هل مررت بتجربة تربية حيوان أليف في منزلك من قبل؟ هل استجبت لرغبتها الملحة في التزاوج؟ هل شاهدت معجزة الخلق في منزلك عندما انتفخ بطنها وبدأت أثداؤها في الانتفاخ استعدادًا لتغذية أولادها القادمين للحياة قريبًا؟ هل شاهدت خروجهم الأول للحياة بجفون مثقلة ومغمضة محاولين الصراخ بأنين ضعيف لا أعلم إن كان صراخهم فرح بالحياة أم لعنًا لها ولألم الانفصال الأول!
أنت الآن شاهد ليس فقط على فعل الولادة لكن على فعل الحياة ولغزها وسؤالها الفلسفي الأكبر..
اقرأ أيضًا: ثم يأتي رجل ما ويقول “ما هي إنجازات المرأة؟!”
يعني إيه أمومة؟
سؤال بديهي أليس كذلك؟! دعنا نبحث له عن إجابة مكتوبة
يبدأ الأمر بأن يتمزق جسدك ليخرج منه كائن حي تلتزم بتقديم الرعاية والحب (غير المشروط) له حتى تنتهي حياتك، بل وستبقى مهموما بكيف ستكون حياته بعد حياتك.
الحقيقة أن السطر السابق جانبه الصواب قليلًا، فرحلة الأمومة لا تبدأ بخروج الجنين من داخل الجسد، بل منذ لحظة استعداد الجسد لاستقباله..
أتدري شيئًا؟ لقد أخطأت مرة أخرى، إن الرحلة تبدأ من لحظة اختيار الشريك المناسب لصناعة هذا الجنين، فلا مجال للخطأ هنا، لأن الاختيار الخاطئ يعني أنك ستصبح مُلامًا مدى الحياة.
ربما تبدأ الأمومة منذ لحظة البلوغ عندما يعلن جسدك عن جهازيته ويبدأ استعداداته ب roller coaster هرموني من المشاعر والتغيرات الجسدية يليه طقس احتفالي دموي مهيب ينبهك لخطورة ما تؤهلك له الأيام
هل يعني هذا أن كل من تجهزت بيولوجيًا مؤهلة للأمومة؟ بالطبع لا.
فلسفة الأمومة
الإنجاب ضرورة لاستمرار الوجود الإنساني، لكن الأمومة لا علاقة لها بالإنجاب كفكرة بيولوجية في الكائن الحي، بل مفهوم فلسفي اجتماعي بشري الصنع. القطط مثلًا، تنجب بالمعنى الاستمراري البيولوجي، لكنها تتخلى بسهولة عن وليدها إن كان لا يستطيع المنافسة للبقاء على قيد الحياة، ومن هنا يمكننا اكتشاف الخلط الثقافي بين الإنجاب كشيء طبيعي لاستمرار الوجود، وبين الأمومة كمفهوم فلسفي تم ترسيخه اجتماعيًا.
يشير الكاتب " علي الأعرج" في إحدى مقالاته إلى أنه يجب التمييز بين الاستمرار بيولوجيًا كفلسفة إنجابية وبين الأمومة كمعنى ثقافي، وأن مفهوم الأمومة قد يكون اختراعا أنثويًا في الأساس حيث يقول "من الصحيح أن المرأة في صراعها التاريخي الثقافي والاقتصادي والاجتماعي مع الطبقة الذكرية الجنسية التلقيحية، أنتجت مفاهيم خاصة بها كمفهوم "الحب والأمومة"، فالحب منجز فلسفي أنثوي بحت لتحقيق عدالة اجتماعية تضاهي الذكورية القائمة، كون الإنجاب مسألة اقتصادية بحتة تاريخيًا، والأمومة منجز اختياري لتحقيق الانتقائية التناسلية، لكنها مفاهيم استطاع الذكر توليفها بما يخدم مصالحه التاريخية الثقافية والاقتصادية، واكتفت المرأة بهذين المنجزين كنوع من جدار حماية لنفسها وتاريخها ومستقبلها من ضربات التسلط الذكوري. رغم ذلك، فإن جدار مفهومي "الحب والأمومة" لم يصمد كثيرًا، بل على العكس، تمت إضافتهما إلى لائحة ملحقات الاستعداد السلطوي الأبوي على الأنثوية كدرجة ثانية، وعلي المجتمعات كدرجة أولى".
اقرأ أيضًا: قمعوا ضحكة الصغيرات وكأنها “خطية”.. فتركت خدمتي في الكنيسة
أنتِ امرأة إذاً أنتِ أم أو مشروع أم
Guayasamin´s Mother and Child - ECUADOR
يوجهك المجتمع والمتن العام إلى أن الأمومة ليست اختيارًا ولا موضع تفكير، فهو الدور الأساسي – إن لم يكن الوحيد- الذي تؤهلك له الطبيعة أولًا ثم المجتمع تاليًا للعبه في الحياة.
ذكرتني افتتاحية مقال قرأته للمبدعة "إيمان مرسال" تتحدث فيه عن الأمومة بقصيدة للكاتبة البولندية آنا سوير ”تتحدث فيها إلى طفلتها الوليدة:
أقول: "أنت لن تهزميني
لن أكون بيضة لتشرخيها
في هرولتك نحو العالم
جسر مشاه تعبرينه
في الطريق إلى حياتك
أنا سأدافع عن نفسي"
فهل الحفاظ على هويتي المستقلة صعب إلى هذا الحد عند اختيار الأمومة؟ صعب إلى الدرجة التي تجعل الأم في صراع نفسي مرير بين ذاتها وبين ابنتها؟
الأمومة إذًا ليست فطرة إنسانية محمية من الصراعات والتوترات بمشاعر متدفقة من الحب غير المشروط، بل صورة مثالية خيالية تجعل الأم ملاكًا يترفع عن أي رغبات أو مشاعر للنجاح في المهمة الأسمى، ومع الوقت تصبح الأمومة هوية المرأة الأساسية أو الوحيدة وتطغى على طبقات هويتها الأخرى، ومحاولات التوازن يتبعها في الغالب إحساس رهيب بالذنب والتقصير تحاصر نفسها به قبل أن يحاصرها من حولها.
ماذا لو كان الإنجاب غير مطروح إجباريًا على طاولة الاختيار؟
وما أعنيه هنا هو عدم قابلية وجهازية جسدي للإنجاب لأسباب بيولوجية بحتة وليس كاختيار شخصي، هل يمكن تخيل ما تتحمله المرأة من وصم مجتمعي لذنب لا يد لها فيه؟ كمْ سيتضاعف داخلها إحساس الدونية مقارنة بغيرها من النساء؟ فهي لن تتمكن من تحقيق الوظيفة الوحيدة التي يجمع الجميع عليها في حياتها..ماذا إن كانت تحلم باللحظة التي يدق صغيرها على بطنها معلنًا رغبته في الخروج؟ أي معاناة تعانيها هذه المرأة وهي تتعرض لخسارة الشريك بالطلاق أو الزهد فيها أوالبحث عن غيرها وتركها مع احساسها بالنقص ووحدة طويلة تنهشها ؟!
لا أملك إجابة ولا أملك حلولًا.. كل ما أملكه هنا هو التعاطف.
ماذا لو كان الإنجاب غير مطروح اختياريًا على طاولة الاختيار؟
"الفلسفة اللا إنجابية"
أول من طرح فلسفة اللا إنجابية كضرورة إنسانية وأخلاقية هو الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، الذي قال " "لأن رجلاً ما استمتع بلذة الإنجاب، فإن آخر (طفله) يجد نفسه مضطراً إلى أن يعيش وأن يتألم، وأن يموت في نهاية المطاف، كيف لا يستطيعان أن يكونا شيئاً واحداً! ".
أسباب الفلسفة اللا انجابية متنوعة، فهناك أسباب مادية مباشرة كالحروب مثلًا، فمن الذي قد يرغب يومًا أن يخرج ولده مهشمًا من تحت الركام كما هو الحال الآن في غزة، أو أن يراه وقد أسقط العلاج الكيماوي شعره وأنحل جسمه ويبقى منتظرًا موته المحتم، أو أن يراه مشوه الجثة في انفجار!
أيضًا الوضع الاقتصادي، ففي ظل الفقر وعدم كفاية الموارد الطبيعية، من يمكنه أن يرغب في الإنجاب؟ تقول التقديرات أن المواليد في قارة إفريقيا إذا استمروا بنفس الوتيرة الحالية في الزيادة سيقترب عدد سكانها من ملياري إنسان عام 2050، إلا أن القارة السمراء لن تنتج من الطعام في عام 2025 ما يزيد عن حاجة 25 % من عدد سكانها.
يحتجّ على ذلك " ديفيد بينتار" - رئيس قسم الفلسفة بجامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا- فبرأيه أن الإنجاب في ذاته قرار لا واع ويراه نتيجة تابعة لممارسة الجنس، لذلك فإنه من العبث أن نأتي بأفراد جدد لهذا الوجود، وإن أخذ بعض الأشخاص هذا القرار بشكل واع، فإنهم يفعلون ذلك لأسباب ليس من ضمنها مصلحة الطفل نفسه، وأن إنجابه سيكون شيئا جيدًا بالنسبة للشخص لا بالنسبة للطفل، وعليه فإنه يرى أن الإنجاب منحصر في مصلحة أبوية أنانية لا مصلحته هو-الطفل-، وبالتبعية فإن الندم على عدم الإنجاب ليس ندمًا لمصلحة الإبن بل لعدم تحقق مصلحة الأبوين.
هل في الفترة القادمة سيدفعنا بؤس العالم إلى الدعوة إلى الانقراض الطوعي للبشرية؟!!
ختامًا، أيتها الأم العزيزة، أرجو أن لا يتسبب أي طرح تم ذكره في إرباككِ يوم عيدكِ.. فالهدف من هذا المقال مشاركتكِ آمالكِ وأحلامكِ ومخاوفكِ وآلامكِ، ومحاولة تسليط الضوء على عظيم دوركِ الذي تحول مع الوقت إلى حق مكتسب وفرض مجتمعي.
يحضرني الآن إعلان اشتهر بمقولة "الأمومة مش سهلة ..بس مستاهلة" فأبتسم... كل عام وأنت بخير ..وقدها.