“أوسكار”.. عابرة جندريًا اُستَغلَت في “تنظيم مسلح” من أجل “ثمن عمليتها”

 السينما الكويرية تُعد أحد أدوات النضال الكويري، والتي ساهمت في حصول  الأفراد من مجتمع الميم عين على بعض حقوقهم/ن، وذلك من خلال تغيير الصورة النمطية السائدة عنهم/ن وكسر التابوهات ومحاولة التغلب على الفكر المجتمعي المحافظ.

سينما الفؤاد الحلقة العاشرة

يقدم المخرج محمد سويد، فيلمًا تسجيليًا، في مغامرة إنسانية، عن فتاة سورية عابرة جندريًا، عملت كراقصة، وانضمت أيضًا إلى أحد التنظيمات المسلحة في لبنان، ليأخذنا على مدار 42 دقيقة إلى رحلة مُمتعة مليئة بالمشاعر المتناقضة ينقلها للشاشة عبر بطلة الفيلم.

“أنا لك على طول.. يوميات سينمائية” أحد حلقات سلسلة “سينما الفؤاد”، وهي التجربة الأولى التي تتحدث عن الهوية الجندرية في السينما اللبنانية. وبالنظر إلى تاريخ الفيلم الذي تم إنتاجه في عام 1993، فهي بالتأكيد مغامرة فريدة من نوعها وقتذاك، بالنسبة  لفريق العمل بالكامل وعلى رأسهم/ن، الفتاة السورية العابرة “أوسكار”.

اقرأ أيضًا:قضايا العابرات في الشهر العالمي للمرأة

تعرض “أوسكار” قصتها ومعاناتها، وتحكي عن رحلتها في اكتشاف جسدها وهويتها الجندرية الحقيقية، لطالما أحبت نفسها كـ “أوسكار” بدلًا من كونها خالد الكردي. تحكي عن حبها للرقص ورغبتها في العمل كراقصة محترفة، كما لم يغفل أيضًا صانع العمل أن يعرض الطرق التي استغلها بها كل من حولها عبر مشاهد الفيلم.

على موسيقى “أنا لك على طول” لعبد الحليم حافظ، تبدأ أحداث الفيلم بمشاهد سينمائية قديمة، سريعة وخاطفة، يظهر فيها فنانات/ون السينما الكلاسيكية، سعاد حسني شادية وصباح ونادية لطفي، عبد الحليم حافظ وغسان مطر صغيرًا، وفي الخلفية حوائط منزل قديم متهالك، وشاشة التلفزيون -أبيض وأسود- بالكاد يعمل، ما يوضح شدة الفقر.

 تظهر “أوسكار” بطلة الفيلم،  وهي تحاور شخصًا ما خلف الكاميرا، تجلس على سريرها وتضع مساحيق التجميل في مرآة صغيرة، تُمسكها بيد، وبالأخرى تضع الـ”ماسكارا”، وفي حوارها هذا، ترد على أسئلته في خجل ممتزج بـالحماس والتوتر، يسألها: “هل تُحبين نفسك؟” تقول بلا تردد: “طبعًا”.

ويبدأ المحاور بسؤال “أوسكار” أسئلة خاصة جدًا، عن طبيعة جسدها ورحلتها مع العبور الجندري، ما واجهته من صعوبات أثناء وبعد الانتقال إلى بيروت.

اقرأ أيضًا:منحرفون ومتحولون.. هكذا ينشر الإعلام الكراهية ضد “الميم-عين”

سألها عن حبها لجسدها الجديد، وهل ترغب في الإنجاب، وما هي تفضيلاتها في تسريحات الشعر والألوان  ومن قام بتعليمها الماكياج

كل هذه الأسئلة، تُجيب عليها “أوسكار” بإجابات مقتضبة، وفي توتر واضح،  يمنعها حتى من النظر في عينيه، وهي تُحاول التظاهر بالانشغال في وضع مكياجها، ربما خجلًا من جرأة الأسئلة، أو ربما دهشةً من دقة التفاصيل التي يحاورها فيها.

الراقصة المُسلحة

في المشهد التالي، تظهر “أوسكار”، وهي أقل توترًا من ذي قبل، تبدو نظراتها أكثر ثقة، وترد على مُحاورها -وهي يبدو عليها الارتياح قليلًا- وحين سألها المُحاور عن عائلتها، وكيف هربت إلى بيروت من سوريا، نظرت بعينين أكثر ثقةً، وتحدثت معه عن معاناتها مع أسرتها بعدما أعلنت لهم عن هويتها الجندرية.

حكت “أوسكار” عن العنف الذي تعرضت له بعد معرفة أهلها طبيعتها، كيف تعرضت للضرب، أين تم حبسها عقابًا، كيف حاولوا تغيير أفكارها ومشاعرها تجاه نفسها، وكيف طالبوها بالالتزام بمظهر يُرضي شكلهم الاجتماعي.

قالت “أوسكار” وهي تنظر إلى الكاميرا /في عين مُحاورها أنها رفضت سيطرة وتعنيف الأهل وهربت مُسرعة إلى بيروت، وأضافت أنها بدأت العمل كراقصة في أحد الملاهي الليلية، حتى قابلت شابًا لطيفًا، وأحبته بشدة، وبعد أن عرف ما مرت به، طلب منها ترك الرقص والسكن معه، غير أنها اكتشفت أنه كان يقوم بتجنيدها للعمل معه بأحد التنظيمات المسلحة، لتجد نفسها مرة أخرى تتعرض للاستغلال، وتفكر في كيفية الهروب منه.

السبع العجاف

لم تملك “أوسكار” غير أن تتماهى مع الأوضاع، أن تقبل بالكفاح المسلح لسبع سنوات،يطلبون منها الجهاد، والمشاركة في أفعال لم تُحبها، لكنها صمدت في تلك السنوات السبع، بعد أن وعدها حبيبها بتوفير التنظيم لثمن عمليتها الجراحية، صبرت “أوسكار” كل هذه السنوات حتى تتمكن من توفير الأموال اللازمة لإجراء عملية جراحية “التأكيد الجندري”، لكنها في النهاية لم تتمكن من إجرائها.

تتغير إضاءة المشهد والألوان، ترقص “أوسكار” في رشاقة وتتمايل وهي ترتدي بدلة الرقص الشرقي وردية اللون، تراها كالبجعة في أنحاء بيتها، ولكنها تعود في حكايتها إلى التنظيم المسلح، وتُخبرنا أنها اكتشفت أنها لن تحصل على المال في كفاحها المسلح، وأنها لم تُجري عملية التأكيد الجندري.

تجلس إلى جانب راديو صغير قديم، تمد يدها بخفة على قرص صغير في جانب الراديو، تُغير محطاته سريعًا، تظهر عليها لمحة خفيفة من التوتر والعصبية.

اقرأ أيضًا:الفقر.. جحيم آخر يواجهه الكوير في مصر

تسكت قليلًا، وتبدأ مرة أخرى في تغيير محطات الراديو، في سرعة وتوتر، تشعر كأن محطات الراديو تلك، هي مشاهد من حياتها، تتنقل بينها بينما تحكي عن حيرتها وعجزها.

تعجز “أوسكار” عن استيعاب ما تمر به من أحداث، تتسائل: “لم القسوة والعنف”، تريد أن تعرف أسباب هجران العالم لها.

يسألها مُحاورها: “هل تُصلي؟

وإذا صلت، هل تُصلي كشاب أم فتاة؟!”

صمتت قليلًا ثم قالت: “وقعت فريسة هذه الحيرة في البداية، لكني قررت أن أُصلي بقلب البنت التي أُريد أن أكونها”.

في جانب آخر من جوانب حياتها، تُحب “أوسكار” السينما، تجد فيها السلوى، تذهب إلى سينما “فؤاد” كلما شعرت بالحزن في ليالي الشتاء الطويلة، تُشاهد ما يعرضونه من أفلام قديمة، تتخلى عن كآبتها وتجد السعادة في مشاهدة الأفلام.

يسألها المُحاور عن فيلمها المفضل، فترد: “الراقصة والسياسي، أُحب نبيلة عبيد وجملتها الشهيرة -ربنا يكفيك شر مكر العوالم”، تبتسم قليلًا، وتُشير إلى المُفارقة بين ما تقول وما حدث في حياتها، وكيف تمكنت بـ “مكر العوالم” أن تُنهي فصل التنظيم السياسي المُسلح من حياتها إلى الأبد، وكيف خرجت منه بسلام.

في المشهد الأخير، تُزيل “أوسكار” مساحيق التجميل عن وجهها في حزن، تعود إلى شكلها، إلى مظهرها الذي يُساعدها على الخروج إلى الشارع دون أن تتعرض للأذى، تعود إلى شكلها الذي وُلدت به، ولا يُعبر عنها، لكنها -مع الأسف- الضرورة، حتى تتجنب الأذى.

تقول “أوسكار” لمُحاورها، أنها مازالت تُعاني من بعض المُضايقات من الجيران والمحيطين بها، تُخبره أنها شديدة الحساسية تجاه التعليقات السيئة والسخرية الدائمة منها، لكنها دائمًا تتظاهر بأنها بخير.

 تُمسك “أوسكار” بورقة تبدو بالية، وتقرأ جوابًا كتبته لحبيبها الذي تركها وحدها ثم رحل إلى سويسرا، تقرأ وهي مبتسمة، تقول له أنها الآن في هذه اللحظة، تنتظر اليوم الذي تراه فيه مجددًا -لكنها تعرف جيدًا- أن هذه الكلمات لم ولن تصل إلى حبيبها، فهي تكتب فقط، تُخرج ما بداخلها في تلك الخطابات التي تكتبها ليلًا كلما شعرت بالضيق أو الحزن.

اقرأ أيضًا:كراهية ووصم العابرات/ين جندريًا.. حكايات من الواقع

تدور الكاميرا، تلف في أنحاء حجرتها، منزلها، تُظهر الفوضى المنتشرة في أرجاء البيت، الفوضى التي تُشبه “أوسكار” وفي الخلفية موسيقى رقص مُبهجة، لا تعكس حزنها ومخاوفها، فتلك الموسيقى تُشبهها كثيرًا وهي تحاول دائمًا التظاهر بأنها بخير.

 

حتى الآن لا نعرف، إن كانت “أوسكار” قد أكملت عملياتها الجراحية، وهل عادت إلى الرقص مرة أخرى، كما لا نعرف، هل تمكنت من الهجرة إلى حبيبها، أم ظلت بلبنان.

الجدير بالذكر أنه في عام 2019، وبعد مرور ما يقرب من ربع قرن من عرض الفيلم،  تم عقد مهرجان باسم “سينما الفؤاد” أطلقه “المعهد الفرنسي في لبنان ” بالتعاون مع جهات وجمعيات حقوقية من بينها “هيومن رايتس ووتش” و “المؤسسة العربية للحريات والمساواة” و “المفكرة القانونية”  و”جمعية موزاييك” و جهات أخرى غيرها، وقد  كان المهرجان  مخصصًا بالكامل لإظهار معاناة الأفراد من مجتمع الميم عين.

وتخليدًا لذكرى “الفيلم الأول” من نوعه في لبنان والوطن العربي، تضمن برنامج المهرجان تسعة أفلام روائية وتسجيلية طويلة، وخمسة أفلام لبنانية قصيرة،  كما أنه تم إطلاق حملة لمواجهة “الخرافات” حول الميول الجنسية وأشكال التعبير الجندرية في المنطقة الناطقة بالعربية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة