صراع الفقيه والسياسي.. قراءة في تصريحات مفتي الديار المصرية السابق

 

_الجنة ليست حكرًا على المسلمين وحدهم.

_من الوارد أن يلغي الله النار يوم القيامة.

_يجوز إنقاذ حياة إنسان، بجزء من أعضاء حيوان حتى لو كان خنزيرًا.

_الموت هو انتقال من حياة إلى حياة، وليس كما يظن كثير من الناس بأن الموت عدم.

_الحب ليس فيه حلال وحرام لأنه شعور قلبي لا نملكه، مع ضرورة الحفاظ على العفاف.

_فرق المُجدِد من المُحدِث والُمبدِد، هو أنه يلتزم بقواعد الكتاب والسنة ولا يصدر الفتوى بهواه.

 

عاد الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، لتصدر “الترند” من جديد، بمجموعة من الآراء والفتاوى حول قضايا خلافية، تتعلق بفقه الحياة، وفلسفة الوجود، وحرية الاعتقاد، والثواب والعقاب، والجنة والنار، ونقل الأعضاء، والعلاقات العاطفية.

الآراء التي قالها الشيخ في البرنامج التلفزيوني “نور الدين” من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، أثارت حفيظة البعض، ودعمها آخرون، لم يأت فيها الشيخ الجليل بجديد؛ فما قاله مجرد إعادة تدوير لآراء قالها من قبل في مناسبات مختلفة، وقالها غيره من الفقهاء القدامى والمعاصرين.

إذا كان الأمر كذلك؛ فما سبب كل هذا الجدل والصراع حول آراء الشيخ علي جمعة، ولماذا كل هذا الصخب حول موضوعات خلافية بالأساس، وهل هذا الجدل مرتبط بجوهر الآراء والأفكار، أم مرتبط بشخص الشيخ ذاته وتاريخه والصورة الذهنية المسبقة عنه الشائعة بين قطاع واسع من الجمهور؟، تساؤلات كثيرة نحاول البحث عن إجابات عنها، لا بهدف مسألة شخص الشيخ الذي له كل التقدير والاحترام، ولكنها محاولة لفهم واقعنا المجتمعي وتعقيداته على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي.

اقرأ أيضًا:الحشاشين.. الدراما والتاريخ والفلسفة

لعبة خلط الأوراق

تبدو قصة الشيخ علي جمعة وما صاحبها من تبعات وأصداء صورة مصغرة للواقع في مصر؛ حيث تسود لعبة خلط الأوراق من الجميع ضد الجميع، دون أن يكون هناك حد أدنى من العقلانية والإنصاف يمكن أن يُبنى عليهما حوار أو نقاش حقيقي، لذلك يظل المجتمع يدور في دوائر مفرغة، مجرد حركة في المكان بلا معنى.

لفهم آليات لعبة خلط الأوراق يمكننا تأمل المشهد من خلال ثنائية “الدين والسياسة” وهي عملة ذات وجهين أحدهما نعيم السلطة، والآخر غضب الناس، وقد أخذ الشيخ نصيبه منهما؛ فقد تولى منصب مفتي الديار المصرية في عصر الرئيس الراحل مبارك، واستمر في منصبه لمدة عشر سنوات خلطت فيها كثير من الأوراق لدرجة لم نعد نعرف معها هل يتحدث الشيخ بصوت الفقيه الذي يتحرى العدل والإنصاف أم صوت السياسي المنحاز لفكرة وسلطة بعينها.

لذلك لا تُستقبل تصريحات وآراء الشيخ بمعزل عن مواقفه المسبقة، بل يراها قطاع واسع من الجمهور في إطار الصورة الملتبسة التي رسمها الشيخ لنفسه عبر خلط الديني بالسياسي، ففي برنامج مثل “نور الدين” تقوم فكرته الأساسية على الحوار والأسئلة التي يطرحها مجموعة من الأطفال واليافعين على الشيخ بحرية ودون خوف من مسائلة أو سخرية.

نتيجة لخلط الأوراق بين الشخصي والعام، الديني والسياسي، أُهدرت الكثير من النقاط المضيئة المرتبطة بفكرة وهدف البرنامج الأساسية التي يوضحها الشيخ علي جمعة في مقدمة كل حلقة قائلًا:”نتحاور مع الأبناء والآباء، مع الشباب والشيوخ، نستمع إلى كل التساؤلات التي تشغل بالهم والتي تؤرقهم، بدون خطوط حمراء، ولا وصاية من أحد، حتى نصل معًا إلى نقطة التلاقي”.

واقع جديد

بقدر حرص المسلمين على تأكيد مفهوم وحدة الإسلام كمعتقد وإيمان راسخ في قلوبهم، بقدر ما تتنوع صور الإسلام  منذ بعثة النبي محمد وفقا لطبيعة المجتمع والثقافة والمرحلة الزمنية والنسق السياسي الحاكم، فصورة إسلام المدينة في سنوات الهجرة تختلف عن إسلام مكة بعد الفتح، وإسلام الدولة الأموية يختلف بكل تأكيد عن إسلام الدولة العباسية والفاطمية، صور متعددة لأصل واحد.

نتيجة للجهل والفقر ودعم السلطة المباشر أو غير المباشر للتيارات الدينية في العقود السابقة، سيادة الأفكار السلفية/ الوهابية وتجذر أفكارها بين مختلف الطبقات في مصر، تحولت رحابة وتعددية الإسلام إلى الصوة  النقيض تمامًا، وأصبحت هناك نسخة واحدة فقط من الإسلام وهى النسخة السلفية التي هي في حقيقة الأمر لا تتعدى كونها وجهة نظر فقهية ضمن وجهات نظر كثيرة ومتنوعة، لم يُسمح للناس الاطلاع عليها واختيار الأنسب منها.

وفي ظل تغيرات مجتمعية وثقافية واقتصادية وسياسية كبرى يعيشها العالم والمنطقة العربية تحديدًا في العشر سنوات الماضية، لم تعد الخطابات السلفية القائمة على الفزع والترهيب من جهة، ووعود التمكين وسيادة العالم من جهة أخرى، تحظى بمكانة تذكر بين الأجيال الجديدة، ولكنها تركت أثرًا واضحًا في تصورات المجتمع ككل على الدين بوصفه منطقة محظورة “لا يجوز الاقتراب منها أو التصوير”.

“في عالم منفتح على مختلف الثقافات ليس أمامنا إلا خيار واحد إذا أردنا أنّ نُربي أولادنا على الإيمان، ألا وهو تعزيز الجانب العقلاني والإنساني في تجربتهم الإيمانية، وسلوكهم التديني، في حاجة إلى أن نُدربهم على التفكير الحرّ، وحريّة السؤال، وأن نُعيد النّظر في الأجوبة التقليدية الجاهزة، فالواقع أنّ السؤال الذي لا يعرف خطوطًا حمراء هو الوسيلة للتفكير الإبداعي، فمن أبرز المشكلات التي تُواجهنا أننا نشأنا على تقليد وتلقين وحفظ وخوف وتمايز، نظنّه التربية المثلى” يقول د.عبد الباسط سلامة هيكل، أستاذ علوم اللغة العربية بجامعة الأزهر.

ويضيف في حديثه لمنصة فكر تاني:”في هذا الإطار يُمكننا الإشادة بمستوى الأسئلة التي حملها برنامج نور الدين لفضيلة الشيخ على جمعة هذا العام ٢٠٢٤ إذ اتسمت بجرأة السؤال، ومخاطبة شرائح عمرية واجتماعية جديدة، وتناولت الأسئلة قضايا وأفكار اعتدنا أن نُسكتْ من يُريد أن يقترب منها بالسؤال، وهذا يُثمن ويُقدّر من القائمين على البرنامج وفضيلة الشيخ”.

اقرأ أيضًا:“حمل نعشها لم يكن وصيتها”.. الأنبا مكاريوس يكشف كواليس جنارة “فوزية يونان”

سلفية المجتمع

رغم تكرار الدعاوى السياسية خلال السنوات الماضية وإلحاحها على قضية تجديد الخطاب الديني، إلا أن ردود الفعل على برنامج الشيخ علي جمعة تكشف مدى تجذر الأفكار السلفية، ولكي نكون أكثر دقة فإنها تكشف مدى شيوع الجهل والجهالة كنهج مجتمعي شائع في كافة الطبقات والمجالات، فالأمر غير مقتصر على الدين؛ فلا يمكن لسلطة تعتبر دراسات الجدوى من الأمور المعطلة لبرنامجها السياسي والاقتصادي أن تنتظر من المجتمع أن يحتكم إلى العقل والمنطق في أموره الدينية.

هذا التناقض الجوهري في بنية السلطة بين ما تدعيه من حرية وما تمارسه من تقييد، يجعل قطاعًا كبيرًا من الجمهور متشككًا في خطابات رجال الدين المحسوبين على هذه السلطة والداعمين لها ومن أبرزهم الشيخ على جمعة مسؤول اللجنة الدينية بمجلس النواب المصري، لذلك فكل خطوة جادة لتجديد الخطاب الديني، تحتاج أن تبدأ بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي هذه الحالة سوف تتراجع حدة سلفية المجتمع التي تبدو كرد فعل عقابي ضد سياسات السلطة بالأساس أكثر من كونها تعبير عن موقف ديني راسخ.

يشير الدكتور عبد الباسط سلامة هيكل إلى أنه بقدر ما في الأسئلة والإجابات التي عرضت في برنامج “نور الدين” من صدق وجرأة في التفكير والاستدلال، إلا أنه في الوقت نفسه يُؤخذ على طرح الشيخ على جمعة عدة أمور:

_فضيلة الشيخ تعامل مع الأطفال والمتلقين وكأنهم مُريدوه ومحبّوه من أبناء طريقته الصوفية، يكفيهم أن يقول القول فيسمعوا ويطيعوا.. وهذا غير مناسب مع مُتلقٍ مفكر باحث مطّلع على خطابات مختلفة..

_بعض الإجابات جاءت مختصرة مما أثار جدلًا كبيرًا، فلم تقدّم تأصيلا أو تفصيلا يجعل المتلقي يقتنع بالإجابة، على سبيل المثال: إجابة فضيلة الشيخ بأنّ المسلم والمسيحي وغيرهما في الجنة، وأن الجنة ليست خاصة بأتباع النبي، محمد صلى الله عليه وسلم، واستدلاله بآية “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”. وإن كانت الفكرة مهمة، والمجتمع في حاجة إلى هذا القدر من التسامح، إلا أن هذا الاستدلال غير كافٍ تماما.

_القضايا والأفكار التي جاءت في الأسئلة معقدة ومركّبة وجدلية فأي محاولة للإجابة بكلمة واحدة يضرّ..فالإجابات تحتاج إلى وقت أطول وتفصيلات كثيرة.. على سبيل المثال: قضية مثل الاختلاط من المهم أن نشتبك معها ونواجه الحالة السلفية المسيطرة على العقل المصري لكن تحتاج إلى تفصيلات تُقنع واستشهادات كثيرة.

يستطرد د.عبد الباسط في شرحه موضحًا أن سؤال مثل: لماذا هناك الله للمسلمين والله للمسيحيين؟، الإجابة عنه تحتاج إلى مستوى من العمق، فمثلًا في حاجة إلى أن نُؤسس أن اللغة التي تواصل بها الله مع الأنبياء هي لغة الإنسان حتى يفهم مراد الله، واللغة نبدأ فهم مضمونها من داخل العقل/الفكر الإنساني، الذي لا يُدرِك إلا عبر تصوّرات وتقييدات؛ لذا تتعدد وتتنوع التصورات؛ ليس لأنه الله في ذاته تعدد، وإنما لأنّ الإنسان المتلقي متعدد متنوع في تصوّراته واجتماعه وثقافته ولغته؛ بهذا نُؤسس معرفيا لقبول التجارب الإيمانية والمذاهب المتعددة داخل الدين الواحد، ونحترم تعدد الأديان الذي هو من لوازم تنوع وتعدد الاجتماع الإنساني.

ويكمل أستاذ اللغة العربية بجامعة الأزهر حديثه مشيرًا إلى أن سؤال مثل: هل الحسد ممكن يقتل؟ اكتفى فضيلة الشيخ على جمعة بقوله: لا. رغم أن إجابته صحيحة يُصدقها العقل والواقع إلا أنه لم يقدم التفصيل الكافي مما أثار سخط واستياء فكلامه يُناقض ما رُوي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من أن العين/الحسد تُدخل الرجل القبر. أي تكون سببا في الوفاة.

كان الأمر يحتاج من الشيخ أن يُفكر مع الأولاد عبر السؤال وبمزيد من التفصيل، فالحسد بمعنى مشاعر وعاطفة تمني زوال نعمة الغير، وتمني الشر لهم، له وجود وكلّ البشر عُرضة للإصابة بهذه المشاعر السلبية.  وأن الحسد يقتل فقط عندما يتحول من عاطفة إلى سلوك تدبير شرير لإلحاق الأذى بالمحسود، فهذا حسد تعدى المشاعر إلى سلوك ومؤامرة،  وعلى قدر إحكام المؤامرة يكون الأذى.

ويختتم هيكل حديثه قائلًا:”الهجوم الشديد على الشيخ على جمعة لدرجة تكفيره وتفسيقه ليس بعيدا عن الجماعات والحالة السلفية التي يعيشها العقل الجمعي متعصبا لخطاب منكرا ما عداه من الخطابات الدينية، وهنا كان الشارع المصري في حاجة إلى أن يسمع صوت المؤسسة الرسمية، كانت فرصة أن يُواجه الأزهر التعصب، وأن يُذكر بخطورته، فالتعصب كان سببا في محاولة اغتيال سابقة للشيخ على جمعة في المسجد، كان أولى بالأزهر أن يدعم الشيخ على جمعة حقه في الاختلاف بوصفه أحد أعضاء هيئة كبار العلماء، ومفتي مصر السابق. ما حدث كان فرصة للجميع أن يُوكدوا أنه ليس هناك متحدث حصري باسم الإسلام، فكل منا يُحاول أن يفهم، نُصيب ونُخطئ، المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم”.

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة