تتمتع مصر بالتعددية والتنوع في جميع مناحي الحياة الثقافية، الدينية والإثنية، ويعد الكُرد أحد أقدم الانتماءات العرقية الموجودة داخلها، إذ يعود انتقالهم لمصر إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والتي بدأت بالعلاقة بين قدماء المصريين والميتانيون: أجداد الكرد بالعراق.
ويذكر أن الأميرة “جليوخيبا” شقيقة الملك الميتاني “توشراتا” تزوجت من الملك “أمنحتب الثالث” كما يُشاع أن ابنته الأميرة “تدوخيبا” تزوجت من الملك “أمنحتب الرابع- أو إخناتون”.
ووفق كتاب “الشعب الكُردي ودوره في الحضارة الإنسانية” لحامد عبد العزيز الباحث في الشأن الكردي، فإن وصول الأكراد إلى مصر حدث في أربعة مراحل على مدار التاريخ بدءًا من العام، 1500 قبل الميلاد، ثم المجيء الثاني مع الفتح الإسلامي، مع عمرو بن العاص، وكان من بينهم جابان بن ميمون الكردي المذكور في صحيح مسلم بأنه أول من أسلم من الكرد وكان رفقته أيضًا عمر الكردي الجد الأكبر للباحث.
بينما كان الدخول الثالث إلى مصر مع صلاح الدين الأيوبي، وفي المرحلة الرابعة بحضور محمد علي إلى مصر.
كرد مصريون
في لقاء مع حامد عبد العزيز، الباحث في الشأن الكُردي، تحدث عن انتمائه لأكراد مصر، مشيرًا إلى أنه من سلالة عمر الكُردي، ابن عم ميمون ابن جابان الكُردي، الذي كان جليس النبي ومذكور في صحيح مسلم، وقد جاء إلى مصر سنة 20 من الهجرة، الموافق 640 ميلاديًا.
يقول حامد لـ “فكّر تاني”: “عندما جاء عمرو بن العاص إلى مصر وتمركز في القناطر الخيرية، ووزع مرافقيه، اتجه أجدادي إلى منطقة وردان التابعة لمنشأة القناطر بمحافظة الجيزة، وسميت بذلك نسبة إلى رفاق عمرو بن العاص. وساروا بمحاذاة النيل حتى وصلوا إلى الإسكندرية وتمركزوا في منطقة وردان، التي نسبت إليهم أيضًا”.
اقرأ أيضًا: البهائيون في مصر.. أن تكون مواطنًا بـ”شرطة” (حوار)
ويستكمل عبد العزيز: “أما في المنوفية، فقد وصل جدي عمر الكردي وهو شيخ الطريقة الشاذلية إلى منطقة منوف، وأسس كُتّابًا لتعليم القرآن وتنقل حتى وصل واستقر في وردان منشأة القناطر منذ نحو 150 عامًا”.
تقول “فردوس”، وهي موظفة سابقة بمستشفى عين شمس من أصول كردية، في حديثها لـ “فكّر تاني”: “وُلدت في مصر، وأُقيم حاليًا في حي المطرية، أسرتي من المنصورة بمحافظة الدقهلية، والجد الأكبر جاء رفقة صلاح الدين الأيوبي، وحصلنا على الجنسية المصرية وتزوجت من ابن عمي”.
وتضيف أنه على مدار الأجيال المتعاقبة، اندمجت العائلة في المجتمع المصري حتى أنهم الآن لا يتحدثون اللغة الكردية، ولا يعرفون كثيرًا عن الوطن الأم.
لكنها، بعد وفاة والدها بدأت في البحث والقراءة محاولة نقل تاريخ أجدادها إلى الأبناء، لكن القليل منهم يهتم، على حد قولها.
اقرأ أيضًا:عن التهميش والانتماء.. بدو سيناء في عيون زوارها
الكرد والثقافة المصرية
عن الاندماج مع الشعب المصري، يقول الشيخ حامد عبد العزيز: “منذ جئنا إلى مصر قبل حوالي 1442 عامًا، امتزجنا بالكامل، وغيرنا من الثقافة الكردية بمعيشتنا وسط المصريين، مع الالتزام بالمبادئ والأخلاقيات الكردية”.
ويشير عبد العزيز إلى أن للأكراد قرى كاملة ذات طابع كردي، تشمل كل من اسم القرية، نوعية سكانها، المدرسة والمستشفى، والجمعيات الزراعية. ومن هذه القرى: قرية الأكراد بأسيوط، قرية ميت الأكراد ومدينة الكردي بمحافظة الدقهلية، قرية كفر كردي بالقليوبية، قرية منشأة الكردي بالغربية، وقرية الكردي بكفر الشيخ.
وعن حياته في مصر، يقول حامد: “تزوجت من ابنة عمي، لدينا بنتان وولد وستة أحفاد… أصبحنا مصريين تمامًا”.
يقول عبد الحنان سيدو، الذي يعمل في مصنع ملابس: “انتقل الكثيرون من سوريا إلى مصر مع الحرب، جئت من حي عفرين بحلب في 2012، ثم انتقلت زوجتي وابني بعد عام من ذلك، وكان عمره عامًا ونصفًا آنذاك، وأقمنا بجسر السويس”.
ويضيف “سيدو” لـ “فكّر تاني”: “ننتمي أنا وزوجتي للأكراد، وقد شجعنا الأمان هنا على نقل أسرنا إلى مصر. ومع الوقت أنجبنا طفلين آخرين، وانصهرنا في الثقافة المصرية حتى صار أولادنا يتحدثون العربية”.
يعيس “سيدو” وأسرته في منطقة بها عائلات كُردية أخرى، وهم في تجمعات العائلات يتحدثون لغتهم الأم.
وفق كتاب “الأكراد في مصر عبر العصور” الصادر في 2011، من تأليف الدكاترة المؤرخين: درية عوني، محمود زايد ومصطفى عوض، فإن ديانة الكُرد قبل دخول الإسلام كانت الزرادشتية. يقول المؤرخون إن مصر حاليًا تذخر بالعديد من العائلات المصرية ذات الأصول الكردية، والتي ساهمت في النهضة الفكرية والعلمية في التاريخ الحديث، مثل: عائلات الكردي، الأيوبي، الوانلي، الخربوطلي، المارديني، الأورفلي، بدرخان، تيمور، عوني والسويركي وغيرها من العائلات.
وفي العصر الحديث يوجد العديد من المشاهير الأكراد لعل أبرزهم أمير الشعراء أحمد شوقي، وقاسم أمين، وعباس محمود العقاد، والكاتب الصحفي إبراهيم رمزي، والدكتور إبراهيم ظاظا من مشاهير الفكر والأدب في مصر والوطن العربي، والأديبة سهير القلماوي، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والمخرج أحمد بدرخان ونجله علي بدرخان، والفنانة سعاد حسني، ونجيب الريحاني، ومحمود المليجي، وأحمد مظهر، وعادل أدهم، وصلاح السعدني.
اقرأ أيضًا: “ارجعوا بلدكم”.. كيف نمت بذرة الكراهية في مصر؟
الكرد والاندماج.. تأثرًا وتأثيرًا
“حين ينتقل الناس إلى بلاد غير أوطانهم، يحافظون في مجتمعاتهم الجديدة على الهوية واللغة، حتى الأكلات تُعد جزءًا ناقلاً للتاريخ وتعبر عن الحنين للوطن”، هكذا بدأت منى زيدو حديثها مع “فكّر تاني”، وتضيف: “زوجي كردي ولديه مصنع للملابس ونحن نقيم في العبور، بينما أنا من حلب بسوريا، عربية ولكنني نشأت في أسرة تهتم بالحضارة الكردية وتحبها. تزوجنا عن قصة حب، لذلك أحببت أن يكون المنزل وتربية الأبناء قائمة على الذوق الكردي”.
“زيدو” تقيم في مصر منذ 21 عامًا، بينما سبقها زوجها إلى مصر قبل ذلك بـ 33 عامًا. وقد حافظا على التحدث باللغة الكردية داخل المنزل، فانتقلت لغتهم الأصيلة تلقائيًا إلى أبنائهم الثلاثة، الذين يحملون أسماءً كردية: ألان أو رامز، ونارين (التي تعني زهرة الرمان)، وأصلان (وهو اسم تركي يعني أسد).
تقول “منى” إن أبناءها وزوجها حصلوا على الجنسية السويدية، وبالتالي لم يتمكنوا من الحصول على الجنسية المصرية، نظرًا لاشتراط عدم التجنس بجنسية أخرى مع السويدية. لكنها تحلم بالحصول على الجنسية المصرية يومًا ما.
حاليًا يحرص كل من “الآن” و”نارين” على حضور التجمعات والاجتماعات الكُردية، والتي يحضرها نجوم المجتمع الكُردي، مثل الفنان حسين فهمي والمخرج علي بدرخان.
تضيف “منى”: “التحق أبنائي بمدارس بريطانية ودولية، وبالطبع، تتردد عليهم تساؤلات في المدارس حول هويتنا ولغتنا، إلا أنه أمر ممتع.. استطاعوا أن يعلموا بعض زملائهم كلمات كردية.. كانوا سعداء بهذا التبادل الثقافي مع رفاقهم، وقد حدث تأثر كبير بهم وأثارت أسماؤنا فضول الكثيرين حتى أن دكتور الجامعة الذي يدرس لنارين قرر كتابة بحث عن الثقافة الكُردية”.
اقرأ أيضًا:أهل الكهف.. “أسلمة” الشخصية المسيحية في السينما المصرية
الكرد والطعام.. هوية تقاوم الاندثار
“تعلمت زوجتي من رفيقاتها المصريات وأجادت طهي بعض الأصناف التي لا نعرفها في سوريا، وأصبحت أساسية على طاولة الطعام، وعلى رأسها الكشري ومكرونة البشاميل”؛ يتحدث عبد الحنان سيدو عن تأثرهم بالأكلات المصرية. بينما تضيف مني زيدو: “ثقافة الطعام بالطبع جزء من تعبيرنا عن الحنين للوطن، وقد نقلنا معنا أصنافًا من المطبخ الكردي السوري والعراقي مثل الترشكي -خضار مطبوخ بالصلصة والأرز- والكبكبة، وهي مثل الكبيبة”.
ويشتهر الأكرد بحلوى كليشة، وهو بسكوت بالعجوة والقرفة، والمعمول والكرابيش والناطف. “نحرص على تقديم أصناف من الحلو الكُردي في اللقاءات والتجمعات الكردية، بينما يميل ذوق الأبناء للأكل المصري خاصة الحمام ومحشي الكرنب والبط والجلاش والملوخية المصري الخفيفة أما الملوخية الكردية المجففة، فيتم تحميرها في الزبدة والثوم، وفي حلب ناشفة محمصة بالسمن وليس لها لزوجة”.