“السجن.. مافيش في السجن زمن/ الوقت.. مالوش في السجن تمن”.
لن تدرك طبقات الألم، ولن تبلغ ذائقتُكَ مرارة هذه الكلمات لشاعرنا الراحل أحمد فؤاد نجم، والتي تغنَّى بها سعيد صالح، ما لم تَختَّبر محنة الزنزانة، وتكابدُ وجعَ عضَّةِ القيودِ لمعصميك، وتُجرِّب انهمار الدموع بغتةً، إذ تستذكر ذويك في ليلٍ كموج البحر؛ ليلٌ يبلعُكَ كحوتٍ أسودِ الشفتين، تَقطعه قاعدًا أو بالأحرى “مُقرفِّصًا صامتًا” على “نمرتك” أي “بطانيتك القذرة على الأرض”، وعيناك ترمقان كوَّةً قريبةً إلى السقف، مشتاقتيَّنِ إلى زرقةِ سماء حُرِمتَ منها، وإلى مسامعك تتناهى من بعيدٍ، مع انبجاسِ الفجر من ضلوعِ العتمة، عندلةُ العنادلِ إذ تختلط بنعيق الغربان.
ليس أجمل الشعر أكذبه، بل إن هذه كذبةً سخيفة، كالكثير من الأكاذيب في هذه الحياة، فالجميل في كل شيء هو أصدقه.
لا مراء في أن الصدق الداخلي والصدق الفني في كلمات القصيدة، يرجع إلى أن الشاعر الراحل كان اختبر السجون، في حين تنبعثُ الرهافة المؤثرة في أداء سعيد صالح، رغم صوته الأجش، والخالي من الحد الأدنى من الطرب، من مروره بالمحنة ذاتها.
يخرج الإبداع من رحم الأحزان، فالحزن للمبدع كالنار للحديد، تصهره فتعيد تشكيله، فيستحيلُ أكثر إشعاعًا.
كاتب السطور يُحس كلمات “عم نجم” تتغَلْغِّلُ كسكينٍ مُشرْشَّر في جدران قلبه، لكونه كان سقط في ذاك الثقب الأسود؛ الحبس الاحتياطي، ورغم مرور أكثر من عام على إطلاق سراحه، لا تزال في أعماقه أشياءٌ من المحنة، ولا تزال “عفاريتُها الحمراء” تطارده في كوابيس النومِ العصيِّ؛ الكوابيسُ التي تعصر قلبه كالبرتقالة، فيصحو مُنتفضًا كالملتاث مهدودَ البنيان، مرتعشَ الصدر ناشفَ الريق لاهثًا، فيلبث على حالته تلك، بعض وقت، حتى يسترد وعيه فيستوثق من أنه في فراشه.
بروفة على الموت تبدأ مع اللحظة الأولى
ليس السجن اختبارًا هينًا؛ إنه تعذيب مرير، يبدأ منذ اللحظة التي لم أجد توصيفًا أبلغ لها من أنها “بروفة على الموت”، كما يصفه عزَّ وجلَّ في سورة ياسين: “وإنْ كانت إلَّا صيحةً واحدةً تأخذُهُم وهم يَخِصِّمُونَ، فلا يَستطيِعُونَ توصيةً ولا إلى أهلِهم يَرجِعُون”.
هذا ما يحدث على وجه الدقة، كما الصيحة التي تأخذ الناس، فينقطعون عن حياتهم أو يُسلبونها؛ فلا يرجعون إلى أهلهم ولا يستطيعون توصيةً.
تَكمِشُ القبضاتُ الفولاذية “المتهم”، من كتفيه وزنديه وحزام سرواله، يتفحص خائفًا -وليس جبانًا- الوجوه الشمعية المتجهمة، فيُزجُّ به في سيارةٍ عنوة، فيُقتاد إلى مكانٍ لم يتخيل أن يدخله يومًا، فيَمثُل أمام ضابطٍ لا يرى وجهه، فيُواجه قائمة الاتهامات المبسترة، فيُحوَّل إلى النيابة، فيخرج من جلسة تجديد -لا تحقيق- إلى تجديد، إلى تجديد، إلى تجديد، ولا يعرف نهايةً لما هو فيه من دوخة.
الأسئلة السوداء تلتف حول القلب، كما تلتف أفعى أفريقية على خاصرةِ أرنبٍ صغير، فتعصره حتى تُهشِّم عظامه، ثم تزدرده لينًا كالعجين على مرةٍ واحدة.
إلى متى؟ ماذا جنيتُ؟ ما جريمتي؟ هل سأمكثُ إلى ما لا نهاية؟ هل بوسع جهازي العصبي تحمَّل الحياة في غرفة تضم أربعة وعشرين سجينًا “وأكثر أحيانًا” يتشاجرون ويصرخون ويصيحون على مدار ساعات اليوم الأربع والعشرين؟ إلى متى سأعيش وسط هذه الحروب العبثية التي قد تندلع لأن فُلانًا استولى على سنتيمترات خمسة “أو ثلاثة” من فَرْشة فُلان؟ هل ستُحال القضية إلى المحكمة؟ وما القضية في الأصل؟ تُرى كيف حال أحبائي في الخارج؟ هل هم بخير؟ ماذا عن أمي العجوز المريضة؟
ألف سؤال بغير إجابة.. تعذيبٌ يستهلك الروح، يُدمِّر الجهاز العصبي، ويفتح الباب لشياطين الجنون، أن تستعمر خلايا اللحم ونخاع العظم، استعمارًا فاشستيًا.
هذا ما كان، وقد انتهى بخيره وشره على الصعيد الشخصي، لكن ما لم ينته أن خروجي لم يوقف الفيلم المرعب، ورغم الوعود الرسمية بفُسحةٍ في مجال الحريّات، ورغم توصيات الحوار الوطني الذي جرى تدشينه تحت عنوان برَّاق: “اختلاف الرأي لا يُفسِّدُ للوطن قضية”، لا تزال الزنازين تبتلع المزيد من أصحاب الرأي، كأنها جهنم لا تشبع، وكلما أُلقي فيها فوجٌ قالت: هل من مزيد؟
كل مسجون رأي جديد، وكل مسجون رأي عرفته خلف الأسوار أو لم أعرفه، سمعت عن تراجيديا حكايته أو لم أسمع، هو أنا بطريقة ما.
أتقمص شعوره تقمصًا وجدانيًا، فتتداعى مشاهد “الحبسة المادية” و”احتباس الأمل” تداعيًا لا إراديًا، أتفكّر في ذويه فيغمرني الأسى، أستسقي أنباء خروجه كبدو الصحراء إذ يستسقون الغيث، وأطرح الأسئلة عن جدوى وعبثية تبديد أعمار الناس، لمجرد أنهم عبَّروا عن وقوفهم إلى يسار السلطة، بوسيلة ما من الوسائل السلمية، التي تكفلها نصوص الدستور.
هكذا يتمازج الوجعان؛ العام والخاص، كمرج البحرين يلتقيان.
وهكذا غرقت في تفاصيل القبض على رسام كاريكاتير موقع “المنصة” أشرف عمر.. لا أعرفه شخصيًا، لكن شيئًا سريًّا من الألم مسَّ وجداني، حين شرع الأصدقاء على السوشيال ميديا “يُشيِّرون” صوره، ووقفت مليًا أمام صورةٍ له مع كلب من فصيلة “جولدن ريتريفر”.
أقتني كلبة “جيرمان شيبرد” تبلغ من العمر الآن تسع سنين، كنت أتفكر فيها كثيرًا خلف سبعة أبواب حديدية ثقيلة، من الباب الرئيسي إلى باب زنزانتي، وكنت أستقصي أحوالَها في كل زيارة، ولمَّا خرجت ألفيتُها هيكلًا عظميًا، فقيل لي: لا تأكل إلا قليلًا.. لقد سددّت المسكينة ثمنًا كذلك.
قد يبدو الأمر تافهًا، وقد يقولن قائل: “أحمقٌ يُفكر في كلبة”.. نعم إن السجين يفكر في مفرداتِ حياته، وكل ما يحنُّ إليه يؤلمه، ولعل رسام الكاريكاتير كذلك يحنُ فيتألم.
لا منطق في الاتهامات المعلَّبة
لكن لماذا؟ وماذا اقترف أشرف عمر؟
من الحماقة القول بأن قائمة الاتهامات الموجهة إلى الفنان متقدِّ الموهبة، والمترجم المستنير على غرار انضمامه إلى جماعة محظورة، ونشره أخبارًا كاذبة، فيها مثقالُ ذرةٍ من المنطق، ومن الغبن تبنيها تحت أي ذريعة.
لا شيء أوسع انتشارًا من الشائعات.
كاتب السطور لمَّا أُطلِق سراحه، وجد أن متطوعةً ما في كتائب نهش الأعراض الإلكترونية، لا تعرفه ولم تلتقِ به على الإطلاق، كانت كتبت أن التحقيقات أكدت أنه يتلقى تمويلًا من دولة أجنبية، وينتمي لجماعة إرهابية، ومن قرائن ذلك أن “محامي السبوبة” كما وصفته، العزيز خالد علي يترافع عنه.
تُطلق الاتهاماتُ مجازيًا وجزافيًا، فيغيب المتهمون في غياهب الحبس الاحتياطي إثر ذلك، وثمة متطوعون من “المواطنين الشرفاء”، يتفاحشون وينثرون الأكاذيب ذات اليمين وذات الشمال، فيدنسون شرف أناس محبوسين، لا حول لهم ولا قوة، ولا يملكون حتى القدرة على الرد.. وهذا تعذيب آخر.
مجددًا.. ماذا اقترف رسام كاريكاتير يقف معي وأقف معه على اليسار من النظام؟
التهمة على بلاطة أنه معارض، وصدور القوم تضيق بالرسمة والكلمة، والمنهج المراد ترسيخه: “اسمعوني أنا بس”.
في مقام الحديث عن مصيبة الحبس الاحتياطي، التي نزلت على رأس هذا الوطن، قد يستعاد كلامٌ منمَّقٌ ممنطَّق، ونصائحُ مخلصةٌ بأن هذا الملف ينتقص من قيمة مصر المعنوية، ويؤدي إلى تصغير مكانتها، ويؤثر سلبًا حتى على فرص تدفق الاستثمارات الأجنبية، لكن هل ثمة من يسمع؟ وإذا كان هناك من يسمع فهل يستجيب؟
يحدِّد قانون الإجراءات الجنائية مبرراتِ الحبس الاحتياطي، بأربع حالات، وهي ضبط المتهم في حالة تلبُّس، مع وجوب تنفيذ الحكم عليه فور صدوره، والخشية من فراره، ثم وجود مخاوف من الإضرار بسير التحقيق، سواءً بالتأثير على المجني عليه أو الشهود، أو عبر العبث بالأدلة والقرائن المادية، وكذلك احتمالية الاتفاق مع شركاء الجريمة -إن وُجدوا- لطمس معالم الحقيقة، وأخيرًا احتمالية إخلال المتهم بالأمن العام.
هذه الاشتراطات غير متحققة في حالة رسّام، عبَّر عن رأي بالريشة واللون، ولا في حالة معظم المحبوسين احتياطيًا، لكن إرادةً ما ترتأي أن سلب أولئك المساكين الحرية سيبني البلاد، خلافًا للحقيقة المؤكدة بأن البلاد لا تُبنى إلا بالرأي والرأي والآخر، وأن تصنيف المختلفين في خانة الخيانة، يُفسد كل شيء ويؤسس للفوضى المطلقة.
إذا كان الخلاف في الرأي لا يفسد حقًا للوطن قضية، فلا بد من قرار سياسي فوري بغلق ملف الحبس الاحتياطي، وفك الاشتباك المؤلم بين الوطن وأبنائه الذين لا يمكن أبدًا، أن يكونوا أفراد جوقة يرددون الكلمات، وراء مطرب واحد أحد لا شريك له، لأن ذلك ضد المنطق، وضد “طبائع العمران”، فالحياة بكل أصواتها، سواءً أعجبتك أو لم تعجبك.