يُقال إن فُلانًا يلعب بالبيضة والحجر، لتأكيد أنه مُحتال مُراوغ، وله نصيب وافر من “الحذاقة”، التي تُخفِّفها العامية المحكية، فتقلب الذال دالًا والقاف أَلِفًا، وهو فوق ذلك يستغل تلك الهبة الربانية في مخادعة الناس، للاستيلاء على أموالهم غالبًا، أو بالأحرى لإقناعهم بمنحها إياه طوعًا، مقابل وعود كاذبة، على غرار أصحاب شركات توظيف الأموال، ثمانينيات القرن الماضي، وأسلافهم “المستريحين” ممن نقرأ الآن عن جرائمهم كثيرًا.
ولا أصلٌ تاريخي في التراث الشعبي، لاقتران البيضة والحجر معًا، إذ لا يوجد دليل على ارتباطهما بأية ممارسة قديمة، وأقرب التفسيرات منطقية يذهب إلى أن اللعب بنقيضين؛ البيضة بالغة الهشاشة، سهلة الكسر، والحجر شديد الصلادة والمتانة، يستلزم يقظة استثنائية، وهكذا شاع المثل فإذا بالناس يرددونه، وبالعقول تعي فحواه، ما يجعل البحث عن جذوره، ترفًا فكريًا ليس ذا جدوى.
واللاعبون بالبيضة والحجر، هم “فهلوية” وهذه مفردة ذات أصل فارسي، أو “أونطجية” وهذه تركية، وأولئك جميعًا ليسوا مجرد النصابين التقليديين أو الدجالين الذي يقرؤون الفنجان و”يوشوشون الودع”، فإلى جوارهم ثمة طابور طويل من أصحاب الياقات البيضاء، الذين لا يتورعون عن مخادعة البسطاء، لجني مكتسبات ما، ومنهم صحفيون وعلماء وفنانون وأدباء وفقهاء إلى آخره.
والمعروف أن اللعب بالبيضة والحجر، يدخل في صميم عمل السياسة، إلى درجة أن هناك مقولة رائجة، بأن الخطبة السياسية الناجحة، هي فن جعل الكذب يُطرب المستمعين، وعليه فالسياسي ليس مجرد “فهلوي أونطجي” بل إنه كذّاب على الأرجح، وفي ذلك يُروى أنه قيل لرئيس وزراء بريطانيا الأشهر، وينستون تشرشل: “هذا قبر السياسي الصادق فلان”، فردَّ من فوره، وقد كان مُتقدَّ القريحة: هل دفنتم شخصين معًا في قبر واحد؟
اتفاقية كامب ديفيد كخطاب “تمثيلي”
ومن أشهر الخطب السياسية التي استخدمت فن تسويغ الكذب، أو “تطريب الأكاذيب” خطبة السادات التي أعلن فيها نيته زيارة القدس المحتلة: “إنني مستعد أن أذهب إلى آخر العالم، وستدهش إسرائيل حين تسمعني أقول، إنني مستعد إلى الذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي ذاته”.
كان “بطل الحرب والسلام” يقترف فاحشة نكراء، غير أن أداءه “التمثيلي”، وطريقته في الضغط على مخارج الألفاظ، جعلته يبدو مقدامًا مغوارًا، فإذا بانسحاب مصر من الصف العربي، وتوقيعها اتفاقية كامب ديفيد منفردةً، يغدو مبادرة جريئة، ومناورة سياسية غيَّرت مسارات التاريخ.
اقرأ أيضًا:الحشاشين.. الدراما والتاريخ والفلسفة
وبقدر ما يكون لعب السياسي بالبيضة والحجر من المهارات اللازمة، أو قل من “مسوغات الوظيفة”، وعلى الرغم مما يُشكِّله ذلك من تماهٍ في الميكافيلية، وخرقًا للمبادئ الأخلاقية، فإن الكارثة تصير أفدح حين يتعمد العلماء الدجل، ففي ذلك تخريب للمجتمع، ونخر في أساسات بنائه، وإضعاف لعوامل القوة في نسيجه.
خروج العلماء على الناس بالأراجيف والخزعبلات، يحدو بهم إلى التواكل، ونبذ روح العلم والعمل، لا مواجهة الظروف الموضوعية، عبر الأخذ بالأسباب، فإذا بهم في الجهالة يتخبطون، والجهل كما يقول الكواكبي في “طبائع الاستبداد”، هو ألد أعداء الإنسان، لأنه يشيع في النفوس ثقافة الخوف من التجربة، والنأي عن مواجهة الواقع.
في شرقنا العربي، ولأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية متشابكة، يتعلق الناس بحبال الخرافة الواهية، ويقتفون الخزعبلات، الأمر الذي رصده شاعرنا الراحل نزار قباني، في قصيدته ذائعة الشهرة “خبز وحشيش وقمر”، وفيها يهجو التواكل والبلادة هجاءً مقذعًا: “ببلادي/ بلادُ الأنبياءْ وبلادُ البسطاءْ/ ماضغي التبغِ وتجَّارِ الخدَرْ/ ما الذي يفعله فينا القمرْ؟ فنُضيعُ الكبرياءْ/ ونعيشُ نستجدي السماءْ/ ما الذي عند السماءْ؟ لكسالى ضعفاءْ”.
ومن المفارقات المثيرة، أن المعممين الذين يطلقون اللحى بطول قبضتين، استلوا سيوفهم وشحذوا سكاكينهم لتمزيق الشاعر و”قصيدته الكُفرية” وقت صدورها منتصف الخمسينيات، على الرغم من أنها لم تسأل الناس شيئًا إلا الأخذ بالأسباب، ومن ثم التوكل على رب الأسباب.
في شرق “الملايين الذين يزنون ويُصلَّون، الملايين الذين لا يلتقون بالخبز إلا في الخيال، الذين يركضون من غير نعال” كما يقول الشاعر الكبير، تكتسب الخرافة سطوة، وإذا ما انبرى رافض مناهض لآثارها السلبية، اعتبره الجهلاء كافرًا لا يؤمن “بقبور الأولياء”، وانبرى المنتفعون للذود عن حياض مصالحهم المرتبطة بها، بكل ضراوة.
في دراسته “سيكولوجية الخرافة والتفكير العلمي”، التي شملت 2210 أفراد من طلبة وطالبات المرحلة الثانوية والجامعية، وأيضًا تمهيدي الماجستير، بمحافظتي الإسكندرية وطنطا، يصل الدكتور محمد العيسوي، أستاذ علم النفس بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية، إلى نتائج “مرعبة” بحقٍّ، إذ ارتأى 15% من العينة أن قراءة الفنجان تكشف عن المستقبل، واعتقد 11% أن دخول المرحاض في الظلام، يعرض المرء لأن “يلبسه الأسياد”، وقال 20% إن السحر يعالج الأمراض النفسية.
وغنيٌّ عن البيان أن الدراسة لو كانت أجريت على عينة أدنى تعليمًا، وفي محافظات جنوب مصر المهملة، كانت ستؤدي إلى نتائج أشد “ظلامية”، ففي القرى لا تزال هناك خُزعبَّلات راسخة، منها مثلًا أن الأرواح الشريرة تسكن القطط السوداء، والخرزة الزرقاء تقي من الحسد، ودخول رجل حليق اللحية، على امرأة وضعت للتو حملها، سيُنشِف الحليب في ثدييها.
للخرافة سطوة طاغية في المجتمعات الأقل حظًا من التعليم، ومن ثم يغدو هدمها عسيرًا، ذلك أن الناس يجنحون إلى تعليق سوء أحوالهم، على مشجب الأرواح الشريرة ومس الجن والأعمال السفلية وسوء الطالع، وما نحو ذلك من غيبيات.
المثقف الذي انحرف
هذا الخيط التقطه أيضًا، السيناريست الراحل مصطفى محرم، في فيلمه “البيضة والحجر”، وأدى فيه العبقري الراحل أحمد زكي دور مدرس فلسفة تقوده الظروف، أو قل يدفعه مجتمع الجهل إلى احتراف الشعوذة، فإذا به بعدما كان يغرس في نفوس تلاميذه، قيم الاستغناء عمَّا لا يقدرون على شرائه، يغدو كائنًا استهلاكيًا نهمًا، يُدخن السيجار الكوبي لأنه لا يجد ما هو أغلى منه لحرقه، وبعدما كان يتشدَّق: “ويلٌ للعالم إذا انحرف مثقفوه”، صار هو مثقفًا منحرفًا ومضللًا.
نعم.. الويلُ كلُّ الويل للعالم إذا انحرف مثقفوه، فإلباس الحق بالباطل، والعلم بالخرافة يجد رواجًا كبيرًا لدى السوقة والغوغاء.
أينما تولي وجهك ستجد إزاءك خرافات راسخة مستوطنة، يقف وراءها علماء أو مدعو علم، وستجد فضائيات تفتح لهم الأبواب، وتمنحهم ساعات البث بسخاء، لإحراق بخور التدليس على الهواء مباشرة.
في الأمس القريب، كانت “مسخرة” علاج الإيدز والالتهاب الكبدي الوبائي، على طريقة اللواء عبد العاطي، الذي قال إنه سيُخضع المريض إلى جهاز ما، حتى يتحوّل المرض “جلا جلا” في الدماء إلى بروتين، أو إلى “صباع كفتة” وفق تعبيره السوقي الجهول.
وقتها كان الغوغاء ممن قيل إنهم “المواطنون الشرفاء”، مستعدين للفتك بمن ينادي فيهم، أن احذروا الدجل والدجَّالين، فالخرافة اتشحت بوشاح من الشوفينية الزاعقة، بل إن عبد العاطي ذاته، الذي اكتشفنا فيما بعد أنه ليس طبيبًا ولا يحزنون، ادعى أنه تلقى إغراءات مادية بمليارات الدولارات، وتهديدات بسفك دمائه، ما لم يخرج من مصر ليقدم عصارة جهده العلمي إلى الغرب المتآمر الطمَّاع والإمبريالي، لكنه لم يرتضِ بالجزرة، ولم ترهبه العصا.. وتحيا مصر ثلاث مرات.
كانت مسخرة “العلاج بالكفتة” مثالًا فادحًا ومؤلمًا على سطوة الدجل، في مجتمع جرى تجهيله عمدًا على مدى سنوات طويلة، مع سبق الإصرار، وكانت الوطنية الزاعقة، مجرد ورقة سوليفان لتغليف قطعة حشيش “مضروب”.
ولأن “عبد العاطي كفتة” فكرة، والفكرة لا تموت، فإن الدكتور حسام موافي يبدو أنه يمضي على الدرب ذاته، لكنه لا يبيع كلامه بعد تغليفه بسوليفان الوطنية، وإنما بسوليفان الدين.
في برنامجه “ربي زدني علمًا”، بكل ما يحمله العنوان من إيحاءات إيمانية، يقدم وصفات علاجية لكل داء، يداوي الإمساك المزمن، وآلام المفاصل، وأمراض الدم، والصداع النصفي، وسوء التغذية، ومشكلات الخصوبة والسرطان.. و”الدربندوخ الدربندوخ كنا شباب وبقينا شيوخ”.
إنَّ مثله مثل “المدرس الكشكول” الذي يُدِّرس الجغرافيا مثلًا، فإن تغيّب مدرس اللغة الفرنسية فلا بأس أن يحل محله، وقد يتولى “حصة الألعاب”.. وهذا النمط “بتاع كله”، يحيلنا إلى نموذج حلَّاق الصحة في الزمن الغابر، ولتذهب التخصصات الطبية إلى ستين ألف داهية، في هذا العصر الذي يجنح العلم فيه “تخصص التخصص”.
الخلطة الشعبوية
خلطة شعبوية رائجة، يمتزج فيها العلمي والديني، خلطة لها متحمسون يرفضون حتى طرح الأسئلة، بشأن التجارب المعملية والنتائج السريرية التي أوصلت إليها، فلا تناقش ولا تجادل يا أخ.
وهكذا فإن الأزمة ليست في أن الدكتور موافي “انحنى” ليبوس يد ملياردير يملك الفضائية التي يقدم عبرها برنامجه، وليست في تقبيح فعلته أو استحسانها أو تبريرها، وليست في التعليقات على شبكات التواصل، بأن العلم يبوس يد المال، وليست في أن كريمته ظهرت متبرجة في حفل زفافها، وهو الذي لا يفتأ يكرّر أن الحجاب حماية للمرأة.
كل ذلك شأنه الشخصي، الذي لا يؤثر سلبًا أو إيجابًا على أحد.
الأزمة الحقيقة فيما يمثله خطابه، من ردة جهولة إلى ظلمات الخرافة، وإلى غياهب “الدروشة”، وإلى قعر التجهيل.. الأزمة في الاعتداء الغاشم على العلم والدين على السواء.

جميل