حرب “الخميني ونتنياهو”.. من ينزع الفتيل؟

ذات يوم من شتاء عام 1961 وقف روح الله بن مصطفى الخميني، وسط مريديه في المدرسة الفيضية بمدينة “قم” الإيرانية خطيبًا، فشرع يتفرَّس وجوه مريديه بعينين حادتين، متأهبًا لإطلاق فتوى أحدثت ثورة شاملة في الفكر الشيعي.

قال الخميني: “لست من المعممين المنشغلين بالتسبيح، ولست قسيسًا أقوم في أيام الآحاد بالطقوس، وأمضي بقية الأيام راهبًا لا تعنيني أمور العباد”.

ولمَّا اشرأبت الأعناق، وامتنعت العيون عن الغمض، مضى الرجل الذي كان في نهاية الخمسينيات، ويتمتع بصحة وافرة، مخاطبًا الشاه محمد رضا بهلوي: “إن عليك احترام الدستور والقانون، وتذكَّر دائمًا أن الشعب لا يموت، فإذا لم تسمع فستعرف من الذي سيموت”.

فور ذلك دوَّى التهليل، وانطلقت الحناجر بالتكبير في حماسة، فإذا بالخُميني يجهر بأعلى إمكانيات حنجرته: “إن التقية حرامٌ، ولا ينبغي على فقهاء الإسلام الركون إليها، بخاصةٍ حين يتعلق الأمر بأصول الدين لا فروعه، إن السكوت في هذه الظروف، تأييد للظالم وبطانته ومساعدة لأعداء الأمة، وعلى العلماء أن يجهروا بكلمة الحق من على المنابر”.

كانت فتوى تحريم التقية، والتي تعني -بتبسيط لا يجافي الواقع- في فكر الشيعة الإثني عشرية الاستخفاء بالأمر، ومكاتمة الكفار والمشركين، لدرء بطشهم واجتناب أذاهم، وقد شكّلت مرتكزًا أساسيًا في منهج الشيعة الإثني عشرية، لزمن طويل، حتى أسقطتها تلك الفتوى، التي صار الخميني يُلقَّب بعدها، في “المملكة الإيرانية” بـ”بت شكن” أي محطَّم الأصنام، حتى إنه صار يستنكف عن مخاطبة الشاه بلقب صاحب الجلالة خلافًا للتقاليد.

ووفقًا لكتاب فهمي هويدي “إيران من الداخل”، شرع الخميني بعدئذٍ يرفع سلاح الفتاوى في وجه الشاه، إذ تقاطعت بين الرجلين السبل، واحتدمت الخصومة، مع مجاهرة المرجع الشيعي الكبير بالعداء لسياساته، وصولًا إلى إصداره كتابه “توضيح المسائل” الذي تضمن فتوى بتحريم إقامة أي علاقات مع إسرائيل، ردًا على إقدام الشاه على ذلك.

اقرأ أيضًا: إيران تضرب إسرائيل.. إعادة ضبط الشرق الأوسط “على وضع خطر”

كان تطبيع العلاقات الإيرانية الإسرائيلية، عام 1961 جزءًا من الفواتير المستحقة على الشاه، للولايات المتحدة التي أعادته إلى عرشه بعد ثورة 1953 وهروبه إلى إيطاليا، الأمر الذي اختلق صدامًا واسعًا بين القصر الملكي والحوزة الشيعية، بخاصة بعد فتوى ثانية للخميني بأن على المسلم واجبًا شرعيًا أن يجاهد بالمال والنفس، حال تعرض أي من بلاد المسلمين لعدوان من قبل “الكفار”.

ولم تقف فتاوى الخميني عند هذا الحد، فالرجل لم يكف لسانه عن الشاه، حتى إنه أفتى بعدم مشروعية أي نظام سياسي يقيم علاقات مع الاحتلال، واستنكر التضييق على حرية التعبير قائلًا: لا أعرف لماذا تحذرنا الأجهزة الأمنية من انتقاد الشاه وإسرائيل؟ هل ترى أن الشاه هو إسرائيل أم تراه صهيونيًا يهوديًا؟

ومرت أيام المملكة الفارسية آنذاك، ما بين ثورة تضطرم في قلوب الشعب، وغضب يعبر عنه “محطم الأوثان”، الذي تعرَّض لمضايقات وصلت حدَّ السجن فالنفي إلى فرنسا، حتى اندفق طوفان الغضب بالثورة الإسلامية عام 1979، فهرب الشاه مجددًا لكن هذه المرة إلى القاهرة، حيث منحه السادات حق اللجوء السياسي، في إطار تسديده بدوره فواتيره لواشنطن، التي رفضت أن تستقبل الملك المخلوع، واستعاضت عن لك بتكليف رجلها الجديد، توفير الملاذ الآمن لرجلها الساقط.

وهكذا.. كانت أفكار الخميني بمثابة الشرارة التي أغلقت صفحة 2500 عام من الحكم الملكي الإيراني، لتؤسس على ركامه “الجمهورية الإسلامية”، وكانت مناهضة إسرائيل ووجوب الجهاد ضد “المحتل الكافر” أساسًا فكريًا في القلب من مرتكزات الجمهورية الناشئة، وعلى صدارة أدوارها الوظيفية التي حددتها لنفسها على مستوى الإقليم.

وعلى هذا الأساس، فلا عجب في أن أصوات الإيرانيين ترتفع منذ 45 عامًا، بعد تأدية صلاة الجمعة، في سماء طهران ومشهد وقم وغيرها من المدن، بهتافات على غرار: الموت لأمريكا والموت لإسرائيل واللعنة على الشيطان الأكبر.

المزاج الشعبي الإيراني إذن يستقبح إسرائيل ويعاديها، فالجماهير تشربوا بهذه العاطفة قبيل الثورة وبعدها، ووفق ذلك لم يكن ممكنًا للجمهورية الإسلامية أن تبتلع إهانة ضرب سفارتها في العاصمة السورية دمشق، واغتيال 16 عسكريًا كبيرًا من الحرس الثوري، منهم القيادي في فيلق القدس، محمد رضا زاهدي، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الفيلق يمثل الذراع الخارجية للحرس.

السكوت كان سيعني الانهيار المعنوي لمشروعية الجمهورية “الخمينية” في الداخل، فضلًا عن “كسر عين” إيران أمام حلفائها وخصومها الإقليميين، بما يقوض طموحها لانتزاع الصدارة إقليميًا، بخاصة مع انكماش مصر وراء حدودها لأسباب متعددة.

المؤكد أن الرد الإيراني كان حتمية وجودية للنظام السياسي والديني في طهران، والمؤكد فوق ذلك أن إسرائيل حين استهدفت السفارة في دمشق، كانت على يقين من ذلك، وبالأحرى كانت تستهدف ذلك.

على مدى عقود حرص الجانبان الإيراني والإسرائيلي على إبقاء عدائهما في مستوى ساخن ودون مرحلة الغليان، فإذا بالمناوشات العسكرية بينهما تتم عبر حلفاء طهران في المنطقة، كما هو الحال في الجنوب اللبناني، وبعد طوفان الأقصى بواسطة جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، واتبعت إيران ما تسميه سياسة “الصبر الاستراتيجي”، التي توصف على نطاق واسع بأنها تحاكي النساج الفارسي، الذي يشك الخيط بالخيط والعقدة بالعقدة، حتى يصنع يدويًا سجادة شيرازية، لكن يبدو أن هذه السياسة قد انتهت إلى غير رجعة.

وغنيٌ عن البيان أنه مثلما كان الرد الإيراني حتميًا ولا مناص منه، فإن الرد الإسرائيلي يمثل حتمية بالنسبة لحكومة الحرب المصغرة في تل أبيب، ذلك بغض النظر عن التداعيات العسكرية المحدودة المباشرة للمُسيَّرات والصواريخ الإيرانية.

رئيس الحكومة الإسرائيلية ينشد الحرب، حتى يتملص من عار فشله في غزة، وعدم تحقيق حرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني، أي نتائج سياسية تُهدئ غضبة قاعدته المتطرفة في الداخل، كما إنه يتعرض لضغوط عنيفة من قبل الكتلة اليمنية في الحكومة، وعلى رأسها وزيراه للأمن القومي بن غفير، وللمالية سموتريتش، وفضلًا عن ذلك فإن إشعال حرب إقليمية، سيؤخر سقوطه من على سدة الحكم، وسيرجئ كذلك مثوله أمام المحكمة للتحقيق في ثلاث جرائم فساد.

مصلحة نتنياهو الذاتية تقوده إذن إلى الحرب.. وحكومته أكثر تطرفًا منه، وابتلاع الصفعة الإيرانية حتى لو كانت محدودة، سيسدل الستار على نظريات الردع العسكري في إسرائيل، التي يتشدق قادتها بقدرتهم على ضرب أي أهداف في المنطقة حال تعرضت لخطر.

على أن الرغبة الإسرائيلية في الحرب، لا تعبر بالضرورة عن مصلحة إسرائيل، فدخول حرب مع جيش نظامي مسلح تسليحًا جيدًا، إلى حد تصديره مسيرات إلى روسيا لدعمها عسكريًا في حرب أوكرانيًا، ومع بلد يبلغ تعداد سكانه نحو 90 مليونًا، وله حلفاء إقليميون يحاصرون إسرائيل جغرافيًا، لا يمكن أن ينفع إسرائيل المتورطة في غزة، والمنشغلة بصواريخ حزب الله.

وعلى مستوى المكاسب والخسائر العربية، فإن تأجج النيران إقليميًا، لن يكون بردًا وسلامًا على الأنظمة السياسية، التي اختارت إما ضعفًا وإما تآمرًا، أن تغدو صفرًا على شمال معادلات إقليمية آخذة في التشكل بسرعة غير مسبوقة، ومن ثم فليس متوقعًا أن تمارس أي من العواصم الفاعلة -مع التحفظ على مفردة فاعلة- ضغطًا من أي نوع على حكومة الحرب المصغرة في تل أبيب.

تبقى الولايات المتحدة وحدها هي كلمة السر، فما من طرف سواها يقدر على نزع الفتيل، ولكن برغم رفض إدارة بايدن الحرب، فإن الرجل يبدو ضعيفًا متهافتًا غير قادر على كبح النزعة “النيرونية” التي يقود نتنياهو المنطقة بها إلى جحيم لن ينتهي.

لدى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 أجرى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان اتصالًا برئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك مناحيم بيغن، فقال له عبارة حاسمة: “لن أستطيع مواجهة الشعب الأمريكي الذي يرى عبر شاشات التلفزيون المحرقة في لبنان، قل لوزير دفاعك أرئيل شارون أن يسحب قواته فورًا”.

كان استعمال ريغان مفردة “المحرقة” تعبيرًا ذا دلالة على أن صدره ضاق بجرائم إسرائيل التي هددت باشتعال الحرب مع الجيش السوري، الذي كان متواجدًا في لبنان، فما كان من تل أبيب إلا أن سحبت قواتها، ونزل الستار على مستقبل بيغن السياسي، فسقط من على قمة هرم السلطة للأبد، ليقضي ما تبقى له من عمر رهين بيته مريضًا بالاكتئاب في طي النسيان.. فهل يكبح بايدن الحرب الخمينية الإسرائيلية التي تُقرع طبولها الآن؟

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة