“شهرزاد”.. ملكة الحكايات المُلهمة

بَلَغَني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد؛ أنّ الفضول كاد أن يقتلكَ مع كل حكاية في كل ليلة، وبالفضول أُنقذت رقبتي من الذبح، فالفضول يا مولاي أشعل داخل عقلك الكثير من الألعاب الناريّة، وأردت أن تتعرف على خصوصيات أبطال حكاياتي الخرافيّة والأُسطوريّة.

بدأتْ حكاياتي الليلية، طرقتُ على الحديد وهو ساخن؛ فلا يفلّ الحديد إلا الحديد يا حبيبي الغالي، طرقتُ على وجعكَ، وألمكَ الذي سببته لك إحدى نساء حواء، و نفّذتَ فرمانكَ بقطع كل رقاب النساء من أجل خيانة امرأة واحدة.

لكنك يا مولاي العزيز، لا تستطيع إنكار تماسك وقوة حبكات حكاياتي، اعترف يا مولاي، هو فضول أيضًا- ياعزيزي- لأجل المتعة واللذة المعرفيّة– كما يصفه فرويد لنا  في المستقبل البعيد- بعد أن تكون جميع حكاياتي قد انتهتْ ووُضعت بمُجلّد ضخم، سيطلقون عليه فيما بعد “ألف ليلة وليلة”.

سيشرح فرويد دافع الفضول لديك قائلًا: “إنه الرغبة -يا حبيبي- في التعرّف على معلومة جديدة، وما ينتج عن تلك المعرفة من إحساس مُفعم بالسعادة والمتعة بعد الوصول إليها”، حسنًا، لقد ضمنت -أنا الآن ظهور شهرزاديّات أخريات مثلي في ذاك المستقبل البعيد- وفق هذه النظرية.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتتْ عن الكلام المُباح

حُفرت كلمات شهرزاد في أذهاننا. ستظل حاضرة في ذاكرتنا، كلما قرأنا أو سردنا قصص ألف ليلة وليلة، فمن هي، شهرزاد؛ هي ابنة وزير الملك شهريار، سيدة الكلمات وساردة السحر والخيال والإلهام. 

هزمتْ بكلماتها الشيقة الجذابة حد السيف، صارت لها حياةً جديدة مع كل حكاية تخترعها، وبذلك  أنقذتْ بفطنتها، ولباقتها، بقية بنات مملكتها العذارى من القتل مع شروق الفجر.

سردت لنا شهرزاد ألف ليلة وليلة من الحكايات الشعبية، والقصص المُستوحَاة من التاريخ، والعادات والتقاليد، طبائع ملوك، وأمراء، وقصص الجن والعفاريت وعامة الشعب، حكتْ عن الحب، والجشع، وافتتان الأميرات بالعبيد وخيانتهنّ لأزواجهن، وحكايات عن السيف والدم.

ولا ننسى أيها القراء الأعزاء

 موسيقى ألف ليلة وليلة المميزة السحرية التي تدور داخل عقولنا الآن؛ هي مقطوعة شهرزاد للموسيقار الروسي ريمسكي كورساكوف، التي استلهمها من حكايات ألف ليلة وليلة.

وَلِع العديد من الرّواة الغربيّين بحكايات ألف ليلة وليلة، فلا يخفى أن الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، أشاد كثيرًا بألف ليلة وليلة، وأعرب عن أنه من أهم الكتب التي قرأها في حياته، وكانت سببًا في اختيار أسلوب الواقعية السحرية المُميز والمعروف به.

كما استلهم الكثير من الرواة المصريين شخصية شهرزاد في أعمالِهم الأدبية، منها كتاب “القصر المسحور” للأديبيْن طه حسين وتوفيق الحكيم، والذي تناول هذه الشخصية في قالبٍ مسرحيّ، حيث تعود شهرزاد لمحاكمة توفيق الحكيم على مسرحيته “شهرزاد”.

غلاف مسرحية شهرزاد
غلاف مسرحية شهرزاد

اقرأ المزيد:شخلعة.. “لأن كل الأجساد تستحق الاحتفاء بها”

قدم توفيق الحكيم شهرزاد، كشخصية متسلطة، متجبرة مثل شهريار، تُمارس التعذيب والقهر، بحيل دفاعية نسائية خاصة، تنتقم منه أشد انتقامًا وتحبسه في القصر المسحور، وهو المعروف -بكرهه الشديد لنساء حواء- ويشارك الحكيم في كتابه الأديب طه حسين؛ فتارة يدافع عنه، وتارة يقف في صف شهرزاد المتجبرة.

ولم نعرف حتى الآن من هو صانع هذا العمل الإبداعي الضخم، وذلك نظرًا لوجود العديد من نسخ الترجمة لهذا الكتاب، فوفق النسخة الإيرانية لهذا الكتاب، قيل أنّ مؤلفه؛ شامي الأصل، متمكن من اللغة العربية وأدواته الأدبية والإبداعية، حيث يسرد الحكايات بأسلوب سلسٍ يحاكي أحوال الناس –آنذاك- بل يُمكنّهم من الإبحار بعالم اللغة العربية، كي يتعلموها بأسلوب شيّق، وأعرب بعض الفلاسفة والخبراء أن ما حدث بهذا الكتاب من زيادة ونقصان بسبب سرد الحكايات من قِبل حكائين كُثر.

أما في النسخة الإنجليزية، فتمت الإشارة في بداية الكتاب، أن مؤلفه هم مجموعة من الأشخاص، لكل منهم طابع قصصي وأسلوب سرد مميز، يروي كل منهم بأسلوب شيق مُغاير للآخر. 

كما قيل: إنها مجموعة متعددة من قصص هندية، فارسية، رومية، تمت ترجمتها إلى العربية، وكانت تسمى “هزار فرسانة” وهي تعني “ألف خرافة” بالعربية، بينما زعم البعض أن مؤلفها الحقيقي هو شخص يوناني الأصل، فبعض أحداثها يغلب عليها الطابع اليوناني.

غلاف كتاب القصر المسحور
غلاف كتاب القصر المسحور

بينما قيل أن مؤلفها هو أبو حيّان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، الذي لُقّب بـ”أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء”، وأن حكايات ألف ليلة وليلة كُتبت في العصر العباسي وانطلقت بطريقها إلى بغداد، مرورًا بالشام ومصر، ومع تنقلها بين بلدان عدة؛ تم إضافة المزيد من القصص التي تحكي واقع الشعب وتاريخ الأمة.

اقرأ المزيد:ماذا تفعل صباح مع جنون أسعار الفوط الصحية؟

ويرجع الفضل إلى المُستشرق الفرنسي الأصل”أنطوان جالان” في ترجمة نصوص “ألف ليلة و ليلة” للغة الأوروبية، حيث عثر على مخطوطاتٍ منها أثناء عمله كمساعد للسفير الفرنسي لدى الدولة العثمانية.  شغف بها جالان، لما تضمنته من خرافات وأساطير وحكايات؛ فقرر ترجمتها إلى الفرنسية.

وبفضل ترجمتها للفرنسية؛ بدأتْ الليالي الطويلة رحلتها إلى العالم، وأصبحت أكثر النصوص إلهامًا لمبدعي العالم؛ سواء أدبيًا أو مختلف الفنون الدراميّة الأخرى. 

أنطوان جالان
أنطوان جالان

وجدير بالذكر، أن الليالي حتى ذلك الوقت، لم يضمها كتاب مطبوع؛ فلم يكن العرب قد عرفوا الطباعة بعد، وصدرت الترجمة الإنجليزية باسم”الليالي العربية” سنة 1706، في حين طُبعتْ بالعربية لأول مرة في ألمانيا سنة 1825، تحت إشراف المستشرق هايختْ؛ فأنجز منه ثمانية أجزاء مع ترجمته إلى الألمانية و لكن وافته المنية قبل إتمام الكتاب، فأنجز الباقي تلميذه هاينريخ فلايشر الذي توفي عام 1888،  ثم طُبع مرات عديدة؛ أهمها طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1960، و قد عمل محسن مهدي على توثيق النسخ العربية في عمل صدر له في ليدن سنة 1984.

سجّل خبراء الترجمة جملة من التّحفظات حول ترجمة “جالان”؛ لأنه ألبس الليالي ثوبًا فرنسيًا كعادة معاصريه، الذين يلجأون إلى الاقتباس أكثر من الترجمة؛ ولذلك بدت على الترجمة ملامح الأدب الكلاسيكيّ الغربيّK حيث أدخل عليها حكايات السندباد البحري، علاء الدين والمصباح السحريّ.. وغيرها.

اقرأ المزيد:“وعملوها الستات ” .. المناصب القيادية ليست للرجال فقط

ولكن مهما كانت التحفظات، فلا يمكن إنكار دور جالان؛ فقد كان مصدر إلهامٍ للعديد من كُتّاب العالم الذين تأثروا بمدرسة الاستشراق، خاصة مع ظهور ترجمة أخرى للفرنسي المصري جوزيف مار دروس- تحت اسم خلف الليالي- والتي قدمتها في عروض شبيهة بعروض “الرُّواة الشعبيين”، ما زاد من عمق تأثيرها على المجتمع الفرنسي، لأنه أنتجَ نصًا استثنائيًا من تفاعل نصوص عدة.

نستعرض لكم بعض الأعمال الإذاعية والتلفزيونية التي قدمت شخصية شهرزاد

غلاف كتاب الليالي العربية
غلاف كتاب الليالي العربية

شهرزاد الإذاعة

بأداءٍ صوتيّ مُميّز، تمكنت الفنانة القديرة زوزو نبيل، من تقديم شخصية شهرزاد في مسلسل إذاعي من 800 حلقة، كتبها الشاعر طاهر أبو فاشا، وتم بثه في فترة الستينيات وعلى مدار 25 عامًا عبر الإذاعة، لعبتْ نبيل، بصوتها على وتري القرار والجواب لإيصال الرسالة واضحة وجذابة لمستمعيها، تعلو بصوتها بحزم وجدّية  وتُخفضه في دلال وحُنو إذا أرادت.

شهرزاد التليفزيون الأولى 

بملامحها الجميلة، وخفة ظلها، وتعبيرات وجهها البشوش؛ استطاعت نجلاء فتحي اجتذاب قطاع كبير من الجمهور المصري لمتابعة حلقات المسلسل ولعِبتْ دورًا كبيرًا في نجاحه، إضافةً إلى قوة الشخصية لديها؛ وهي صفات أساسية لشهرزاد الأصلية، فلم يكن الجمال عاملًا رئيسيًا.

زوزو نبيل
زوزو نبيل

ويرى الناقد السينمائي محمود قاسم، أن نجلاء فتحي هي أفضل من قدمتْ دور شهرزاد على الشاشة بعد زوزو نبيل، لأنها اعتمدت على صفات شهرزاد الحقيقية -قوة الشخصية والفطنة والذكاء- ولم تكتفِ بلفت الانتباه إلى جمالها فقط.

وأضاف قائلًا لـ فكّر تاني: “الدراما التلفزيونية حولتْ التخيل بالصوت عبر أثير الإذاعة إلى واقع مرئي على الشاشة الصغيرة عن طريق وسائل إقناع مبهرة ممثلة في الملابس الملونة، الديكور، وغيرها”.

الناقد السينمائي محمود قاسم
الناقد السينمائي محمود قاسم

وختم حديثه: “يُمكن القول أن كل شخصية درامية قدمت شهرزاد توافقتْ مع العصر الذي عايشته”. 

اقرأ المزيد:وإذا شكت عُنِفت.. “تمارا” ورحلتها اليومية في المواصلات العامة

شهرزاد الاستعراض

لعبت شريهان الشخصية باحترافية وأداء تمثيلي مميز، حيث قام المخرج فهمي عبد الحميد بمزج الفوازير وحكايات ألف ليلة وليلة، مُستغلًا ًإمكانيات شريهان الاستعراضية وساعده في ذلك أيضًا، إدخال تقنيات جديدة باستخدام الكروما -الشاشة الخضراء والزرقاء- ما أثرى المشاهد الاستعراضيّة، وجعلها مشوقة ذات طابع خيالي. 

شريهان
شريهان

شهرزاد المُعقدة نفسيًا

 في قالبٍ مختلف عن ذي قبل قدمت نيرمين الفقي في 2005، شخصية شهرزاد في حكاية غريبة، غيرت من معالم هذا العالم الكبير، فهي الملكة “جليلة” التي تمارس العنصرية وتقهر الرجال، حيث تحكم مملكةً من النساء فقط ولا تسمح بدخول الرجال إلى مملكتها مهما حدث، وكأنها تعاني من عقدة كره الرجال مثلما عانى شهريار من عقدته تجاه النساء، ويحاول شهريار تخليصها من تلك العقدة والأزمة النفسية طوال حلقات المسلسل. 

نيرمين الفقي
نيرمين الفقي

 احكي يا شهرزاد عن الواقع المرير

في 2009، قامت منى زكي بدور مذيعة تهتم بقضايا المرأة، في برنامج تلفزيوني اسمه “احكي يا شهرزاد” وهو نفس اسم الفيلم للمخرج يسري عبدالله ومن تأليف وحيد حامد.

اقرأ المزيد:اكتئاب ما بعد الولادة.. “الحب” و”الدعم” خير من العلاج

قدم الفيلم عبر منى زكي، قصص مجموعة من النساء تعرضن لأشدّ أنواع القهر النفسي، والاجتماعي، والجنسي، تعبيرًا عن حالة الازدواجية التي يعيشها المجتمع، وتحاول عبر برنامجها طوال الفيلم استرداد بعض من حقوق هؤلاء النساء المقهورات.

منى زكي
منى زكي

شهرزاد العصر

تحكي شهرزاد أو ياسمين رئيس، لشهريار قصصًا عن الطبقات الكادحة والمُهمّشة، تبدأ بحكاية جودر المصريّ، الساكن بأحد الحارات المصرية البسيطة، كما تطرقتْ في حكاياتها باستفاضة إلى مشكلة مجتمعية كبيرة وهي التفريق في التعامل بين الأشقاء، والمقارنة المستمرة بينهم في مرحلة الطفولة، ما يُولد بداخلهم الغيرة والحقد والصراع والخلافات الدائمة عند الكبر.

ياسمين رئيس
ياسمين رئيس

مدينة الحوائط اللانهائية   

.. بَلَغَني

ذات يوم كانت هناك مدينة، قرر أهلها أن تصير بيتًا، لأنهم أرادوا أن يُصبحوا أخوةً رغم خصام الدم.. فحطموا حوائط بيوتهم وصنعوا أربعة حوائط هائلة لتصير المدينة كلها، بينها، بيتهم.

غلاف كتاب مدينة الحوائط اللانهائية
غلاف كتاب مدينة الحوائط اللانهائية

وعلى نفس خُطى الحكايات، قدم القاص والروائي طارق إمام، مجموعة قصصية بعنوان “مدينة الحوائط اللانهائية” بدأت افتتاحيّة المجموعة بعبارة “بَلَغَني”، وكأنها تُروى على لسان شهرزاد.

تنقسم المجموعة إلى ثلاثة أقسام؛ نساء مدينة الحوائط، ورجال مدينة الحوائط، وغرباء مدينة الحوائط،  استعان إمام، بشهرزاد كرَاوية عليمة؛ حكتْ عن تلك العاهرة التي تبيع شعر رأسها ليلًا، المرأة ذات الواقع المرير، ربط فيها بين الواقع والفانتازيا في أسلوب سردي مميز يُحاكي الألف ليلة وليلة.

كذلك الرجل الذي لم يحلم أبدًا، وتلك الرأس المقطوع وبائع المعجزات، وهكذا أصبحت شهرزاد ومازالت هي بطلة وملهمة الحكايات في كل زمان ومكان.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة