يقول الدكتور مصطفى مدبولي، إنه التقى نحو 70 مرشحًا لتولي الحقائب الوزارية، منذ قبول استقالة حكومته، وتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، على طريقة “لِف وارجع ثاني”.
المعروف أن ما بين قبول استقالة مدبولي، وإعلان التشكيل الوزاري الذي قيل إنه جديد، نحو ثلاثين يومًا، في حين يبلغ عدد الحقائب الوزارية سبعًا وعشرين حقيبة، ومن ثم فإن الرجل لم يبذل مجهودًا خارقًا، إذ التقى لكل وزارة ما بين مرشحين اثنين، إلى ثلاثة على أقصى الاحتمالات.
أيما يكن من كلام دولة رئيس الوزراء، الذي أعيد تكليفه برئاسة الحكومة لاستكمال مسيرة الإنجازات، وعملية الإصلاح الاقتصادي التي تجني البلاد ثمارها، ويرفل العباد في نعيمها، فإن المجهود الذي أراد أن يقول، إنه كان مضنيًا شاقًا، قد أسفر عن لغط شعبي وحالة توجس مما هو آتٍ.

صلب الموضوع، أن الاختيارات في حد ذاتها، تستدعي القلق، وتثير زوابع المخاوف من استمرارية الأداء الحكومي على النحو إياه.
كان الدكتور مدبولي يدلي بتصريحه، بشأن عدد الذين استقبلهم من المرشحين للوزارة، ردًا على استفسار تعلّق تحديدًا بوزير التعليم الجديد، محمد عبد اللطيف، والذي اشتملت مسوغات تعيينه على حصوله على درجة الدكتوراه، ثم تبين من خلال النبش في سيرته الذاتية، أن درجته العلمية، صادرة عن جامعة أمريكية لا مقرات لها، وليست ذات حُجيِّة علمية متينة، وتمنح شهاداتها عبر التواصل في الفضاء الإلكتروني “أون لاين”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن من المسوغات، أن الوزير أدار مدرسة خاصة مملوكة للسيدة والدته، وهذه علاقته الوحيدة تقريبًا بالعمل الإداري ذي الصلة بملف التعليم، الذي يعد واحدًا من أكثر الملفات التي تحتاج إجراءات تصحيحية عاجلة في مصر، قبل أن يسفر إهماله أكثر من ذلك، عن أن يغدو الوطن وطنًا ضائعًا.
إن مسألة إصلاح التعليم، لا تحتمل التسويف، و أي إرجاء لهذا الملف يرقى إلى الخيانة، في الوقت الراهن، وأي استصغار لأهمية التعليم في نهضة البلاد، لا يصدر إلا عن جاهل أحمق، والمؤكد أن مصر لا تعدم الخبرات البشرية الكفؤة، ولا تعاني نقصًا في العقول، لكن الأزمة تكمن في إسناد الأمور إلى غير أهلها.
إدارة الوزير الجديد مدرسة أمه، لا يبرر بالقطع توليه منصبًا من مهامه التخطيط استراتيجيًا للتعليم، في وطن يعاني من كوارث متراكمة، منها مثلًا أزمات نقص المعلمين، ووقف تعيينهم، وقلة الموارد، والمناهج التي لا تنتمي لسياق العصر، والأخطر من هذا كله، وصول نسبة الأمية إلى أكثر من 23% وفق تصريحات مدير إدارة تعليم الكبار، الدكتور محمد يحيى ناصف، العام الماضي.
أقرأ أيضا : الرغيف والطنطاوي وغزة ومدبولي.. أوراق مبعثرة
يُعلِّل الدكتور مدبولي اختياراته للوزراء بأنه حرص على تكليف الأمر إلى أولي الخبرة العملية، ويقول الواقع إن وزير التعليم كمثال، ليس خبيرًا تربويًا، فضلًا عن أن إدارته مدرسة والدته، قد تكون شرفية شكلية، مثلما قد يدير ابن صاحب بقالة أعمال أبيه، حين يمضي لابتياع بضائع حانوته من تجار الجملة، هذا مع ملاحظة أن وزير التعليم درس السياحة، فإذا كان الرجل يتمتع بمواهب إدارية فذة، فالأحرى تكليفه بوزارة السياحة، والتي تحتاج بدورها ثورة لاستثمار مقومات مصر العظيمة، والتي لا تحقق العائد المناسب لها، نظرًا لأسباب ليس المجال ملائمًا لسردها.

بعيدًا عن وزير التعليم، وهو بحقٍّ سيء الحظ، إذ سقط في براثن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، الذين نهشوه نهشًا، فانفضوا عن غيره من الوجوه الوزارية الجديدة، يبقى الاختيار في حد ذاته غريبًا، والخوف، كل الخوف أن تكون هذه الغرابة مؤشرًا على الآليات التي اتبعت لاختيار الوزراء جميعهم، في الحكومة التي استغرق تشكيلها منذ قبول استقالة رئيسها، حتى إعلان التشكيل زمنًا طويلًا لدرجة مريبة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، شاعت قصة موحية عن جاسوس أمريكي، جرى زرعه في دولاب الدولة الروسية، وكان يعمل مستشارًا للرئيس السوفيتي، ووظيفته اقتصرت على اقتراح الرجل غير المناسب، في المراكز الحساسة.
بغض النظر عن الأخذ بالقصة كحقيقة دامغة، أو اعتبارها من قبيل الدعاية الأمريكية، التي دأبت على إظهار الروس أغبياء حمقى، فإن هدم أي دولة لا يحتاج أكثر من تولي محدودي الكفاءة المناصب القيادية.
وفي مصر كانت هزيمة يونيو نتيجة مباشرة للخطيئة ذاتها، فالرئيس الراحل عبد الناصر، اعتمد على أهل الثقة لا أهل الخبرة، وكانت الثقة بالطبع تعني الثقة في الولاء لشخصه.
ما يؤخذ على ناصر الذي استطاع التخلص من “الشلة”، لكن بعد أن سدَّدت مصر ثمنًا مؤلمًا، يؤخذ أيضًا على جماعة الإخوان، التي خصصت المناصب الحيوية لنخبة مختارة من “الأهل والعشيرة”، فإذا بهم يسقطون بعد عام واحد من الحكم.
اقرأ أيضاً: رأس الحكمة.. ما بين الشوربة والزبادي وإعلام الدجالين
من المقولات اللطيفة عن إسناد الأمر إلى غير أهله: “اخترنا حصانًا للحرث، وحمارًا للسباق، فلم نحصد شيئًا وخسرنا السباق”.
لا يوجد إنسان فاشل في المطلق، لكن الفشل يتأتى حتمًا حين تُوظَّف القدرات في غير محلها.
تشبه الدولة إلى حد كبير، فرق كرة القدم، التي لا تحقق البطولات إلا إذا أحسن المدير الفني، توظيف اللاعبين داخل المستطيل الأخضر، وفق قدراتهم وبشكل موضوعي.
المعلم حسن شحاتة، كان فذًا في ذلك، فكان يدفع على سبيل المثال بمحمد ناجي جدو، في الدقائق الأخيرة من المباريات الحاسمة، فإذا به يحرز هدف الفوز، وكذلك كان مانويل جوزيه المدير الفني الأسطوري للأهلي.
الكارثة حين يكون المدير الفني ضعيف الإمكانيات مشوَّش الرؤية، لا يملك القدرة على تقييم عناصر الفريق، فيدفع بالمهاجم في مركز المدافع، ويلزم الظهير تأدية دور رأس الحربة.
في السينما كذلك، تكمن عبقرية المخرج في اختياره الممثلين المناسبين للأدوار.
اقرأ أيضاً : حكومة العاصمة الجديدة.. مراقبون: وهل تغيرت القماشة؟
هل تتخيل ممثلًا آخر مكان صلاح منصور في دور العمدة برائعة صلاح أبو سيف الزوجة الثانية؟ أو هل كان واردًا أن يؤدي نجم بخلاف أحمد زكي شخصية منتصر في الهروب لعاطف الطيب؟ أو هل يمكن تصور عبد الفتاح القصري في أدوار الفتى الأول؟
النجاح ليس مطلقًا والفشل كذلك، كلُّ ما في الأمر أن يتم اختيار الشخص المناسب للدور الوظيفي الذي سيؤديه.
وعلى ذكر السينما والرياضة معًا، وبما إن الواردة تجلو الشاردة، وفي سبيل تخفيف مستويات التجهم العام، يؤكد الفيلم الكوميدي الرشيق 4-2-4 حقيقة أن وجود الرجل غير المناسب في منصب فوق خبراته وأعلى من قدراته، سيؤدي حتمًا إلى كوارث سوداء.
في الفيلم الذي أدى بطولته الجماعية، نخبة من أشهر “مضحكاتية مصر”، على رأسهم سمير غانم، يرث يونس شلبي فريق كرة قدم عن أبيه، فيستقدم وحيد سيف “جاليليو” لتولي الإدارة الفنية، فيعمد الأخير إلى تكوينه من مجموعة من “المكسَّحين”، مثل نجاح الموجي وأحمد عدوية وفاروق فلوكس ومحمد أبو الحسن.
كان الفريق بالتعبير الشائع لدى مشجعي كرة القدم، “حصّالة الفرق المنافسة”؛ ينزل لاعبوه إلى الملعب، فتُمسح بهم الأرض مسحًا، وعلى الرغم من ذلك كان المدير الفني متشبثًا برؤاه، يصر على ممارسة مهام عمله بالأسلوب الهزلي ذاته، معتقدًا أنه يُحسن صنعًا في حين كان الفريق ينهار بسرعة جلمود صخر حطه السيل من علٍّ، كما يقول شاعرنا امرؤ القيس.
ومن هنا تولّدت المفارقات الكوميدية، في العمل السينمائي الذي لا يُمل.
يقول الدكتور مدبولي ردًا على الانتقادات بشأن اختيار الوزراء “اصبروا عليهم”، ويقول الواقع إن للصبر حدودًا، فالناس تعبت من المدير الفني الذي يصر على تشكيل الفريق، على طريقة وحيد سيف في الفيلم الكوميدي، لكنهم لا يضحكون من فرط ما يكابدونه إثر السياسات، التي تتكرر برتابة وغلظة وإصرار في منتهى الفظاظة.