كنت أسير ذات مرة مع أستاذي الدكتور شمس الدين الحجاجي وهو من رواد دراسة المسرح والسير الشعبية.. وسألته، ما الذي يجعل الإبداع يستمر لسنين طويلة وتتأثر به أجيال؟ وقف ونظر لي بتمعن، ثم قال: قديمًا أخبرونا أن البقاء للأقوى، لكن الحقيقة البقاء لمن يستمر، كم من مبدعين ماتوا دون أن يذكرهم التاريخ، فمنهم من أصابه اليأس وقرر أن يتخلى عن طموحه ومنهم من قاوم وعافر للبقاء.
سألته: كيف تستمر المرأة المُبدعة أو الفنانة في ظل الضغوط؟ قال: للأسف عليها أن تتعامل مع الواقع كرجل، وتحدثنا عن وجود الفنانة نادية الجندي كمثال؛ استطاعت أن تستمر لأنها اختارت موضوعات يقوم بها الرجال فنجحت، وهذه الفنانة كانت مثالًا استثنائيًا لا يمكن أن نقدمه، ونؤكد أن المرأة في مجتمعنا تستطيع أن تقدم كل ما يخص المرأة.
عدد النساء اللاتي مارسن مهنة السينما بكل مجالاتها قليلات جدًا بالنسبة لعدد الرجال.. وأجور النساء أقل من الرجال منذ بدأت السينما في الانتشار.
لن أدفع تذكرة فيلم بطلته منى زكي
إذا نظرنا للبطلة في تاريخ السينما سنجدها سنيدة للبطل.. مشهورة ومعروفة لكن لن تؤدي دور البطولة، لم يحدث هذا إلا في قليل من الأعمال وعندما سألت أحد الجماهير هل تحب منى زكي؟ فأجاب بنعم، هل تدفع تذكرة لأفيش عليه منى زكي وحدها؟ فقال: لا لن أدفع تذكرة لسيدة.. سأدفع لأحمد السقا ومعه منى زكي.
مع العلم أن بطولات النساء في الواقع أكبر بكثير من بطولات الرجل، فإذا سألت أي رجل سيقول لك أن الأم لعبت دورًا كبيرًا في كونه رجل، الزوجة والأخت ساعدته كثيرًا أكثر من أي رجل.
لكن، لأن التراث لم يخبرنا ببطولة نسائية فردية دون أن يكون الرجل بطلًا حقيقيًا وأدوارهن ما هي إلا بطولة مساعدة للرجال.
هكذا يفكر الجمهور، وأيضًا صناع السينما، فغابت المرأة لسنين عن أفيش السينما لأن الجمهور لن يختارها.
لأن السيرة.. لا ترويها النساء
الأسباب التي جعلت المرأة ليست ببطلة، منها التراث الشعبي عن المرأة، متى كانت المرأة بطلة في سيرة شعبية نسائية؟ موجودة وفعالة، لكنها لم تكن البطلة الأولى في الحكاية، وهذا التراث استطاع أن يستمر ويتوغل في وجدان الشارع، وهذا ما انعكس على السينما.
الحكاية الشعبية ظلت تُحكى من باب التفاخر والتسلية.. وظلت البطولة لشخصيات السيرة ترجع لطبيعة كل منطقة.
اقرأ أيضًا:شخلعة.. “لأن كل الأجساد تستحق الاحتفاء بها”
فإذا كنت في الصعيد ستسمع الراوي يحكي عن بطولة أبو زيد الهلالي، وعندما يأتي فصل الانتصار يصيح الجمهور فرحًا بانتصار أبو زيد على الزناتي خليفة، أما إذا كنت في منطقة شمال أفريقيا، في تونس مثلًا ستجد أن الراوي يحكي الحكاية وبطلها الزناتي خليفة الذي دافع عن أرضه ضد المستعمر أبو زيد الهلالي، وعندما ينتصر (لأنه لابد أن ينتصر الراوي للزناتي) يصيح الجمهور فرحًا.
المرأة في السير الشعبية.. كانت مثال للتضحية والخير والجمال، تساعد وتدفع البطل للاستمرار في الدفاع عن قيمه وأهله. ولم يكن في السير الشعبية فقط لكن منذ عهد المصريين القدماء.. فحتشبسوت دفعت وساعدت أحمس في مطاردة الهكسوس.
أسباب تعطل سيرة المرأة الشعبية
ومن الأسباب التي عطلت سيرة المرأة، أن المرأة لم تكن راوية للسير.. فهي لن تجلس وسط الرجال وتحكي، طبيعة الحكايات الشعبية تأتي من بيئة الحكاية.. مثلًا، حكايات بنت الملك دائمًا ما تكون مغلوبة على أمرها، وممنوعة من الخروج والملك قد يقدمها جائزة لمن يحل اللغز، وأن بنت الرجل الفقير الذي يحبها الأمير “تتشرط” عليه عندما يطلبها للزواج، بيئة هذه الحكايات جاءت من بيئة الفقراء.
يحكون هذه الحكايات كحيل لفقرهم ودفاعًا عن أنفسهم ويجعلون من أنفسهم أبطال وأن غنى المال لم يكن سببًا للسعادة، وأنهم رغم فقرهم فإن لديهم ما يدافعون عنه ويجعلهم سعداء.
السيرة الهلالية
بداية من تدوين السيرة، تم تهميش دور المرأة عند تدوينها.. والمعروف أن من دونها هو الشاعر الكبير الأبنودي، لكن المخرجة عطيات الأبنودي سجلت جزء كبير منها قبله، وجاء الأبنودي من بعدها مع عم الرواة جابر أبوحسين وسجلها، وأصبح بطلًا لجمع السيرة، وهذا ما أخبرنا به الدكتور شمس الدين الحجاجي في محاضرة في الأدب الشعبي، وكان يحكي عن تجميع السيرة وهو غاضب من الأبنودي.
والسيرة الهلالية من أشهر السير التي يعرفها الجميع، وأن أبطالها دائمًا من الرجال، سواء أبو زيد أو الزناتي خليفة أو ابن غانم، مع إن شخصية الجازية في السيرة هامة، فهي كانت مثال للجمال ورزانة التفكير وأن لها ثلث المشورة في قبيلتها في الحرب والسلم.. فهي في التغريبة الأولى ضحت بزوجها وابنها من أجل القبيلة، وعندما وقعت القبيلة في أزمة حرب وخسارات عديدة، أعجب بها ملك الجبل الأخضر وطلبها للزواج، فإذا وافقت ستعيش القبيلة في رخاء وإذا رفضت تظل القبيلة في حرب وجدب.. فماذا فعلت؟
اختارت أن تتزوجه بشرط ألا يمسها ولا يراها عارية أمامه.. وصنعت من شعرها الطويل الذي اشتهرت به جلبابًا على جسدها يغطيها فيحول بين جسدها وبين رغبة ملك الجبل الأخضر بها.. لم تكتفِ بهذا واستسلمت لكنها صنعت حيلة جعلت الملك يكون فريسة لأهل القبيلة وتخلصوا منه.
فالمرأة في السيرة الهلالية بها أكثر من نموذج للمرأة، هناك نموذج للمرأة الأم مثل خضرة الشريفة وما فعلته من أجل ابنها أبوزيد الهلالي.. وكذلك ابنتها غنيمة والتي لعبت دور بطولي في حياة ابنها راشد بن داغر في قصة فرسة العقيلي جابر، ظلت واقفة مع ابنها إلى أن أعاد ورثه من عمه الملك النعمان ملك أرض النعام.
اقرأ أيضًا:“شهرزاد”.. ملكة الحكايات المُلهمة
سيرة الزير سالم
بدأت الحكاية قبل الهجرة بحوالي 100 سنة عندما دخل ربيعة أبو الزير سالم في حرب مع الملك الكندي وانتصر عليه.. في معركة تُسمى السلّان.. لكن الملك الكندي لم يستسلم واستعان بالملك تبع اليماني وحاصره وقتل ربيعة وأصبح لأبناء ربيعة ثأرًا عند الملك تبع اليماني.
لم تكن هذه بداية القصة.. فالقصة بدأت عندما كبر كليب أخو الزير سالم وأحب ابنة عمه جليلة وطلبها للزواج لكن أباها اختار أن يزوجها للملك تبع الذي أنعم عليه وعلى القبيلة بصناديق من الذهب، غضب كليب وجمع شباب القبيلة واختبأوا في صناديق العرس الخاصة بجليلة، وصلت الصناديق إلى القصر، وعندما غطت السماء ظلمة الليل خرج الشباب وقتلوا الملك.
عاد كليب ومعه جليلة وتزوجها.. وسيطر على القبيلة، وهذا لم يعجب جساس أخو جليلة وظل يتربص به إلى أن قتله وبعد مرور الزمن كبر الزير سالم وقرر الأخذ بالثأر لأخيه.
فحرب البسوس التي ظلت أربعين سنة، كانت البطولة فيها للنساء، وأسباب الحرب لم تكن لسبب اختلاف القبائل وتقسيم غنائم، بل كانت بسبب البسوس وهي سعاد أخت تبع وهذا الاسم ما اشتهرت به، والتي قررت الأخذ بالثأر لأخيها من جليلة وكليب، جعلت ناقتها تأكل من أرض كليب وهذا في عرف كليب تعدي، فقامت الحرب بسبب المكيدة النسائية.
اقرأ أيضًا:في المَرايا.. ممَ نخاف؟!
النساء بطلات في السير الشعبية لكن لن تُسمى باسمها، فإذا حكيت السيرة من وجهة نظر النساء.. ستصبح بطلتها، وجهة نظر الراوي هي ما تحدد البطولة مثلما فعلوا مع أبو زيد والزناتي، ماذا لو كانت سيرة عنترة تأتي من زبيبة أمه، التي وقفت معه، أو خضرة الشريفة التي ساعدت ابنها أبو زيد أو الجازية المضحية وصاحبة العقل والحكمة.. أو أن بطولة الزير سالم كانت من بطولة جليلة وسعاد.
عناصر الصراع ستكون قوية كما في بطولة الرجال.. لكن الراوي لا يستطيع أن يحكي حكاية بطلتها سيدة، فثبت في وجدان الشارع أن البطولة دائمًا للرجال، والنساء شخصيات مساعدة من غيرها تموت الحكاية لكنها لن تكون الأولى، ومازالت المرأة تقاوم هذه الهيمنة وتعافر من أجل بطولتها، فأصبح لدينا مُخرجات ومُصورات ونساء يعملن بالمونتاج، محاولات قوية للاستمرار، والبقاء لمن يستمر.