"ماما زمانها جاية.. جاية بعد شوية.. جايبة لعب وحاجات". قبل 73 عاما، عندما غنى محمد فوزي من كلمات فتحي قورة هذه الأغنية، كانت الأم هي المحورية في الأسرة. تحافظ على الشكل التقليدي لها ودور "بابا" و"ماما".
"ماما جاية" لترعى الأطفال وترى احتياجاتهم بينما "بابا" يعمل -فقط. ظلت هذه الصورة النمطية للأسرة، لأجيال عديدة متعاقبة. يمكن اختصارها في أن دور بابا هو تأمين الدخل "أب مكفي بيته"، وماما تحافظ على استقرار الأسرة -أحيانا على حساب نفسها- لتكون "ست أصيلة".
ذلك التصور جعل من دور الأب في التربية والرعاية، هامشيا.
لكن؛ ماذا تجاهل الأب مقابل تحقيق جانب واحد فقط لأسرته، الإنفاق؟ أو بمعنى آخر؛ ماذا يحدث عندما يتخلى الأب عن الدور الوحيد المنوط به ويصبح دور الأم الإنفاق على البيت بالإضافة إلى المحافظة على استقراره؟
اقرأ أيضا: الأب “مش محفظة وبُع بُع”
بابا جه ؟ لا مجاش
وفقا لإحصاء من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2020، فإن هناك 3.3 ملايين أسرة مصرية من بين 24.7 مليون أسرة تعولها بالكامل امرأة، وهو ما يعني أن هناك 13.4% من الأسر المصرية تعولها الأم.
وقد تكون المرأة المعيلة، متزوجة من زوج مريض أو عاجز عن العمل أو غير متزوجة وليس لها معيل واضطرت للعمل.
في مسلسل "بابا جه" الذي عُرض في رمضان الماضي، يتوقف عمل الأب (هشام) ويصبح عاطلًا لأعوام. لكن؛ لا يجد هذا الأب غضاضة في تحمل زوجته عبء مصروفاته إلى جانب مصاريف الأسرة. إلى هنا لا توجد مشكلة في تبادل الأدوار إن كان بشكل رضائي من الطرفين.
هذا الشكل الرضائي تم تقديمه في أعمال درامية أخرى مثل مسلسل "يا رجال العالم اتحدوا". يتفق الزوجان (إسعاد يونس) و(حسين فهمي) أن تتفرغ الزوجة للعمل كأستاذة جامعية وصحفية، بينما يهتم الزوج بالأعمال المنزلية ورعاية الرضيع.
بينما في مسلسل "النساء قادمون" والذي قامت بدور الأم فيه هالة فاخر، يتمرد الزوج على ذلك النمط من الحياة. فيؤسس جمعية جمع فيها الرجال المضطهدون من زوجاتهم.
وبعيدا عن الإطار الساخر الذي يرسخ لفشل الفكرة بزعم أنها تعارض الفطرة السليمة السوية التي يراها المجتمع؛ إلا أن الفكرة مقبولة -إلى حد ما. إذا كان كلا الطرفين متعاونين ومحققين للتوازن المطلوب لاستقرار الحياة الزوجية.
أما في حالة "بابا جه"، فالأب منسحب من الحياة الأسرية، متمحور حول ذاته، بأداء طفولي وطفيلي. كما يعتمد -بشكل كامل- على زوجته وغير مبالٍ بدوره كأب ومثل أعلى وله تواجد محوري في حياة ابنته.
تتصاعد الأحداث عندما يسطو هشام على حصالة ابنته، فتفاجأ الجميع في حفل مدرسي حيث يتبادل الأطفال مقتنياتهم، برغبتها تبديل أبيها. لأنها ترى أنه "ليس له لازمة".
الأب البديل
يُطلب من هشام أن يكون أبا بديلا لأحد زملاء ابنته، بمقابل مادي، ومن هنا تبدأ فكرة المشروع. "أب بالإيجار" لكل من يحتاج لأب. لكن؛ الفارق هنا أنه يقوم بدور الأب برحابة صدر؛ لأنه دور مدفوع الأجر.
مع كل حلقة يتعلم عن نفسه وعن الأطفال شيء جديد، فتتغير معاملته لابنته. فهناك الطفل الراغب في الاحتواء بـ "حدوتة" قبل النوم ولو قصة ركيكة، مهتما فقط بوجود أب. ثم الأب الظالم لزوجته ومُلق عليها بكل الأعباء المنزلية، رافض للمساعدة إما بنفسه أو إيجاد عمالة منزلية فيستعين بهشام. بديلا عن الاعتراف بأصل المشكلة.
نكتشف مع الوقت أن أزمة هشام الحقيقية هي سوء معاملة أبيه له، فانعكست على شخصيته. ما يعيدنا مرة أخرى إلى أن دور الأب ليس الإنفاق فقط. لكن؛ مشاركة الأم والأطفال اهتماماتهم وأحلامهم وتفاصيلهم بالتواجد والاحتواء.
بينما من المنظور النفسي يساهم الأب في تكوين أسرة سوية نفسيا ويصبح قدوة لأطفال بحاجة إلى نموذج رجولي (male figure). كما يحافظ الأب بدوره على التوازن في الأدوار والواجبات بشكل صحي.
تشير دراسة بمركز الأبحاث النفسية الأسترالي (innate therapies) إلى أن وجود النموذج الأبوي بالأسرة مهم لتحقيق الاتساق في الأفعال والأقوال. حيث يتطلع الأطفال إلى آبائهم للحصول على إرشادات، حول كيفية التعامل مع العالم.
فعندما يظهر الآباء الاتساق بين أقوالهم وأفعالهم، فإنهم يعلمون أطفالهم أهمية النزاهة والصدق.
كذلك التعبير العاطفي، فالآباء الذين يعبرون عن مشاعرهم بشكل علني، سواء إيجابية أو سلبية، يزودون أطفالهم بمثال صحي للذكاء العاطفي. الأمر الذي يساعد الأطفال على تعلم كيفية إدارة مشاعرهم والتعبير عنها بشكل فعال.
بالإضافة إلى مهارات المرونة وحل المشكلات، فالآباء الذين يظهرون المرونة في مواجهة التحديات ويشاركون بنشاط في حل المشكلات، يظهرون لأطفالهم كيفية التعامل مع الصعوبات بموقف إيجابي وتصميم على إيجاد الحلول.
ماما جت
في عام 1972 قدمت فاتن حمامة من بطولتها فيلم "إمبراطورية ميم". رسالة الفيلم الحقيقية ليست فقط الحديث عن الأسرة في المجال الخاص، بل النظر أبعد من ذلك.
لا سيما وأن الفيلم يحمل بعدا سياسيا يجسد الحكم السلطوي آنذاك؛ إلا أن ما يعنينا هنا أنه نموذج للأسر التي تُعيلها المرأة.
قد يبدو غريبا أن الفيلم الأيقوني للاحتفال بعيد الأم على الشاشة الصغيرة، كل عام، تأليف إحسان عبد القدوس. فالقصة الحقيقية تحكي عن رجل أرمل يُربي أبناءه الـ6 الذكور.
بينما الفيلم المعروض على الشاشة وهو من إخراج حسين كمال، بطلته أرملة، في منصب هام في وزارة التربية والتعليم، وأولادها ذكور وإناث، من مختلف الأعمار، بدءًا من شاب يدرس الحقوق إلى طفل في الابتدائية. مات زوجها وهي صغيرة في العمر. ومع مرور الزمن وبلوغ أغلب الأولاد سن المراهقة، تواجه الأم "منى" مرحلة التمرد منهم ومطالبتهم بالحرية التامة التي تجردها من دور الأم -الرقابي- في منظور المجتمع الشرقي.
وفي الوقت نفسه، يتقدم للزواج من منى، صديق قديم؛ لكنها تخشى الزواج منه، قلقًا على أولادها.
ونرى نموذج الابن الأكبر مصطفى، ممثلا لقضايا التحرر الفكري والثورة السلمية والدعوة إلى الديمقراطية. أما مديحة الشابة في نفس العمر تقريبا، أو أصغر لشقيقها مصطفى، كانت تتصرف "بطيش" من وجهة نظر الأم.
بالإضافة إلى الطرح المبكر لمفهوم القضايا الجندرية متجسدا في الصراع بين حرية مديحة وتحكم الأم. كذلك جسد الفيلم احتياجات الأسرة للحب والجنس والتجربة لما هو ممنوع كالتدخين.
يمكن أن نرى الفيلم انعكاسا لشكل الأسرة الحالي مع اختلافات بسيطة، خاصة في شخصية كل ابن من أبناء منى. هذه الرؤية التي لا تزال موجودة حاليا في الأسر المصرية؛ لكن مع فارق أن الزمن تغير وفرض شكلا آخر للظروف الاقتصادية والاجتماعية.
لكن ما كان مميزا هو أنه قدم دور الأم بشكل إيجابي وأنها قادرة على المواكبة مع اختلافات الأبناء، على الرغم من أنه أخضعها في النهاية لاختيار العقل من -وجهة نظرها- ونكرانها للعاطفة فتخلت عن الحب والاحتياج العاطفي تحقيقا لرغبة أبنائها.
اقرأ أيضا: العاملات في المنازل.. مهمشات خارج ترسانة القوانين المصرية