انتظام مريض السكري في تلقي جرعات الإنسولين. يقول في تصريحاته لـ فكر تاني: “تأخير جرعة واحدة كاف لإحداث مضاعفات خطيرة قد تصل إلى الموت”. إذ لا يتوقف تأثير مرض السكري على عضو واحد في الجسم بل يمتد إلى القلب والكلى وأحيانًا أعصاب الجسم بأكمله.
ووفقًا للجمعية الأمريكية الوطنية للقلب بالولايات المتحدة، فإن قرابة 80% من مرضى السكري مهددون بالإصابة بأمراض القلب التي قد تؤدي إلى الوفاة.
“فاتن محمود” تبلغ 47 عامًا، تعاني إلى جانب إصابتها بالسكري من قصور بالشريان التاجي، وفي حالتها يحذر الأطباء من حدوث أي خلل في مستويات السكر والذي بدوره قد بتسبب في مضاعفات قلبية مهددة لصحتها.
أن تكون طفلًا مصابًا بالسكري
هذا الوضع يكون في أسوأ صوره إذا ما كان المصاب طفلًا. كانت “إيمان” تجهل كيف تتعامل مع طفلها “عبد الله” – ذي السنوات التسع – منذ أن تم تشخيصه قرابة عام ونصف العام تقريبًا مصابًا بالنوع الأول من مرض السكري، وهي الآن تجهل كيف لطفل مثله أن يتحمل غياب جرعة الإنسولين؛ الطريق الوحيدة للحيلولة دون تفاقم حالته الصحية.
تقول في حديثها لـ فكر تاني: “فيه تفاصيل كتيرة في حكاية عبد الله صعب التعامل معاها عشان صغر سنه.. ازاي همنع طفل صغير من الحلويات أو اللعب والجري وبذل المجهود.. من غير إنسولين كل حاجة في حياته تقريبًا ممنوعة.. مطلوب مني قياس السكر لابنى بانتظام في الظروف الطبيعية اللي بتتوفر فيها حقن الإنسولين.. وفي غياب الإنسولين مطلوب نحطه في حجر صحي ونرهقه بالقياس كل شوية عشان نتأكد إن حالته مش هتتدهور”.
اشترت “إيمان” جهازًا لقياس مستويات السكر لدى ابنها “عبد الله، الذي حتاج إلى مرات ثلاث على الأقل ما بين الوجبات، إلا أن هذا الأمر ليس باليسر الذي يبدو عليه، خاصة فيما يتعلق بتكلفة هذا الإجراء. تقول: “الأول كانت تكفينا الشرايح المستخدمة للقياس تلاتين يوم بسعر لا يتعدى 120 جنيه. دلوقتي أنا محتاجه 450 جنيه لنفس الكمية عشان رفعوا السعر علينا وده برضه لو لقينا الشرايح”.
اقرأ أيضًا: الدواء الذي تحتاجه ابنتك.. “ناقص” أو “رُفع سعره”
تصنيف الإنسولين وتأثير نقصه
تتعدد أنواع الإنسولين المستخدمة في علاج مرضى السكري، ويحدد النوع المناسب بناءً على استجابة جسم المريض وسرعة امتصاص الإنسولين، فضلًا عن عوامل سرعة بدء المفعول ومدة استمراره.
وينقسم الإنسولين وفق هذا التعريف إلى خمس فئات رئيسية:
- الإنسولين سريع المفعول: يبدأ تأثيره خلال دقائق قليلة ويستمر لمدة تتراوح بين ساعتين وأربع ساعات. يُؤخذ قبل الوجبة بحوالي 15 دقيقة.
- الإنسولين قصير المفعول: يبدأ العمل خلال 30 دقيقة ويستمر لمدة تتراوح بين 3 و5 ساعات. يُؤخذ قبل الوجبة بـ 30 إلى 60 دقيقة.
- الإنسولين متوسط المفعول: يبدأ مفعوله بعد ساعة إلى ساعتين ويستمر بين 18 و24 ساعة. يُؤخذ قبل الوجبة بساعة.
- الإنسولين طويل المفعول: لا يرتبط تناوله بوجبات الطعام، ويستمر تأثيره لمدة 24 ساعة.
- الإنسولين المخلوط مسبقًا: يختلف تأثيره بناءً على نوع الإنسولين المخلوط، ويُؤخذ قبل 10 إلى 45 دقيقة من الوجبة.
وقد يعتمد مرضى السكر على مزيج من هذه الأنواع لتغطية فترات الليل والنهار، أو على الإنسولين المخلوط مسبقًا الذي يجمع بين أنواع مختلفة في زجاجة أو قلم واحد.
ويحذر الدكتور محمود حميدة، أستاذ أمراض الغدد الصماء بجامعة الأزهر، من أن مرضى السكر الذين يعانون من نقص الإنسولين قد يواجهون خطر السكتة الدماغية إذا استمر ارتفاع نسبة السكر في الدم دون علاج لفترات طويلة. كما يشير إلى أن تأخير جرعات الإنسولين قد يؤدي إلى نوبات إغماء، مما يزيد من خطر حوادث الطرق إذا حدثت هذه النوبات أثناء القيادة.
ويضيف حميدة أن أزمة نقص الإنسولين تهدد حقوق المرضى في الحصول على العلاج، مشيرًا إلى أن مرضى السكر أصبحوا معرضين لمضاعفات خطيرة قد تصل إلى الوفاة، حيث يعتبر مرض السكر السبب الأول والثاني للوفيات على مستوى العالم وفقًا لبيانات الاتحاد الدولي للسكري (IDF).
لا مُدعم ولا حر.. الإنسولين ناقص
رغم ذلك، فإن حتى العثور على الإنسولين على النفقة الخاصة هو أمر شاق في مصر مؤخرًا. تضيف “وسام”: “بلف ساعة أو ساعتين بين الصيدليات عشان ألاقي حقن إنسولين، وكتير برجع بنفس الجملة: للأسف الإنسولين ناقص”.
الصيدلانية هدير أيمن، التي تعمل في إحدى الصيدليات الكبرى بمحافظة الجيزة، تقول إن الأدوية المخصصة لعلاج مرض السكري متعددة الأنواع، وكل نوع منها يخص حالة دون غيرها؛ فالمصابون بالنوع الأول علاجهم الوحيد هو حقن الإنسولين، أما مرضى السكري من النوع الثاني فيعتمدون على الحبوب أو الأقراص لضبط معدل السكر في الدم.
ووفق “هدير”، فإن الإنسولين وإن كان أكثر النواقص الدوائية بروزًا هذه الفترة، فهو ليس إلا جزءًا من مشاكل أكبر في دوامة نقص الدواء بمصر، والتي يطال بعضها حتى أشهر أنواع علاجات مرضى السكري مثل “ميكس ستارت” و”نوفو ميكس”، وقوائم النواقص هذه تتزايد يومًا بعد يوم.
من يتحمل أزمة الإنسولين؟
ويشهد السوق المصري منذ شهر مايو الماضي أزمة نقص حادة في حقن الإنسولين اللازم لعلاج مرضى السكري من النوع الأول، والأمر سواء داخل فروع التأمين الصحي وفي الصيدليات على مستوى المحافظات، بحسب الدكتور محفوظ رمزي عضو نقابة الصيادلة. وذلك رغم أن مصر تصدر المنتج المحلي من هذا العقار إلى 11 دولة في إفريقيا، وكوبا كأول دولة من خارج القارة، بعد إعلان الاكتفاء الذاتي منه وتلبية احتياجات السوق المحلي.
وبرر وزير الصحة والسكان خالد عبد الغفار مسألة تصدير الإنسولين بنفى أن يكون هو سبب الأزمة، مضيفًا أن مصر لم تصدر إلا شحنة واحدة صغيرة فقط، وأنها لا تعاني من أي مشكلة في إنتاج الإنسولين المحلي، وإن الأزمة الحالية تتعلق فقط بالمستورد.
وقد أرجع الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية، أزمة الإنسولين إلى ارتفاع أسعار مواد الخام عالميًا، مؤكدًا -في تصريحاته لـ”فكر تاني”- أن مصر تستورد 90% من احتياجاتها من الإنسولين، وتصنع 10% فقط.
ورغم أن حقن الإنسولين سواء المستوردة أو المحلية قد شهدت تحريك أسعار خلال الفترة الماضية بنسبة تتراوح ما بين 20 – 30%، لاحتواء أزمات النقص المتكررة، إلا أن الأزمة ما تزال مستمرة.
وتظهر بين الحين والآخر وعود بحل أزمة نقص الإنسولين، كان آخرها وعد من رئيس هيئة الدواء ببدء ضخ الإنسولين خلال الأسابيع المقبلة، على أن يشهد سوق الدواء حلًا نهائيًا للأزمة خلال 6 أشهر، مشيرًا إلى أنه سيتم طرح أكثر من 5 ملايين عبوة من الإنتاج المستورد. هذا بخلاف المحلي بهدف القضاء على العجز يضمن مخزون استراتيجي يسد احتياجات المرضى.
هل يرى الوزير أزمة الإنسولين؟
ولا يرى وزير الصحة أولوية لتوفير الإنسولين المستورد طالما نستطيع إنتاج بديل محلي؛ ففي اجتماع لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، في فبراير الماضي، تحدث النائب نشأت فؤاد عباس عن نقص أدوية السكر، ومنها إحدى الحقن التي يستخدمها بشكل شخصي.
وهو ما رد عليه قائلًا: “في ظل الظروف دي ما أقدرش أستورد الإنسولين اللي متعود عليه طالما في بديل، ممكن يكلفني مثلًا 30 مليون دولار”، وبرر ذلك بترتيب الأولويات، مضيفًا: “أجيب بـ 30 مليون دولار دواء لا أنتجه للأورام أو المناعة، أفضل من ما أشتري عقار أنا بأنتجه، أنت متعود على ماركة معينة لكن لها بديل ما أقدرش أجيبها لأني أوجه الموارد للدواء الذي لا أنتجه”.
وينتقد هاني سامح، الخبير الدوائي وعضو بالمركز المصري للحق في الدواء، توجه وزير الصحة لإجبار مرضي السكر للاعتماد على بديل محلي، قائلًا: “لا البديل المحلي موجود ولا المستورد متوفر.. كله ناقص”.
ويوضح الخبير الدوائي أن أغلب مرضي السكري يعتمدون على الإنسولين المستورد، خاصة وأن المحلي يصرف من أماكن محددة، وبشروط مرهقة للمريض.
ويضيف “سامح” أن إجبار مريض سكري على الاعتماد على البديل المحلي في علاجه أمر صعب في ظل أنه متوفر داخل فروع التأمين الصحي وفي صيدلية الإسعاف فقط، ويتم صرفه بشرط إجراء تحليل سكر حديث، ما يسبب معاناة إضافية مع كل مرة يشتري فيها المريض جرعات الإنسولين.
ويضيف الخبير الدوائي: “هذا إذا افترضنا توفر الإنسولين المحلي، وهو أمر ينافي حقيقية أنه أيضًا ناقص في فروع التأمين الصحي لأنه يعتمد في إنتاجه على استيراد المواد الخام من الخارج وتتم تعبئته فقط في مصر، ولذا أي تقلبات في أسعار المواد الخام تؤثر على حجم الكميات المنتجة محليًا”.