شخلعة.. "لأن كل الأجساد تستحق الاحتفاء بها"

 

استيقظت "سارة" من نومها، نظرت إلى عقارب الساعة، ثم قفزت سريعًا من سريرها، لم يتبق غير ساعة واحدة.

ساعة واحدة فقط حتى تصل أمها إلى البيت بعد أن تنتهي من عملها، ساعة واحدة تلك التي تستغلها "سارة" في إجازتها الأسبوعية لترتدي ما تريد وتقف أمام مرآتها، ثم تدوس زر التشغيل.

كأنها حررت الأغاني من قيودها، تُطلقها عالية في أرجاء المنزل، فترقص "بلدي"، الرقص الذي تحرمها منه الأم حتى لو كان في الغرف المغلقة.

"سارة" التي أتمت سبع وعشرين عامًا مؤخرًا، انقطعت صداقتها مع أمها قبل ثلاث سنوات بالكامل، بعد أن اشتغلت الأم بأحد حضانات الأطفال ذات الطابع الديني، وبدأت تتغير أفكارها تدريجيًا، انتقدوها في مكان عملها وانتقدوا أفكارها، حد أنهم انتقدوا ابنتها التي تحب الموسيقى والفن..

تعود الأم إلى بيتها كل يوم لتُحرم شيئًا جديدًا من تصرفات "سارة"، فتلجأ الأخيرة إلى حياة خفية بعيد عن أعين أمها حتى تمارس هوايتها المفضلة، ترقص.

بخلاف سارة، تربت مي عامر، دكتورة بمجال الدراسات الثقافية، على خطاب متناقض تجاه الرقص، ينظر والداها إلى الرقص على أنه مهنة لا تليق، بينما يمتدحان الراقصة الأيقونية سهير زكي، ويتندران على حال النساء اللواتي لم تعد تشبه هذا المخلوق فائق الجمال،

مي، رقصت في أفراح بنات الخالات والعمات، شجعها أبواها على إحياء الأجواء الفاترة بحركات تُشعل حفلات الزفاف، لكنهما لا يشجعانها إذا أعلنت حبها للرقص وأنها تفكر في امتهانه.

مي عامر مؤسِسة شخلعة
مي عامر مؤسِسة شخلعة

تحكي عامر: "بعد الجامعة، بدأت التخصص الأكاديمي في الدراسات الثقافية.

"كنت بحب الأغاني الشعبية والمهرجانات، وجدته فن له قاموس واسع ويتطور بشكل فطري، ومع ذلك يختفي من مصر بسبب أنه عيب وغير مقبول".

من منطلق حب مي للرقص، رغم ما يوصم به أو توصم هي به أحيانًا، تدربت ضمن برنامج علاجي للنساء بالرقص البلدي، للتخفيف عن النساء اللاتي مررن بتجارب حياتية سيئة تسببت لهن في صدمات نفسية.

في البرنامج، تعرفت عامر على نفسها وجسدها من خلال الرقص، وفي نفس الوقت، حصلت على درجة الدكتوراة وعملت بالتدريس، ثم قررت إطلاق مشروع أسمته "شخلعة".

تقول مي مدربة ومؤسسة شخلعة: "في الأول كنت بجمع صديقاتي وكنت بحاول أخلق مساحة للعلاج بالرقص البلدي، بشكل غير مدروس لكنه لا يخلو من حركات احترافية اكتسبتها من التدريبات التي حضرتها أو من متابعتي للراقصات عبر منصات التواصل الاجتماعي، ومع الوقت فكرت في تكوين فريق.. وقد كان".

بالتدريج أصبح "شخلعة" فريقًا نسائيًا يعيد إحياء الرقص البلدي كما هو موجود في حياة المصريات منذ القدم،  دون وضع شرط محدد لأعمار الراقصات أو شكل أجسادهن.

اقرأ أيضًا:ماذا تفعل صباح مع جنون أسعار الفوط الصحية؟

متى بدأ الرقص البلدي؟

في كتابها "الإمبريالية والهشك بِشك"، رصدت الباحثة شذى يحيى ملامح تاريخ الرقص الشرقي الذي شُكل منذ حملة نابليون وما تلا ذلك من الهوس الذي أصاب الكُتاب والرحالة بالراقصات، وكيف رسم الرقص الشرقي صورة المرأة العربية في أذهان الغرب، على مستوى الأدب والفن التشكيلي والفوتوغرافي وفنون الأداء.

ما قبل ذلك، كان الرقص جزءً من الطقوس الدينية في مصر القديمة، وكان ضرورة للحياة والتسلية والترفيه، امتلأت جدران المعابد والمقابر بالعديد من أشكال الرقص في مختلف المناسبات الدينية والدنيوية ومنها عيد السد، وعيد الأوبت، بخلاف الطقوس الخاصة بالجنازات.

أشارت إلى ذلك إحدى الدراسات الصادرة عن مركز الأقصر للدراسات والحوار والتنمية، أعدتها الباحثة المصرية وسام داوود، رصدت رقصات مصرية قديمة منها ما ارتبط بالحرب الصاخبة، بأداء راقصين أمام الجمهور، وأخرى تظهر فيها فتيات يقمن بالدوران في حركات رشيقة.

ذكرت الدراسة: أغنية الرياح الأربع كانت أول مشهد بهلواني راقص عرفه العالم قبيل آلاف السنين، وكانت تؤديه الفتيات في عصر الدولة الوسطى بمصر القديمة".

تحية كاريوكا وسامية جمال
تحية كاريوكا وسامية جمال

الرقص مرادفًا للفسق؟

لاحظت عامر أن المجتمع المصري يفعل شيئين متناقضين تجاه هذا الفن، يقبل الرقص في المجال النسائي الخاص، ويحتقره في المجال العام.
تقول: "كنا نرقص سويًا بعيدًا عن التصوير والكاميرات، وكنا نضيف حركات جديدة كلما التقينا، إلى أن وصلنا لجمع 200 حركة أشبه بمنهج، جمعناه على مدار عام ونصف، وهنا فكرت في إتاحة الفرصة لأخريات".

تتفق الباحثة شذى يحيى، مؤلفة "الإمبريالية والهشك بشك" مع وجهة نظر "مي"، بأن الرقص الشرقي ظاهرة فنية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، ومع ذلك ما زالت محتقرة ومرفوضة من الشرق والغرب على السواء، الجميع يحب الراقصة الشرقية والرقص، لكن لا أحد يعترف بذلك.

وفي كتابها، توضح  يحيى كيف أن "الراقصة" عند الغرب مرادفها "المرأة اللعوب"، ليصبح الرقص مرادفًا للشر والفجور، وهو ما ترسخ عن الراقصات الشرقيات، ووصفهن في الأدبيات الغربية بالنساء الشرقيات الساحرات المسكونات بالغواية والإغراء.

بينما دونت الباحثة ريتا فرج فى مقال لها عن "النسوية": ما بعد الكولونيالية تفكيك الخطاب الاستشراقي حول نساء الهامش"، أن الرقص أحد الصور التي يتم تصديرها للغرب عن النساء، تقول: "أصبح بالمستطاع استخدام الرقص وسيلة للتعبير عن الرؤية الغربية لصفات الشرق، فهو يصور العري الأنثوي والأماكن المترفة المغلقة، والمجوهرات، والتلميحات إلى السحاق والعنف الجنسي، أي بكلمة واحدة: أصبح هذا الرقص هو «الشرق».

ترفيه وعلاج

رغم محاولات تشويه الرقص، احتفظت مصر بخط مميز لهذا الفن على مدار تاريخها، فكان ولم يزل الرقص مرتبطًا بالترفيه، حاضر دائمًا في حفلات الزفاف والتجمعات العائلية والمجتمعية.

ومنذ بدايات العصر الحديث، أصبح الرقص واحدًا من الطرق التي يكسب منها العاملات/العاملين قوتهن/م من خلال الترفيه عن السياح بالموسيقى والرقص في الشوارع وأمام المقاهي وفي المواكب العامة مستخدمات/ين بعض الملحقات مثل العصي والسيوف و"الشمعدان ".

سامية جمال
سامية جمال

احتفاء بالجسد

لدى مي تجربة نفسية دفعتها للرقص بشكل يومي قبل تكوين الفرقة، فبعد انفصالها عن زوجها، هاجمتها نوبات هلع ليلًا، كانت تشعر خلالها أنها بلا "بطن وظهر".

تحكي عن تجربتها: "أثناء "النوبة" لا أستطيع الوقوف مهما حاولت، أقع.. مشاعر نفسية مركبة يصحبها ألم جسدي شديد، بخلاف مشاعر الرعب التي تلازم هذا الألم، فبدأت العلاج النفسي".

لكن نصيحة عابرة بأهمية "الرقص اليومي" كخطوة للتعافي، قدمتها خبيرة طاقة لـ مي، ساعدتها تدريجيًا حتى توقفت عن أدوية العلاج النفسي وتجنبت الأعراض المصاحبة لتلك الأدوية.

دفعت هذه النصيحة مي لفتح باب "شخلعة" أمام كل النساء دون تفرقة: "رحلتي في التعافي بالرقص أقنعتني بفكرة -مفيش جسم مثالي- إحنا بنرقص عشان نبقى مبسوطين".

انضمت إلى شخلعة فتيات بأوزان متفاوتة، من 50 حتى 130 كيلوجرام، "الرقص الشرقي وُجد لأجسامنا غير المثالية.. وُجد للمصريات، وشعبنا لم تكن لياقته البدنية مثالية مثل شعوب أخرى" ..تضيف مي.

مؤسِسة الفريق ترى أن الحركات الدخيلة على الرقص البلدي تسببت فيه الأجنبيات باستعراضهن مهارات الصعود والهبوط إلى الأرض وهي أقرب للسيرك، ولا تلائم المصريات، ولا طبيعة الأرض المصرية الأقرب إلى المسطحة المستقرة.

:"رقص شعبنا على الأرض وليس بالطلوع والنزول مثل الدبكة اللبنانية مثلًا التي وجدت لتناسب الطبيعة الجبلية". 

الرأي نفسه تؤيده الطبيبة النفسية والكاتبة سلمى الديب. تشرح لـ فكّر تاني، عن هذا الربط بين الرقص والتحسن النفسي، تقول: "الرقص كنوع من أنواع الرياضة يساعد على تحسين المزاج وتقليل التوترات بإفراز هرمون الإندروفين المسؤول عن تخفيف حدة أعراض القلق والاكتئاب الأكثر انتشارًا في عصرنا الحالي".

"يتمتع الرقص الشرقي بميزة إضافية للنساء، فهو يساعد على تحسين صورة الإنسان عن جسده، وبالتالي تحسين الثقة بالنفس"بحسب سلمى،  فمشاركة الرقص جماعيًا ضمن مجموعات نسائية مثل شخلعة أو غيرها من المجموعات يكسر الصورة النمطية عن وهم الجسم المثالي.

تضيف:"لأن كل الأجساد تستحق الاحتفاء بها".

تحضر "سلمى" نفسها الكثير من التدريبات مع شخلعة، معتبرة أن "الرقص يقدم مساحة للتعبير عن المشاعر يندر إتاحتها للنساء في مجتمعاتنا"

وتشيد بموقف الفريق من ارتداء كل المتدربات بدلة رقص، كتأكيد على مفهوم "كل الأجساد ينبغي الاحتفاء بها".  

اقرأ أيضًا:عزة سليمان في حوار خاص: حقوق "الستات" ليست أولوية الحكومة والبرلمان

 

متشخلعات

انضمت مها سليم، إلى فريق شخلعة بعد التأكد من أنه مساحة آمنة للفتيات فقط، وحتى العروض الخاصة بالفريق للنساء فقط، مع التشديد على عدم التصوير، تقول مها لـ فكر تاني: "تعلمت رقص الصالصا والتانجو وقررت الانضمام إلى شخلعة لشعوري بالراحة النفسية ففيها الخصوصية البعيدة عن المجتمع.

تؤكد:"أسرتي اطمأنت ولم يعارضني أحد". 

ترى مها أن الرقص البلدي أثر على نظرتها لجسمها، وزاد من ثقتها بنفسها، تقول: "صالحنا على أجسامنا.. تخينة أو رفيعة أو -مش عاملة شايفينج- أي بنت في الدنيا تقدر تلبس بدلة وترقص".

 "هدير" 32 عامًا، مدربة رقص شرقي، حاصلة على شهادة في إجادة الرقص، دربت فتيات في صالات الألعاب الرياضية، لكن تعرفها على شخلعة كان بمثابة خطوة أكثر أهمية وقربًا لفهمها للرقص الذي طالما أحبته.

تقول: "عرفت مي وانضممت للفريق، وما فرق معي العروض أمام الجمهور النسائي في مسارح وأماكن مخصصة لذلك، ضاعفت ثقتي بنفسي وبشكل جسمي".

تٌعرب هدير عن استياءها من أن النظرة المجتمعية للرقص ما زالت تقوم على احتقار واستخفاف، "مع ذلك كل النساء في النقاشات الخاصة تحب الرقص وتتمنى أن تجد تلك المساحة". 

أما "هند" 25 عامًا، إحدى منظمات الفريق، تحب الرقص منذ طفولتها، قبل معرفتها بشخلعة، أثرت مشاكل نفسية على صحتها العامة وتركت آثارها في صورة ألم مزمن بالرقبة، حاولت الشفاء منه بالعلاج الطبيعي دون جدوى، ومع انضمامها للفريق بدأت رحلة العلاج النفسي، ومعهما تحسنت آلام رقبتها ولم تعد كما كانت من قبل. 

لم تخبر هند أسرتها بانضمامها للفريق، فيما عدا شقيقتها الكبرى التي تدعمها وتلاحظ التحسن عليها. 

وجاءت نوران للفريق بتشجيع من صديقتها، تحكي تجربتها لـ فكّر تاني: "كنت أبحث عن طبيب نفسي، وبعد الانضمام إلى شخلعة وجدت أن حالتي المزاجية تغيرت للأفضل، ولم أعد بحاجة للعلاج، فالطاقة والموود الحلو انطبعا على علاقتي بنفسي وبنظرتي لجسمي". 

من إحدى الحفلات القديمة
من إحدى الحفلات القديمة

الرقص والجسد

تُولي مي عامر، مؤسسة الفريق، اهتمامًا خاصًا بمفهوم الجسد، ومدى تعامل النساء مع أجسادهن وكيف تنتقل تلك النظرة إلى حياتهن بالكامل، كما تحول مي هذه المفاهيم المبنية على دراستها الأكاديمية إلى "المتشخلعات" كما تطلق عليهن. 

تقول عامر: "لدينا حاليا 3 مجموعات: المتسلطنات، الرايقات والنغشات، كل مجموعة من 10 راقصات يتعلمن 64 حركة احترافية، ولكل راقصة الحرية في العرض الفردي، أن تستعين بالحركات أو لا تستعين، فما يهمني هو رضا كل راقصة عن صورتها أمام نفسها وحركتها، أما عروض الرقص الجماعي فنلتزم فيها بالحركات". 

"أول مرة أحس أني ست جميلة" كانت هذه العبارة إحدى التعليقات المؤثرة التي جاءت إلى مي، من زائرة، بعدما ارتدت بدلة رقص ووقفت أمام المرآة لترقص بحرية.
وتؤكد مي أن البدلة تعطي للنساء انطباعًا مختلفًا لا تشعر به في ملابسها الأخرى، وكذا منديل الرقص المزين بالعملات المعدنية.

لكن ثمة تحد يواجه المتشخلعات يتعلق بالزي، لعدم وجود بِدل رقص تناسب كل المقاسات، تقول مي: "في السوق بدل تتناسب لصاحبات وزن 60 إلى 80 كيلو، وهي بدلات رخيصة الثمن وجيدة، أما بخلاف هذه الأوزان نضطر لتفصيل بدلة بتكلفة 1500 جنيهًا على الأقل، وهو مبلغ يصعب على الكثيرات توفيره".
تحلم مي أن تلف العالم بـ"شخلعة"، لكنها تعرف الرفض المجتمعي للفكرة، وتوضح: "نساء كُثر يتهدد استقرارهن العائلي والوظيفي.. لا أريد الدخول في صراع مجتمعي حفاظًا على خصوصية المنضمات للفريق".  

لكن "سارة" مازالت تخطف ساعة واحدة فقط بعيدًا عن أمها التي تُحرم هوايتها، لتملأ غرفتها بالأغنيات وتقليدها لسامية جمال راقصتها المفضلة أو كما تطلق عليها الفراشة الجميلة، تقول: "هرقص حتى لو لم تقتنع أمي، وهفضل استمتع بتجارب نساء من حولي نجحن في كسر هذا التابوه".

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة