ناقشت الدراما المصرية هذا العام عددا كبيرا من القضايا الجدلية التي أثيرت خلال الأعوام القليلة الماضية، وخاصة القضايا التي تخص المرأة وحقوقها وأنواع العنف المختلفة التي تتعرض لها داخل مجتمعنا، والمعاناة التي تواجهها خلال حياتها اليومية، مثل تناول قضية فتيات التيك توك ونمط حياة “البلوجرز” و”الإنفلونسرز” وتقاطعهم مع ما تسمى بقيم الأسرة المصرية، وأيضًا قضية الأم البديلة والأعمال الرعائية للمرأة، وكذلك العنف المنزلي والتفرقة بين البنت والولد في المعاملة، وقضية العنف والابتزاز الإلكتروني.
إلا أن مسلسل “أشغال شقة” سلط الضوء على واحدة من المشكلات التي لا يخلو منها أي بيت في مصر، ولا يمكن لأي سلطة في الدولة أن تتدخل في حل هذه المشكلة.. كارثة الحماة المتسلطة.
الست اللي في الصورة
تفصيلة صغيرة الحجم كبيرة المعنى هي صورة “درية- الفنانة شيرين” مع ابنها “حمدي” في الكوشة، التي بمجرد ظهورها في المسلسل انتشرت بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن الشيء اللافت للنظر هو “الكابشن” الذي كان يُكتب فوقه؛ “دي أنا في فرح ابني”.. “دي حماتي مع جوزي”.. “دي أختي مع عيالها”.. “دي فلانة مع ابنها بالظبط”، هذه بعض نماذج العبارات التي كتبت مع الصورة، على أرض الواقع وبعيدًا عن الكوميديا نرى أن هذا النموذج موجود حقًا وموجود بكثرة وليس كحالات فردية أو مقتصرة على فئة معينة في المجتمع.
“درية” التي اشتهرت باسم “الست اللي في الصورة” هي نموذج الأم التي قررت بعد وفاة زوجها أن تضحي من أجل ابنها الوحيد، وأن تفني حياتها نظير رعايته وتربيته والتفرغ له هو فقط على حساب نفسها، وهو النمط الذي يرى به المجتمع “الأم المثالية” كما يقول الكتاب الذي ألّفه المجتمع أيضًا.
هذه الأم التي ترفض أن يكون لها حياتها الخاصة وتولي كامل اهتمامها وكل طاقتها لتربية ابنها، يتحول ابنها بالنسبة إليها إلى محور الحياة وأساس الوجود، هو حياتها الحالية والمستقبلية، لذلك من الطبيعي أن تعامل أي امرأة أخرى تدخل حياة ابنها كـ”ضرتها” وليست كزوجة ابنها.
اقرأ أيضًا: في عيدها..إعادة النظر في الأمومة كاختيار أخلاقي
أنا الملكة في “بيتك”
ناقش المسلسل هذه الفكرة بشكل واقعي إلى درجة كبيرة، حيث شاهدنا تحكم الأم في كل صغيرة وكبيرة في حياة ابنها، بدءً من اختيار الأثاث على ذوقها الخاص ووضع صورها الشخصية على حوائط المنزل، واختيار أسماء الأبناء عند ولادتهم، والتدخل في أسلوب حياتهم واختيار الأنسب والأصح لهم من وجهة نظرها هي، كأن تفرض على الزوجة ترك العمل والبقاء في المنزل، أو أن ترفض بشكل قاطع أن تتشارك الزوجة أعباء رعاية الأطفال مع عاملة، والتدخل في الأكل والشرب، وفي أوجه الإنفاق، وحتى التعليق على طريقة الكلام ومجال الحديث النقاشات، وكأن لها كل الحق أن تستبدل حياتهما بحياتها، وتكون نموذج محكم ومثالي للأم المتحكمة والحماة المتسلطة.
فكرة “انتي مين عشان تاخدي ابني مني؟!”.. و”أنا عنده رقم واحد”.. التي تظهر من الأمهات في العديد من الرسائل الموجهة بشكل مباشر أو غير مباشر إن دلت على شيء فهي أكبر دليل على أنانية هذه الأم، واستحقاقيتها لابنها بشكل مادي، وكأنه شيء تمتلكه هي، كيف لا وقد نذرت عمرها له وفي سبيله ونسيت نفسها وتنازلت عن احتياجاتها “علشانه”، “فمن أنتِ لتأخذينه منّي على الجاهز؟”، و”أنت يا من ضيعت زهرة شبابي عليك هتزعل أمك علشان خاطرها؟”.
هنا تنسى الأم دورها الذي من المفترض أن يقل تدريجيًا مع تقدم ابنها في العمر واعتماده على نفسه ليكون له -كأي شخص آخر- فكره وحياته واختياراته الخاصة وتتذكر نفسها فقط، وأكرر أن هذه أنانية مفرطة قدر أنانية الأشخاص الذين يقررون الإنجاب “علشان لما نكبر ونعجز يخدمونا”، مبدأ لا يرى أبدًا أن هذا المولود إنسان له عقل وشخصية وكيان مستقل، قد تنهار حياته وكيانه بسبب هذه التحكمات غير المنصفة.
اقرأ أيضًا: ثم يأتي رجل ما ويقول “ما هي إنجازات المرأة”؟
بِرّ والدين أَم “ابن أمه”؟
الأغلب دائمًا في الحالات السابق ذكرها أن الرجل “الابن” ينشأ كشخصية مهزوزة وضعيفة مع الأم المتحكمة، فتكون أمه هي نقطة ضعفه ولا يستطيع إغضابها أو تكسير كلامها، وهنا لا يستطيع التفرقة بين طاعة الأم “كبرّ للوالدين” وبين الانقياد الأعمى لها وتركها تمسك مقاليد الأمور، لترسم ليس حياته وحده بل حياة زوجتة أيضًا.
هذه الزوجة قد تخسر أو تتنازل مكرهة عن كافة حقوقها مقابل أن تحافظ على بيتها، الزوجة التي تواجه أمام كل انتهاك أو تعدي يقع عليها من حماتها كلمة “دي أمي، انتي عايزاني أتخانق مع أمي؟، أزعل أمي علشان أرضيكي؟”، مهما حاولت أن تكون مطيعة أو “تعدي الموقف” ستظل في نظر حماتها “ماتعجبش” و”مجرد ضيفة فازت بالمحروس ابني”، ونرى كما رأينا كيف تتنمر الحماة على شكلها ووزنها وأي كلمة تقولها، وتكون جميع ممتلكات ومتعلقات الزوجة الشخصية مستباحة للحماة “وأحيانًا لأخوات الزوج أيضًا”، بل حتى أنها رفضت أن تكون شقة الزوجية باسم ولدها حتى لا تستحوذ زوجته عليها عند الطلاق باعتبارها حاضنة.
وإن كان المسلسل قد بين نموذجًا جيًدا من زوجين بينهما رابط من المودة والحب والتفاهم والانسجام الذي يجعلهما يحاولان التعامل بمرونة “علشان المركب تمشي ومحدش يزعل”، إلا أن هذا لا يمكن أن يقارن بما يحدث على أرض الواقع، فالحقيقة أن النسبة العظمى من حالات الطلاق والعنف الزوجي تحدث بسبب المشكلات الضخمة والضغط النفسي والانتهاكات والتحكمات التي يسببها الأهل بين الزوجين، ونقلًا عن جهاز التعبئة والإحصاء، فإن عدد حالات الطلاق في مصر سجلت 254,777 حالة على مستوى الجمهورية عام 2021، وزادت في العام التالي بنسبة 14.7% لتصبح 269.8 ألف حالة.
وهنا نرى أن هذه (الأم- الحماة) لم تظلم فقط ابنها بأن تجعله صاحب شخصية مهزوزة وهشه لا يستطيع الاعتماد على نفسه، بل ظلمت أيضًا فتاة مسكينة تعب أبواها في تربيتها، ولا ذنب لها غير أنها اختارت أن تتزوج من المحروس حبيب ماما.
كوميديا واقعية سوداء
المسلسل المكون من 15 حلقة نجح بشكل ملحوظ في أن يجد له مكانًا ضمن المراكز الأولى كأعلى نسبة مشاهدة لهذا الموسم، فالنَصّ الذي ألفه الأخوان خالد وشيرين دياب وأخرجه خالد، ناقش بشكل لذيذ ومضحك وحقيقي مجموعة من المشكلات التي تواجهها الغالبية العظمى من المتزوجين بنسب مختلفة.
وفي اعتقادي الشخصي أرى نجاح هذا العمل في الوصول إلى أعلى نسبة مشاهدة عن “جنرة” الكوميدي لهذا الموسم، لم تأت فقط بسبب الحوار الذكي الكوميدي اللطيف، أو بسبب الكيميا الموجودة بين طاقم العمل، قدر ذكاء المخرج وأخته في الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة التي لا يخلو منها أي منزل مصري، لقد تجمع الناس حول الشاشة لمشاهدة أنفسهم وتفاصيل حياتهم الشخصية وليس فقط حياة “حمدي وياسمين”.
