عشرة أشهر كاملة لم تتوقف فيها الجرائم الإسرائيلية المروعة من قتل أطفال ونساء وشيوخ وحصار وتجويع للشعب الفلسطيني من سكان قطاع غزة، في ظل تخاذل وتواطُؤ الكثير من الحكومات العربية والغربية، إلا أن الوعي الشعبي والتضامن مع القضية الفلسطينية و خاصة بين الأجيال الجديدة في المجتمعات الغربية _ يتغير بصورة لافتة.
لعقود هيمنت السردية الصهيونية على صناعة النشر ووسائل الإعلام والأعمال الفنية الغربية، وعاشت أجيال لا تعرف سوى مظلومية اليهود، وأن فلسطين أرض بلا شعب عاد لها اليهود لبناء وطن قومي بعد تيه واضطهاد طويل، لكن الحرب الأخيرة كشفت مدى وحشية وزيف الادعاءات الإسرائيلية، وظهر مقدار الظلم والتهميش والتضليل والتحيز الإعلامي ضد الشعب الفلسطيني.
اقرأ أيضاً : فلسطين تاريخ شخصي.. ذاكرة عيسى صباغ من النكبة إلى حلم العودة
الأدب والسياسة
في كتابه ” ” يتتبع الباحث والأكاديمي المتخصص في الأدب الإنجليزي د. صديق محمد جوهر تقاطعات الأدب والسياسة، الفنون والتاريخ، الحقائق وصناعة الأكاذيب من خلال قراءة نقدية للصورة الشائعة عن القضية الفلسطينية في الأدب الأمريكي المعاصر.
ما الذي يعرفه المواطن الأمريكي عن القضية الفلسطينية؟، وكيف يرى الصراع العربي الإسرائيلي؟، وما هى مصادر المعلومات التي يطلع من خلالها على ما يحدث في فلسطين المحتلة؟، وما دور الأدب في كتابة التاريخ؟، وكيف يستخدم المحتل الأعمال الأدبية في تزييف التاريخ؟ أسئلة يطرحها د.جوهر؛ لفهم صورة للصراع العربي الإسرائيلي من وجهة النظرة الأمريكية.
“في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة في الثامن من يوليو عام 2014، تم إجراء استبيان يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وزع إليكترونيًا على طلبة بعض الجامعات الأمريكية والكندية، ولقد أظهرت النتائج مدى تغلغل النفوذ الصهيوني في تشكيل العقل الجماعي للأجيال الصاعدة في أمريكا الشمالية، فقد تبين أن أكثر من 70 % ممكن شاركوا في الاستبيان من جامعات الولايات المتحدة وأكثر من 80% ممن شاركوا في الاستبيان من جامعات كندا يعتقدون أن فلسطين هى أرض يهودية محتلة من العرب الفلسطينيين وأن إسرائيل دولة مضيافة لأنها سمحت للفلسطينيين بالبقاء على أرضها”.
يفتتح جوهر كتابه انطلاقًا من نتائج الاستبيان الصادمة، التي تعكس بوضوح إلى أي مدى نجحت الدعاية الصهيونية في تزييف التاريخ وبناء سردية مغايرة تمامًا للواقع، تجعل من الضحية إرهابي ومجرم، ومن المجرم صاحب حق؛ في محاولة لفهم كيف تشكلت هذه الصورة؟، يختار المؤلف ثلاث روايات أمريكية معاصرة تمثل الرؤية السائدة للصراع العربي الإسرائيلي بين المثقفين والكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية وهم رواية “الحاج” للكاتب ليون يوريس، وروايتي “الحياة على الضد”، و”عملية شايلوك” لفيليب روث.
يتضمن الكتاب أربعة فصول تشرح وتحلل باستفاضة منهجية الأعمال الروائية التي ترصدها الدراسة وطرقهم المتنوعة في تقديم وعرض القضية الفلسطينية من وجهة نظر صهيونية، بالإضافة لخاتمة بعنوان ” الميثولوجيا الاستعمارية وصراع الحضارات” تتناول القضية الفلسطينية من خلال منظور أوسع يجمع ما بين الديني والتاريخ والاجتماعي والسياسي.
الأدب والتاريخ
يشير جوهر إلى أن الأدب وتحديدًا فن الرواية أصبح واحدًا من الأدوات المهمة لصياغة التاريخ، خاصة لما يحمله من مساحة من التفاعل الإنساني والدراما والمتعة، تحول الأحداث التاريخية الجافة إلى وقائع إنسانية ملموسة يكون لها تأثير قوي على المتلقي.
“لقد ظلت رواية (الحاج) على قائمة أفضل الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة لسنوات؛ إذ إنها صنفت رواية تستعرض، بصورة واقعية حقيقة، تاريخ النزاع في الشرق الأوسط، وأوصى أنصار الدعاية الصهيونية في أمريكا أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بقراءة الرواية على أساس أنها بيان جلي، يتضمن الوقائع البارزة التي تصوغ العلاقات العربية الإسرائيلية”.
ويضيف جوهر:”نشرت رواية “الحاج” في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي لبيروت الذي مهد الطريق لمذابح اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، وتزامن نشر الرواية مع تعالي بعض الأصوات الأمريكية المؤكدة على عدم شرعية السياسات الإسرائيلية الاستعمارية في العالم العربي، لذلك فإن الرواية تحتشد بخطاب مضاد لما شاع في أمريكا آنذاك، وتأتي في سياق رد اللوبي الصهيوني على أصوات بعض المفكرين المعتدلين في أمريكا مثل (نعوم تشومسكي)”.
يرى جوهر أن هناك رؤيتين مركزيتين يروجهما الخطاب الأدبي الصهيوني حول تاريخ فلسطين ما قبل قدوم المحتل الصهيوني، أحدهما تشير إلى أن فلسطين هى أرض يهودية بالأساس وكانت محتلة من قبائل عربية بربرية، وبالتالي تأسيس دولة الإحتلال الإسرائيلي جاء لاستعادة حق اليهود التاريخي في وطنهم الأم.
في حين تقدم الصورة الأخرى الإحتلال الإسرائيلي كحركة تقدمية وجزء من الرؤية والمنظومة الاستعمارية الغربية هدفها تحديث المنطقة العربية ودمجها داخل منظومة الحضارة العالمية، وتحاول الادعاء بتقديم رؤية حيادية حول الصراع العربي الإسرائيلي، تهمش فيه الرؤية الفلسطينية بصورة غير مباشرة كما في روايتي “الحياة على الضد” و”عملية شايلوك” للروائي الأمريكي من أصول يهودية فيليب روث.
يوضح جوهر أن رواية “الحياة على الضد” لفيليب روث يمكن قراءتها بطريقتين مختلفتين، إحداهما القراءة السطحية التي يعطيها النص بكونه يهدف لعرض النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور حيادي، بينما القراءة المتأنية للرواية تكشف عكس ذلك، حيث التحيز الضمني للسردية الإسرائيلية وذلك عبر بناء ونسق روائي إما يهمش الصوت الفلسطيني ويجعله غريب ويمنحه أدوار دونية، أو يتجاهله ويسكته تمامًا.
“يعمد فيليب روث من البداية إلى تقديم وطرح تاريخ النزاع في الشرق الأوسط بلغة ومفاهيم يتقبلها القارىء الغربي دون نقاش أو تمحيص، وذلك عندما يلجأ إلى اعتماد استراتيجية روائية يظهر من خلالها الفلسطينيون المقتلعون من وطنهم إما شخصيات لا صوت لها ولا منطق، أو بإسناد أدوار لها تتسم بالدونية والانحطاط، وبتعبير آخر محاولة (روث) اصطناع صوت، روائي، فلسطيني، ضدي يقوم برواية قضية النزاع العربي الفلسطيني ينال منها، بل ويقوض القضية بسبب فيض من الأصوات المناصرة للصهيونية التي تغشى وتهيمن على فضاء النص الروائي”.
اقرأ أيضاً : القضية الفلسطينية في ميزان صاحب “أجنحة الفراشة” (حوار)
الحقيقة والخيال
تبدأ معضلة رواية “عملية شايلوك” من سؤال هل نحن أمام رواية متخيلة أم ذكريات وسيرة شخصية وأحداث حقيقية، في هذا النص يروي فيليب روث واحدة من أغرب الرحلات التي خاضها في حياته إلى دولة إسرائيل، وهو الكاتب الأمريكي من أصول يهودية الرافض والناقض للكثير من الأفكار والتصورات والمنظومة الحاكمة للجماعات اليهودية.
في مقال بعنوان “حصة للحقيقة وأخرى للخيال” يتتبع الباحث والكاتب إبراهيم العريس حالة الجدل المستمرة منذ سنوات حول رواية”عملية شايلوك” فيليب روث متساءلًا”هل هي رواية أم ذكريات رحلة حقيقية أم ميتا ـ رواية، بحسب واحد من المصطلحات الأكثر حداثة في النقد الجديد؟ حتى الآن لم يُحسم الأمر نهائياً”.
ويضيف العريس:”وإن كان كثير من المعلقين والنقاد يفضلون العودة لما قاله الكاتب نفسه في صدد هذا النص الغريب المعنون “عملية شايلوك”، إذ أكد أنه إنما يروي هنا ما حدث له حقاً يوم قيل له من دون مقدمات بأن ثمة في إسرائيل كاتب يزعم أن اسمه فيليب روث بالتحديد، وأن هذا الكاتب يتجول بين المدن الإسرائيلية داعياً اليهود إلى أن يعودوا لبلدانهم الأصلية التي انطلقوا منها محتلين فلسطين، وأن يتركوا البلد لسكانها الأصليين من الفلسطينيين”.
يشير العريس إلى أن المسألة برمتها أثارت في ذلك الحين دهشة فيليب روث الأميركي الأصلي وفضوله، فقرر أن يتوجه إلى الدولة العبرية كي يستطلع ما يحدث، فكانت النتيجة هذا الكتاب الذي ما إن صدر حتى راح روث الحقيقي يؤكد أن ما يرويه حدث حقاً وأن النص يشكل حكاية كان هو في مقدمة مستغربيها.
“يبدو أن النقاد والمتابعين آثروا دائماً أن يتعاملوا مع “عملية شايلوك – اعتراف” بوصفها رواية أوصل فيها كاتبها لعبة التضليل إلى مستوى مدهش، ومن هنا لم يعد أحد وعلى الأقل منذ رحيل فيليب روث عام 2018 يتحدث عن هذا الكتاب إلا بوصفه رواية، وذلك على الرغم مما كتبته الناقدة إستر فين في “نيويورك تايمز” من أن روث لم يتوقف عن اعتبار كتابه “اعترافاً” لا رواية”.
العنصرية والاستشراق
في خاتمة الكتاب يوضح جوهر أن القضية الفلسطينية تأثرت بقوة في الثلاث عقود الماضية بحالة العداء الغربي للإسلام ونظريات صراع الحضارات وتوصيف المسلمين باعتبارهم إرهابيين وقتلة خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011م، وعقب ثورات الربيع العربي بظهور الكثير من الجماعات التكيفرية المسلحة من أبرزها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي ورث بصورة أو أخرى مكانة رمزية تنظيم “القاعدة”.
“التناول المتحيز للنزاع العربي الإسرائيلي سواء في رواية “الحاج” أو الروايات الأخرى، هو أمر ناتج عن الروايات المعادية للعرب والإسلام المستوحاة من الثقافة الغربية والميثولوجيا الأمريكية، في نظريات (هنتنغتون) و (فوكوياما). لقد تبنت الروايات خطابات عنصرية استعمارية استُخدمت من قبل بحق الزنوج والهنود الحمر، وذلك حين عمدت إلى تصوير الشعب الفلسطيني أدنى عرقيًا من اليهود الصهاينة، وأن الفلسطينيين تحكمهم القبلية والتخلف، ويدينون بدين يحض على ثقافة الكراهية”.
ويضيف جوهر تعاني القضية الفلسطينية أيضًا من ميراث الرؤية الاستشراقية الغربية التي طالما تعاملت مع الشرق الأوسط وأفريقيا باعتبارها عوالم غرائبية خارج التاريخ تدعو للدهشة والرثاء وتنتظر المستعمر الغربي “الرجل الأبيض” لكي ينقذها من تخلفها، وفي هذا السياق يستعرض جوهر دراسة الباحث “جاك شاهين” التي تحمل عنوان “صورة العربي في الكتب الهزلية الأمريكية”.
“إن صورة العرب والفلسطينيين في الرواية ليست انعكاسًا للصور النمطية العربية السائدة في الثقافة الأمريكية فحسب، بل امتداد للتمثلات الاستشراقية التي شاعت حول أفريقيا والشرق الأوسط، فثمة الذهنية النمطية عن الشرق، وثمة خرافة القارة المظلمة السوداء، مثلاً في رواية “الحج” يتمثل الفلسطيني للقارىء بوصفه عقبة حادة تقف في وجه التقدم الحضاري”.