لسبب خفي أسعدني أن يحمل شيكابالا كأس الكونفدرالية، هذا شعور غريب بالنسبة لمشجع أهلاوي منذ نعومة أظافره، في هذه الحالة العدائية غير المسبوقة بين جمهوري القطبين.
لا أكره شيكابالا، مشاعري بشأن الساحرة المستديرة لا تأتيها الكراهية، وإن كنت كثيرًا ما أستقبح انفلات أعصابه، وأهجو خروجه عن الآداب العامة، وأؤثم تطاوله لفظيًا على الجماهير، سواء جماهير ناديه الزمالك أو الأهلي.
النجومية تحقق الثراء، وتجعل صاحبها محط الأنظار، وتغدق عليه حبًا غير مشروط، لكن جمهور الكرة كالبحر تقلبًا، ومثلما يرفعك إلى السماء السابعة، قد يخسف بك الأرض، ومن ثم فإذا أصبحت نجمًا عليك أن تأخذ "العرض كاملًا"، قد تنتشي طربًا حين يهتف الجمهور باسمك، وقد يغص قلبك حين تنهال عليك شتائمهم، وفي الحالتين عليك ضبط أعصابك.
ليس "شيكا" وحده الذي يشتمه جمهور الأهلي، فمن قبله كان جمال عبد الحميد يُجلد سبًا وقذفًا، ومن قبلهما كان المعلم حسن شحاته وغيره كثيرون، وعلى الضفة الأخرى كثيرًا ما شتم جمهور الزمالك الخطيب شخصيًا، أمهر من داعب الساحرة المستديرة في تاريخ مصر، غير أنه بذكائه البالغ كان يكبح جماح غضبه.
اقرأ أيضًا:رفع اسم أبو تريكة من قوائم الإرهاب
بذاءة الجماهير جزء من اللعبة، ليس ذلك تبريرًا، لكنه أمر واقع ليس ممكنًا تجاهله.
المشجع يريد اللعبة الحلوة والفوز معًا، وهذا من حقه، بل أقل من حقه، إنه يضحي بالوقت والمال و"حرقة الأعصاب"، مقابل النشوة المرجوة حين يفوز فريقه، لذلك ليس غريبًا أن يتفجر غضبًا فيطلق الشتائم ردًا على إهدار فريقه الفرص، أو اللعب برعونة ومن دون جدية، وعندئذٍ ليس الرد أن يرفع لاعب الحذاء في وجهه، وليس مقبولًا تحت أي ظروف، أن يسلك لاعب مسالك الفحش، على الهواء مباشرةً، فيلوّح بإشارات خارجة، أو يتفوه بألفاظ نابية.
قلة الأدب لا تبرير لها، بل إن تبرير الفعل القبيح أقبح من الفعل ذاته، ذلك أنه يسوغ الانحطاط الأخلاقي، ويستر السفالة بورقة توت لا تستحقها، ويروج لشرعة البذاءة، وهذه أزمتي مع "شيكا" ومع دراويشه الذين ينصرونه ظالمًا أو مظلومًا، وينصرونه جانيًا أو مجنيًا عليه.
الفتى الطيب الأسمر
غير أني على النقيض من ذلك، وعلى أزمتي تلك، أرى في "شيكا" وجهًا آخر؛ وجه الفتى الأسمر الطيب، الأقرب إلى السذاجة، ذو الضحكة الطفلة، الميَّال إلى الرحمة الإنسانية في المواقف المفصلية، كما حدث إبَّان مجزرة بورسعيد، إذ ظهر على قناة النادي الأهلي ليعزي ذوي الشهداء، بالإضافة إلى تبرعه لهم، وهو الأمر الذي لا يحب الحديث عنه.
هنا يظهر المعدن الأصيل لابن النوبة "الغلبان"، كما ظهر حين هرع إلى مؤمن زكريا "شفاه الله" ليتكئ الأخير على ذراعه في مباراة ما.

الصورة كانت غاية في العفوية والدفء، لغة الجسد لا تكذب، صعبٌ تزويرها.
كالحضن بين عاشقين مشتاقين، كانت لمسة "شيكا" الحنون إلى منافس الأمس، مريض اليوم، وكان مؤمن يستند عليه كعصفور يختبئ من المطر، في جدار منمنم بالنقوش الجمالية، من عمارات "وسط البلد".
طيبة القلب تأسرني، تجعلني أغفر متجاوزًا عن الكثير من الخطايا، لا شيء أسوأ من القسوة، وظني أن "شيكا" أبعد ما يكون عنها، وهكذا فإن شيئًا من وجداني ينحاز إليه، وشيئًا مني يهجوه غاضبًا متى اقترف حماقة كالعادة، وقلبي يتمتم: "عيل أهوج متسرع.. بس لو يمسك نفسه".
وبعيدًا عن شخصه ونوازعه الإنسانية، ثمة سبب آخر للانحياز إليه، إذ يروق لي منه اللاعب "الحريف"، والموهبة سلعة نادرة كأحجار الألماس، لذلك تخطف الأبصار فتستدر الإعجاب.
ليس معقولًا على سبيل المثال أن ينكر مشجع للأهلي موهبة حازم إمام وأشرف قاسم وطارق يحيى وحمادة عبد اللطيف، وليس مقبولًا أن يذهب مشجع للفريق الأبيض إلى أن أبو تريكة وحسام غالي وبركات ووائل جمعة، ليسوا أفذاذًا استثنائيين.
الأصل في اللعبة.. المتعة
إن المتشنجين ليسوا "ذواقة كرة"، تعصبهم يحرمهم من متعة قد يجدها أهلاوي في لاعب زملكاوي، وقد يجدها زملكاوي في أهلاوي، المشجع المتزن يدخل مناطق متعة مغلقة كسجن مشدد الحراسة، في وجه المتعصبين.
كما أن الخصومات الرياضية لا تعني بأي حال نفي الحقيقة، والمؤكد أن "شيكا" واحد من أمهر لاعبي كرة القدم المصريين، ذلك بغض النظر عن تحفظاتي على محاولات تحويله "أسطورة"، ففي تاريخ الزمالك لا الأهلي هناك من هم أعلى منه مهارةً، وأكثر منه إنجازًا.
لكن ما يميز "شيكا" أنه لاعب يستمتع باللعبة، لا يكتفي بالمرور من المدافعين، بل يتعمد أن يكون مروره فنيًا، فيه خفة ورشاقة وذكاء، إذا مرر لمهاجم أهداه الكرة "مقشرة"، يسدد بإتقان من مسافات بعيدة في المقص، يلعب واحدة بالكعب، فتنطلق الحناجر: "الله يا لعيب".
هذه التوليفة تجعل من مشاهدته متعة، والمتعة هي الأصل في كرة القدم، ومن دونها تصبح اللعبة مملة سمجة كالمعادلات الكيمائية، وهذه التوليفة هي ما يروق لذائقة المصريين، الذين يشجعون البرازيليين في المونديال، ربما على سبيل الامتنان لما يقدمه منتخبهم من متعة، بغض النظر عن حيازة الكأس، في حين ينصرفون عن مشاهدة الماكينات الألمانية، نظرًا لأسلوبهم الخالي من الجماليات.
على ذلك فإن تقييم مسيرة "شيكا"، لا يجب أن يبحث في الإحصاءات بشأن عدد البطولات التي رفعها، ولا عدد الأهداف التي سجلها، ولا كم تمريرة مررها فأثمرت هدفًا، بل بما قدمه على مدار تاريخه الطويل من متعة.
اللاعبون الموهوبون فاكهة الكرة، نحن نحبهم كما نحب المطرب حين يتسلطن فنتسلطن معه، ونهز رؤوسنا طربًا.
صحيح أن موهبة "شيكا" أكبر كثيرًا من منجزه، وصحيحٌ أن انفلات أعصابه وفشله في تجربة الاحتراف، خفضّت أسهمه بدرجة فادحة، لكن هذا قدره، وهذا ما يُسِّر له، إنه شخص مزاجي كفنانين كثيرين، يعشق ناديه بجنون، ولا يطيق فراقه، كالسمكة لا تعيش خارج المياه، وهو من قبل ومن بعد، لاعب يحب اللعبة، ليس يهمه أن يحرز هدفًا، لكنه مهتم كل الاهتمام بأن يكون هدفه جميلًا.
مع حمله كأس الكونفدرالية، وهو في الثامنة والثلاثين، يبدو أن هذا أعلى سقف للإنجاز يستطيع "شيكا" تحقيقه، في المستطيل الأخضر، وفي هذه اللحظة الاستثنائية من تاريخه، عليه التفكير بل عليه اتخاذ قرار الاعتزال.
ذات مرة سألت محمود الخطيب، عن سبب اعتزاله وهو في نحو الرابعة والثلاثين، فقال ببساطة: "عندما شعرت أن

عقلي يريد تنفيذ مهارة ما، وقدمي لا تلبيني عرفت أن الوقت آن، كان القرار مؤلمًا لكنها سنة الحياة".
هذه إجابة من يعلم ماهية وظيفته، إنه لاعب موهوب، ينتظر الجمهور منه تقديم البهجة والمتعة، وإذا لم يفعل فلن يكون هو هو.
الخطيب كمثل أعلى للموهبة، أدرك أن عليه أن يكون الخطيب، بكامل مهاراته و"حلوياته"، ولمَّا توجس خيفة من أنه لن يستطيع، ابتعد وهو يحتفظ في أذهان الناس بكينونته.. بدأ الخطيب وانتهى الخطيب.
بكل موضوعية، إن "شيكا" لم يعد قادرًا على العطاء لمدة أطول، لقد قدم ما لديه وفرغت جعبته مما يستدر الدهشة، بخاصة مع حقيقة انخفاض لياقته، وكثرة إصاباته، ومن ثم فإن استمراره في الملاعب لمدة أطول سيكون شرًا عليه، فالجماهير التي تصر على أنه أسطورة قد تسقطه من حساباتها، وعندئذٍ سيتجرع من الألم ما لا يقدر قلبه الطيب على تحمله.

احتفال "شيكا" بالكأس، ودموعه التي انهمرت حين توجه إلى الجماهير، هي خير نهاية لواحد من أمهر الفنانين في تاريخ الساحرة المستديرة، وإن كان اللاعب نظرًا لثقافته المحدودة، وكذلك لما هو معهود عنه من سوء إدارته موهبته، قد لا يجرؤ على هذا القرار، فعلى إدارة الزمالك أن تحثه عليه وتشجعه حرصًا عليه في المقام الأول.
هي سنة الحياة، وقد دقت ساعة اعتزال شيكابالا، وكل لحظة زيادة له في الملعب، ستنتقص منه ولن تضيف إليه.. فليعتزل شيكابالا حرصًا على شيكابالا.