“أصدر مجلس النواب القانون الآتي نصه”.. ديباجة عادية يتضمنها إعلان نشر أي قانون جديد أو أي تعديل لقانون موجود بالفعل في الجريدة الرسمية، عادة لا يأتي بعد هذه العبارة سوى بعض المواد القانونية ذات صياغة معقدة يجلس على تفكيك لوغاريتميتها المشتغلون بالقانون، فهو “أكل عيشهم” بالأساس.
في هذا السياق، أصدر مجلس النواب باعتباره السلطة التشريعية في هذه البلاد أول قانون لهذا العام 2024 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، بأن جعل التقاضي في مواد الجنايات على درجتين: أول درجة، والجنايات المستأنفة.
نعود هنا إلى الوراء قليلًا، أو إلى بعض الأساسيات إذا أردت، هناك مبدأ دستوري عام يسمى بالشرعية الجنائية، وينص هذا المبدأ على أنه لا يتم تجريم أي فعل إلا إذا نص قانون ما على ذلك، ولا يتم الحكم بعقوبة على أي شخص ما لم ينص عليها القانون. والدستور هو أبو القوانين والحاكم لها، وهو العقد الاجتماعي الذي يتم تنظيم الحياة من خلاله في أي دولة تعتبر نفسها “دولة قانون”.
ومن هنا جاءت بعض القوانين التي تسمى في المجال القانوني بالقوانين المكملة للدستور، حيث أن الوثيقة الدستورية تحتاج إجراءات خاصة ومكلفة لتعديلها، فتكتفي معظم الدساتير بوضع القواعد العامة وترجئ تنظيم هذه القواعد إلى عهدة السلطة التشريعية، وتتكون هذه القوانين من مجموعة من القواعد الأساسية التي تنظم العلاقة بين السلطة العامة – أي الحكومة – والحريات الفردية للمواطنين بشكل أساسي.
ويأتي من ضمن هذه القوانين قانون الإجراءات الجنائية، وقانون الإجراءات يمس بشكل أساسي حرية المواطنين في الدولة – إذ أنه قد يؤدي إلى سلب هذه الحرية منك – ويتضمن قواعد قانونية على السلطات العامة المختصة بتنفيذه – أي الشرطة والنيابة – اتباعها عند تحقيق جريمة تم ارتكابها لتحديد المسئول عنها وتقديمه إلى المحاكمة الجنائية، ويعمل هذا القانون كضمانة أساسية وهامة لكل مواطن اتهمته السلطات بارتكاب جريمة ما، مهما كان حجم الفعل المؤثم الذي شكلته.
في عام ٢٠١٤ شهد إصدار الدستور الجديد للبلاد إلزام الدولة بتنظيم القانون عملية استئناف الأحكام الصادرة في المحاكمات الجنائية، وأعطت لجنة الخمسين – التي قامت مقام الجمعية التأسيسية للدستور – مهلة ١٠ سنوات لتمهيد الأرض والمنظومة القضائية لاستيعاب هذا الكم من التغيير، فماذا فعلت الحكومة انتظرت الحكومة مدة العشر سنوات كاملة دون أن تحرك ساكنًا وبدأت العمل على مناقشة تغيير قانون الإجراءات الجنائية في الأسبوع الأخير من هذه المهلة، وتكرم مجلس النواب بإصدار التعديلات في اليوم الأخير من مدة العشر سنوات دون مناقشات حقيقية مع أهل القانون والخبرة، وبلا مناقشة مجتمعية أيضًا مما جعل هذه التعديلات تتسم بالغموض، وغير ذلك نص التعديل على بدء العمل بها من اليوم التالي دون أى توضيح للعملية الإجرائية التى سوف تحيط بهذا التطبيق، مما سيخلق عند التطبيق على أرض الواقع مشكلات عديدة.
بالطبع إن جعل المحاكمات الجنائية على درجتين تغيير مطلوب وهام جدًا ويخفف الضغط على محكمة النقض بدائرتها الجنائية التي يتم تحديد جلسة بها بعد عام وأكثر من إيداع الطعن على حكم الجنايات، لهذا فإن تنظيم الاستئناف على أحكام الجنايات يعطي وضع أفضل للمتهم من ناحية إعادة محاكمته أمام دوائر مختلفة، وفي وقت سريع، وتفعيل لحقوقه الدستورية في الدفاع عن قرينة براءته.
إلا أن التعديل الصادر في هذا الشهر فرض أسئلة على المشتغلين بالقانون لم يجدوا بها إجابات بين طيات نصوصه، ولنأخذ مثال لذلك، نصت المادة ٤١٩ مكرر ٢ على جواز استئناف النيابة العامة للأحكام الصادرة من محكمة الجنايات غيابيًا!
والسؤال الذي طرح نفسه هنا كيف تستأنف النيابة على حكم ليصبح نهائياً باتًا – أي واجب النفاذ – لم تتحقق في محاكمته الأولى ضمانات دفاع المتهم؟!
وما هو المقصود بالأحكام الغيابية في هذا الشكل؟! هل إذا حضر دفاع المتهم بتوكيل في أول جلسة ثم تخلف في الحضور بعد ذلك لأي سبب كان ولم يقدم المرافعة الشفوية أمام المحكمة يعتبر الحكم حين ذاك حضوريًا أم غيابيًا؟
وما هي الحدود التي تحكم سلطة قاضي الجنايات في ذلك، أم أنها تعتبر في ذلك سلطة تقديرية مطلقة؟!
هناك إجراء قانوني يُعمل به في الأحكام الغيابية الصادرة عن محكمة الجنايات وهو إعادة الإجراءات، بمعنى أن يقوم المتهم الذي حكم عليه بتقديم نفسه إلى المحاكمة ليحقق فيها دفاعه عن نفسه وتقديم الأدلة والبراهين على براءته من ما اتهم فيه، وتعيد المحكمة نظر القضية وتقيم بالتمحيص والتفنيد تلك الأدلة، فهل إذا تم استئناف الحكم من قبل النيابة سيتم إلغاء ذلك الإجراء؟
في وجه آخر تعتبر المادتان ٣٧٥، و٣٧٦ تدخل واضح وفرض أمر واقع على خصوصية العلاقة بين المتهم ومحاميه، فحق الدفاع حق دستوري لا سلطة لهئية المحكمة عليه إلا فيما تعلق بالنظام العام للمحاكمة، وأيضًا حق المتهم في الصمت عن دفاعه حق دستوري لا سلطة للمحكمة عليه.
هذا بالإضافة إلى إعطاء القانون للنيابة حق الاستئناف على الأحكام خلال ستين يوم فيما قصرها على المتهم خلال مدة أربعين يوم فقط مما يخل بضمانات الدفاع.
ما نريد أن نقوله في النهاية أن تحقيق الالتزام الدستوري أمر عظيم للغاية، لكان الالتزامات الدستورية يجب إعمالها لتحقيق الغرض منها وليس تقويضه، ومن المتوقع أن يواجه المحامون والمتهمون مشكلات إجرائية عدة عند التطبيق الكامل لهذا القانون، فكان يجب مناقشة هذه التعديلات بالقدر الكافي حتى وإن تجاوزنا المدة التي نص عليها الدستور طالما كان ذلك أكثر أماناً واحتراما لحقوق المتهمين.
