افتراض البراءة

 

يولد الإنسان على فطرة، لكن الفلاسفة الأقدمين أو المعاصرين اختلفوا على مفهوم هذه الفطرة التي جبل عليها الإنسان، إذ يرى البعض أن الانسان فطر على الخير كله، ولا يتمكن الشر من روحه إلا إذا مال للشهوة واكتسب في مواجهة الحياة خبرة ذلك الشر. ويرى البعض الآخر أن الإنسان مطبوع على الشر ولا يكبح جماح الشر في روحه سوى التأديب والإصلاح والتهذيب. إلا أن فريقًا ثالثًا منهم رأى أن الإنسان منذ ولادته وإلى سن معينة لا يعي ماهية الخير أو الشر حتى يعقل أفعاله فيصبح الاختيار بينهما بين كفتي يده.

ومع تطور المجتمعات، ونزعة الإنسان البدائي إلى العيش في مجتمعات كبيرة مستقرة يعيش فيها مسالما ويكون الأسرة والأملاك، ونشأة القانون، وتطور صور الثواب والعقاب أصبح افتراض البراءة في كل إنسان حق يرتبط ارتباطا أصيلا بشخصه، إذ أنه مع استقرار المجتمعات أصبحت الجريمة حدث عارض.

يتكون مبدأ افتراض البراءة على أساس أن الذمة البشرية بريئة بطبعها فلا يشغلها دين، ولا تحمل بأي اتهام إلا إذا كان الادعاء عليها يقوم على دليل قاطع وبات، يتاح للإنسان رده في محكمة محايدة ومستقلة تطبق الإجراءات القانونية السليمة، ولا يقصد منه حماية المذنبين بالطبع، وإنما فرض هذا المبدأ لدرء العقوبة عن أي فرد وجهت إليه اتهامات محاطة بالقرائن والشبهات وليس الجزم والأدلة الدامغة.

ويمتد مبدأ افتراض البراءة في القانون الجنائي لكل شخص سواء كان مشتبه به أو متهم إذ أن الاتهام الجنائي لأي فرد لا ينزع عنه افتراض برائته سواء كان ذلك في مرحلة التحقيق الابتدائي أو أثناء محاكمته أمام القضاء الجنائي أو حتى إذا صدر حكم ابتدائي بإدانته بالجريمة التي اتهم فيها، فلا يدحض افتراض البراءة في الإنسان سوى الدليل الجازم الذي لا يدع مجالا للشك في عقيدة المحكمة، وأن تعبر هذه المحكمة عن عقيدتها بحكم قضائي بات استنفذت طرق الطعن فيه بكافة الوسائل، فيتحول الإنسان من كونه متهم إلى مدان.

اقرأ أيضًا:كيف يصل الديمقراطيون للسلطة؟

احترام الحريات الشخصية

كما يعد مبدأ افتراض البراءة ضمانة هامة للحرية الشخصية للمواطنين – المصونة من قبل الدستور – ضد تعسف السلطة إذ هي أبدت خطأ في افتراض الجرم ضد المتهم، فدون ذلك يصبح الإنسان بلا ملاذ يحميه أو يحفظ له حقوقه وحريته، ويشعر بانتهاك كافة حقوقه الإنسانية الأخرى فيصبح عاجزا عن الدفاع عن نفسه وعن حريته.

وقد توسعت المحكمة الدستورية العليا في بسط مبدأ افتراض البراءة على العديد من المسائل القانونية والتي كان من ضمنها الحكم بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والتي كانت تقضي أن للمحكمة المختصة أن تقضي باتخاذ تدابير من شأنها تقييد حرية الأفراد الذين حُكم عليهم أكثر من مرة من جنايات المخدرات أو حتى قد اتهم أكثر من مرة ولم يثبت عليه هذا الاتهام.

في حقيقة الأمر، أن هذا النص كان مفاده أنه كل من اشتبه فيه ووجه إليه مجرد اتهام في إحدى قضايا المخدرات بأنواعها بداية من تعاطي المخدر وحتى الاتجار فيه، كان يحق للمحكمة أن تتخذ إجراء بتقييد حريته، وقد تمتد مدة هذا الإجراء من عام إلى 10 أعوام كاملة، مما يخالف مبدأ افتراض البراءة في الإنسان بشكل صارخ، بل ويؤسس للإحساس بالظلم والعدوان.

وقد فسرت المحكمة الدستورية العليا أن مبدأ البراءة هو أصل كامن في كل إنسان وأن الاتهام الجنائي لا يزحزح أصل البراءة ولا ينقض محتواه، ورأت المحكمة الدستورية أن اتخاذ أحد هذه التدابير بناء على اتهام متلاحق في شأن شخص معين – ولو كان اتهاما جديا – يعد ارتباطا بخطورة إجرامية افترضها المشرع ووصمه بها، حيث أقام المشرع بذلك صلة مبتسرة بين ماضي هذا المتهم وحاضره حتى ولو لم تنفض وقائع الاتهام تلك إلى جريمة فعلية يمكن محاسبة هذا المتهم عليها.

وقد استنكرت المحكمة الدستورية أيضا رؤية المشرع في وجوب محاسبة الأشخاص بناء على تتابع الاتهام وحده، حيث افترض المشرع من تلقاء نفسه في الأشخاص الذين وجهت إليهم الاتهامات ولم تثبت عليهم الجريمة عودتهم إلى الجريمة ونزوحهم إلى الإجرام.

وقررت المحكمة الدستورية أن مصائر الناس لا يجوز أن تعلق على غير أفعالهم التي يسألون عن حسنها أو قبحها، حيث أن اتهامهم – ولو كان جديا ومتتابعا – لا يعدو أن يكون شبهة قد لا يكون لها من ساق، ولا يجوز بالتالي أن يردهم المشرع افتراضا إلى دائرة الخطورة الاجتماعية، ويلصقها دوما بهم، أيا كان مصير الاتهام الموجه إليهم، بل ولو قضى ببراءتهم، ليكون لغوا وافتئاتا على الحرية الشخصية في جوهر خصائصها.

وبذلك، وتطبيقا على هذا المثال وأمثلة أخرى في القانون، يكون مبدأ افتراض البراءة هو حائط الدفاع الأول عن حرية المواطنين وحقوقهم الدستورية، بل وحماية لهم أيضًا من الوصم الذي يصعب التطهر منه ويؤدي إلى مشكلات اجتماعية عديدة

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة