لا تزل أصداء قرارات المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بشأن تعليق الحوار اللاهوتي مع نظيرتها الكاثوليكية – بسبب موقف الأخيرة من قضية المثلية الجنسية- حاضرة في النقاشات الدينية المسيحية، بين المتابعين عبر المنصات الإلكترونية المختلفة، وتطور النقاش لأبعد من ذلك بعد ذكر الاختلافات اللاهوتية بين الكنيستين الآشورية والأرثوذكسية على إثر تداعيات حادث طعن أسقف كنيسة الراعي الصالح الآشورية المستقلة بسيدنى بأستراليا.
وفي بيان لها في مارس الماضي، أعلنت الكنيسة الأرثوذكسية – بعد جلسة عامة للمجمع المقدس بوادي النطرون حضره ١١٠ من أعضاءه البالغ عددهم ١٣٣ عضوًا- تعليق الحوار اللاهوتي مع الكنيسة الكاثوليكية وإعادة تقييم النتائج التي حصدها الحوار بين الكنيستين من بدايته منذ 20 سنة ووضع معايير وآليات جديدة للحوار مستقبلا.
وبالعودة إلى أزمة الحوار المتوقف بين “الأرثوذكسية/ الكاثوليكية” فإن قضية المثلية -محل الخلاف- ليست بالجديدة، فالنقاش حول المثلية الجنسية قديم قدم المسيحية نفسها، فهناك من الآيات الكتابية بخاصة في العهد القديم “التوراة- سفر اللاويين” ما يؤيد وجهة النظر الرافضة بشكل قاطع التسامح مع المثلية بتوصيفها “خطية ورجسًا” ضمن مجموع خطايا تمنع أصحابها من دخول “ملكوت السموات”.
في القرن العشرين، بدأت الكنيسة الكاثوليكية البحث والنقاش حول قضايا المثلية الجنسية والتحديات التي تثيرها في سياق العقيدة الكنسية والتعاليم اللاهوتية، في حين بقيت جهود الأرثوذكسية عن المثلية الجنسية حاضرة على أجندة التعليم لا أكثر.
اقرأ أيضًا:11 عامًا على الكرسي المرقسي.. البابا تواضروس تجنب المعارك وأوقف التغريد
المثلية.. تداعيات توقف الحوار بين الكنيستين
جاء بيان الكنيسة الأرثوذكسية المنشور عبر صفحتها الرسمية، على منصة فيسبوك، صارمًا بشأن رأيها في قضية المثلية الجنسية: “إن من يعاني من ميول مثلية ويضبط نفسه عن السلوكيات الجنسية يُحسب له جهاده، ويتبقى له حروب الفكر والنظر والانجذابات شأنه شأن الغيريين، أما من يسقط بالفعل في سلوكيات جنسية مثلية، فشأنه شأن الغيري الذي يسقط في خطية الزنا، يحتاج إلى توبة حقيقية. وكلاهما يحتاج إلى المتابعة الروحية والنفسية، التي أثبتت فاعليتها مع الميول المثلية غير المرغوبة، أما من اختار أن يتصالح مع ميوله المثلية تاركًا نفسه للممارسات الجنسية المثلية، رافضًا العلاج الروحي والنفسي، واختار بإرادته الحرة كسر وصية الله، يصبح حاله أردأ ممن يحيا في الزنا، لذا يجب أن يُنذَر ويُمنَع من الشركة لحين تقديم توبة”.
ووفق البيان: “ترفض الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ما يسمى بالانحراف الجنسي في مفهومه العام الشامل كل أنواع ممارسة الجنس خارج الإطار المقدس في الزواج. وترفض بشكل قاطع التذرع بفكرة اختلاف الثقافات لتبرير العلاقات المثلية تحت مسميات الحرية المطلقة للإنسان، التي تسبب تدميرًا للإنسانية، فالكنيسة إذ تؤكد على إيمانها الكامل بحقوق الإنسان وحريته، تؤكد أيضًا أن حرية المخلوق ليست مطلقة إلى حد التعدي وكسر شرائع الخالق”.
محطات الحوار اللاهوتي بين الكنيستين
بدأ الحوار بين الكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية بعد 10 مايو 1973، حين وقَّع رئيسا الكنيستين بيانًا مشتركًا وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة، جاء ذلك بعد زيارة الأنبا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الراحل، لكرسي روما خلال الفترة من 4 مايو إلى 10 من الشهر نفسه عام 1973.
تمثلت مهام اللجنة المتفق عليها من الطرفين، في توجيه دراسات مشتركة فى ميادين: التقليد الكنسى، وعلم آباء الكنيسة، الليتورجيات، واللاهوت، والتاريخ، والمشاكل العلمية، بخلاف التعاون لحل الخلافات اللاهوتية التي يمكن تقاربها بين الكنيستين.
وتوقف الحوار من قبل حين كان البابا شنودة تحت التحفظ فى دير الأنبا بيشوى بالبرية من 5 سبتمبر 1981 حتى 5 يناير 1985 بإيعاز من الرئيس أنور السادات، وعاد البابا شنودة إلى مزاولة مهامه بالكامل مع بداية عام 1985، مضت الكنيستين قدمًا لاستئناف الحوار بينهما.
وفي شهر فبراير عام 1988 اجتمعت اللجنة المشتركة للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون بمصر، وافتتح البابا شنوده الثالث هذا الاجتماع بالصلاة، مشتركًا مع المونسنيور جيوفانى مورتينى القاصد الرسولى بمصر ، والأب دوبريه السكرتير بسكرتارية الوحدة المسيحية للفاتيكان، ممثلين عن البابا يوحنا بولس الثاني.
وبعد جلوس البابا تواضروس الثاني على الكرسي المرقسي عام 2012 خلفًا لسابقه الأنبا شنودة الثالث، زار تواضروس للفاتيكان في 10 مايو 2013، وصدر عن هذه الزيارة بيانًا مشتركًا بين البابوين تواضروس وفرنسيس.
واستمر الحوار بين الكنيستين في صورة اجتماعات بين ممثلي الكنيستين إلى أن توقف مؤخرًا.
اقرأ أيضً: التهمة”ازدراء أديان”.. هل يحبس مطران المنوفية “أستاذ جامعي” بسبب الانتقادات
رؤية “فرنسيس” عن المثلية.. تناقض أم إعادة مسار؟
تحمل تصريحات البابا فرنسيس بابا الفاتيكان ما يمكن تسميته “تناقضًا” خفيًا بين السطور، جاء آخرها مطلع فبراير الماضي 2024، حين أعاد الحديث عن مسألة منح البركة للأزواج المثليين، في مقابلة له مع مجلة Credere، وقال: “لن يتشكك أحد إذا أعطيت البركة لرجل أعمال يستغل الناس، ولكن هناك من يتشككون إذا أعطيتها لشخص مثلي الجنس”.
وأعاد “فرنسيس” توضيح وجهة نظره في اللقاء نفسه، مع المجلة الدورية التابعة لمجموعة سان باولو، مكررًا ما سبق وقاله في لقائه مع أعضاء دائرة عقيدة الإيمان التي صاغت الوثيقة الصادرة عن دائرة عقيدة الإيمان، والتي تفتح إمكانية منح بركات بسيطة للأشخاص الذين يعيشون أوضاعًا غير منتظمة، قال: “أنا لا أبارك “زواج المثليين”، أنا أبارك شخصين يحبان بعضهما البعض وأطلب منهما أيضًا أن يصليا من أجلي”.
أما في العام المنصرم 2023، سبق وصرح بأن “الكنيسة الكاثوليكية ستكون منفتحة لمباركة العلاقات خارج إطار الزواج بين المثليين/ات”، وأن “طلبات الحصول على البركة سيتم معاملتها بالمحبة الرعوية”. معتبرًا أنه لا يمكن أن تحل الكنيسة مكان الرب في الحساب”، و”لا يحق لنا أن نصبح قضاة همنا الرفض والإقصاء”.
لكن في التصريحات نفسها لفت بابا الفاتيكان إلى اعتبار العلاقات مثلية الجنس “خطيئة” وفق رؤية الكنيسة التي تفهم أن “الزواج اتحاد حصري ومستقر غير قابل للانفصال بين الرجال والنساء”.
ذكرت تفاصيل أكثر عن مفهوم البركة في وثيقة البركة التي صدرت عن الكنيسة الكاثوليكية في 2023، “وجاء فيها، أنه وفقا “للعقيدة الكاثوليكية الدائمة”، “تُعتبر العلاقات الجنسية شرعية فقط في سياق الزواج بين رجل وامرأة”.
الارتباك الواقع في الرؤية تسبب في جدل داخلي فاتيكاني، فمن جانب الكرادلة المحافظين طلبوا منه توضيحا بشأن القضية ضمن عدد من الطلبات التي تم إرسالها إليه، فجاء رده السابق كجزء من توضيح وجهة نظره عن مستقبل الكنيسة الكاثوليكية.
التخبط نفسه شهدته عدة كنائس كاثوليكية في بلدان مثل ألمانيا وبلجيكا التي سمحت قيادات كنائسهم من مباركة زواج المثليين/ات وبقيت المواقف تعلن على كونها لأصحابها وليست مواقف للكنيسة بشكل عام، وفي فبراير من عام 2023 أيد البابا فرنسيس تصويتًا أجريته شخصيات قيادية في كنيسة إنجلترا حول مقترحات لـ”مباركة زواج المثليين/ات” أو تأييد ما يعرف بـ “صلاة البركة”، والتي تتيح للشركاء من نفس الجنس الذهاب إلى الكنيسة لنوال “البركة” وأداء صلاة التكريس بعد زواجهما مدنيًا.
من الوثيقة: “من الممكن مباركة الأزواج الذين هم في وضع غير منتظم والأزواج من نفس الجنس، بشكل لا يجب أن تحدده السلطات الكنسية طقسيًا، حتى لا يحدث ارتباك مع البركة وسر الزواج. في هذه الحالات، تُمنح نعمة.. وهي استحضار بركة نازلة من الله نفسه على أولئك الذين، مدركين أنهم معوزون وبحاجة إلى مساعدته”.
ماذا عن الحوار إذًا؟
تحدث ماركو الأمين الباحث فى الدراسات القبطية والتاريخية، عن جدوى الحوار بين الكنيستين، واعتبره شكلي فقد هدفه منذ سنوات، بخاصة عقب مقتل الأنبا أبيفانيوس عام 2018، ووفاة الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ في العام نفسه، والذي كان مسؤولًا عن لجنة الحوار اللاهوتي، وممثلًا عن الكنيسة القبطية في كثير من اللقاءات والحوارات اللاهوتية مع كنائس الروم الأرثوذكس، والكنائس البروتستانتية، والكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأنجليكانية.
يوضح الأمين في تصريحات لـ”فكر تاني” أن الحوار لم يعد منذ الوقت المشار إليه أكثر من كونه بروتكولًا رسمي، وحتى الاجتماعات بين رؤساء الكنيستين كانت معدودة ولم تسفر عن أي جديد.
ويرى الأمين أن البابا تواضروس خضع لعدم استمرار الحوار ﻷنه يعلم شكليته في النهاية، وعدم جدواه مقابل تهدئة الرأي العام المسيحي الذي يحركه في كثير من الأحيان وجهة النظر الأكثر تشددًا وراديكالية من خلال صفحات السوشيال ميديا “هي تضحية محسوبة تفاديًا للشوشرة، وظهور المشاكل الكنسية على العلن”، وفق ماركو الأمين.
الوثيقة لا تحمل خلافًا
أما عن جدوى توقف الحوار بالنسبة إلى العلاقات بين الكنيستين، يقول ماركو إن الوثيقة الصادرة عن الكنيسة الكاثوليكية والتي تسببت في توقف الحوار اللاهوتي بشكل رسمي مع نظيرتها الأرثوذكسية، لا تحمل أي معنى للاختلاف بين وجهتي النظر في قضية المثلية، والتي تشكل نقطة محورية بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكية نظرًا لمواجهتها تحديات تتعلق بقبول الدول الأوروبية للمثلية، وتشريع قوانين للمثليين/ات، أما في مصر والشرق الأوسط فلا تواجه الكنيسة الأرثوذكسية هذه المشكلة بنفس القدر، ورغم ذلك تتفق الكنيستان في فكرة البركة والصلاة للجميع مع رفض المثلية نفسها.
ويضيف: “نحن في مصر مجرد رد فعل لما يحدث في الخارج الغربي، ﻷننا في وضع يختلف عن دول تقنن المثلية، وتسمح للمثليين/ات بالخروج في تظاهرات أو فعاليات علنية، أما نحن فلا”.
وتعد منصات التواصل الاجتماعي عاملًا في تحريك الرأي المسيحي، وتغيير قرارات القيادات الكنسية تجاه بعض القضايا، هذا ما أشار إليه الأمين، وقال: “الأصوات العالية تملك القدرة على تجييش الرأي المسيحي وشحنه تجاه بعض القضايا، لاسيما تلك الشائكة أو المتعلقة بالإلحاد – المثلية الجنسية على سبيل المثال، ومن ثم يتم تغير بعض المواقف من قبل القيادة الكنيسة”.
ورغم ذلك، يرى الأمين أن البابا تواضروس يخضع للرأي العام في القضايا التي لا تستحق عناء الاشتباك، أما تلك التي يقنع بجدواها فإنه يتخذ قرارًا باستمراريتها “سرًا أو علنًا” رغم أي اعتراضات عليها، يقول: “هذا ماحدث بالفعل في مواقف مثل السماح للأقباط بحضور إعداد زيت الميرون، رغم اعتراض الكثيرين – وهي أزمة داخلية مسيحية تفاقمت خلال العام الماضي-. أو عند تعامله مع بعض الأساقفة بشكل يختلف عليه آخرون، ففي النهاية ما يراه مناسبًا يقوم به حتى لو كان مخالفًا للرأي الراديكالي السائد”.