الطريق إلى المنصة..

 

خاضت المرأة المصرية معركة حقيقية حتى وصولها إلى منصة القضاء، معركة عبر العقود الماضية تكلل لها النجاح أخيرا بعد صدور قرار من رئيس الجمهورية عام 2021 بتعيين النساء في مناصب الهيئات القضائية المختلفة.

بدءت المعركة في 1949 حين ذهبت الطالبة المتخرجة حديثا عائشة راتب بأوراق تعيينها إلى عبد الرزاق السنهورى باشا رئيس مجلس الدولة، رفض طلب تعيين عائشة لأنه لم يكن من المعقول أو المتصور حينها أن يرى المجتمع امرأة تجلس على المنصة لتقضي في مصالح الناس، إلا أن عائشة لم تستلم، وبروح مثابرة أودعت عائشة طعن على قرار رفضها في مجلس الدولة أمام محكمة القضاء الإداري، وقضت المحكمة التي عقدت برئاسة السنهوري باشا في 1952 برفض الدعوى.

جاءت حيثيات الحكم الذي أصدره السنهوري باشا بأنه تمت مراعاة ما تكتنفه الوظيفة من أحوال وملابسات وظروف بيئية، وما جرت عليه الأعراف والتقاليد، وهو رأي لم يكن للسنهوري باشا عرضه أمام أصدقائه في فرنسا! لم يكدر هذا الحكم عائشة، أصبحت بعد ذلك ثاني وزيرة تعين في الحكومة المصرية وأول سفيرة لها في الخارج.

يمر نيف من الزمان، تتغير الأحوال والتقاليد والأعراف في مصر الحديثة بعد قيام حركة الضباط الأحرار، وصدور الميثاق الوطني المصري عام 1962 الذي كفل في طيات نصوصه المساواة بين الجنسين في كافة الحقوق والواجبات، فتجرأت امرأة أخرى في الدق على الجراح ثانية، تسلمت الراية كريمة على حسين محامية مصرية ضمن أوائل الفتيات اللاتي تخرجن من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، طالبت الرئيس جمال عبد الناصر بالحق الذي نص عليه في قانون السلطة القضائية بتعيين نسبة من رجال القضاء من المحامين، وبوصفها إحدى هؤلاء المحامين، خرجت كريمة لتطالب بحقها في التعيين هي أيضا على منصة القضاء.

إلا أن الوقت لم يكن في صالح كريمة وأقرانها وتحجج عبد الناصر وقتها بخوضه معركة لتجديد الأزهر وإزاحة فكر التيارات الدينية المتشددة عنه، فلم يرد الرئيس فتح جبهات أخرى تضم إلى تلك المعركة، وطلب من كريمة صرف النظر.

سنوات عديدة تمر، ويعين كل عام دفعة جديدة من الرجال في السلك القضائي، وتقف النساء مكبلة الأيدي، سنوات تمر تغير فيها وجه مصر والمنطقة العربية بأكملها، شغلت فيه المرأة منصب الوزيرة، والسفيرة، ورئيسة للمصالح والهيئات الحكومية، إلا أنه تم تحريم المنصة عليهم تحريم الدم.

في السبعينات، خاضت امرأة مصرية شجاعة تسمى هانم محمد معركتها أمام مجلس الدولة أيضا وطالبت في دعوى قضائية بحقها في التعيين كمندوب مساعد أول درجات السلم القضائي في المجلس، ومرة أخرى تخذل قلعة الحقوق والحريات المواطنة التي لجأت إليها فقضت برفض الدعوى، وعدم أحقية هانم في تولى مثل هذه الوظيفة لأن القرار الذي أتى برفضها جاء وفقا لما نص عليه الدستور من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وأن مبدأ المساواة الذي نص عليه الدستور يجب إعماله فقط عندما لا يتعارض مع ما توجبه نصوص الشريعة بأنه "لن يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة".

التغيرات دائمًا تأتي من السلطة الأعلى

لم تنجح معارك النساء التي رأت أن من حقها أن تتولى منصب القضاء مساواة بالرجل، وفي رأيي أنها لم تكن لتنجح لولا تدخل السلطة العليا التي مثلت دائما ضغطا على الآراء الشخصية لمن هم في سلطة أدني منها وكانوا يقفون بالمرصاد أمام نجاح هؤلاء النسوة.

في 2003، صدر قرار جمهوري بتعيين تهاني الجبالي ضمن قضاة المحكمة الدستورية العليا، بعد عملها بالمحاماة أكثر من 30 عاما ونظرا للعلاقة التي جمعتها بقرينة الرئيس أنذاك جاء تعيين تهاني الجبالي لكسر حاجز الرفض، وبناء الاعتراف بإمكانية تحقق الحلم في أن تكو المرأة صالحة لمنصب القضاء بمنصاته المختلفة، وبالفعل مرة أخرى في 2007 يكسر رئيس الجمهورية حاجز الصمت ويأمر بتعيين 32 قاضية بالجمعية العمومية لمجلس القضاء الأعلى.

تمر السنين والأيام، تقوم ثورة واثنتان في مصر، يتغير رئيس الجمهورية مرة ومرتين بل وثلاثة مرات، ولم يتغير فكر قضاة مجلس الدولة تجاه تعيين المرأة كقاضية بالمجلس أبدا، في 2014 بدءت أمينة جاد الله معركتها الشخصية بعد تخرجها من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وحصولها على منحة من الجامعة لإكمال دراستها بالخارج، فأسست أمينة مبادرة المنصة حقها بهدف تمكين المرأة لاعتلاء المنصة القضائية وإشراكها في تنمية الدولة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وبعد 9 سنوات من دق باب السلطة لكى تشاركها رؤيتها في أن المعيار الوحيد لتعيين المرأة في المناصب القضائية أو التنفيدية هو الكفاءة المهنية فقط لا غير، استجاب رئيس الجمهورية ووجه مجلس الدولة بتعيين المرأة على منصته في عهد المستشار/ محمد حسام الدين، الذي رفض هو نفسه بصفته رئيس الدائرة الأولى للحقوق والحريات العديد من الدعاوى التي رفعتها سيدات لمحاولة الحصول على حقهن.

وصل عدد القاضيات المعينات حتى الآن على منصات القضاء المختلفة نحو 3500 قاضية، وهي نسبة ضيلئة بالطبع إذ ما قورنت بالعدد الإجمالي للقضاة في مصر، إلا أن الطريق إلى المساواة مازال طويلا.. ونساء مصر ذوات نفس طويل.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة