من أشقِّ ما يشقُّ على المواطنين البسطاء، غير العالمين ببواطنِ الأمور، محدودي المعرفة بالاقتصاد ونظرياته، من أمثالي الذين لا يمتلكون ناصية “العلم الحقيقي”، أن يفقهوا تأويل السياساتِ الاقتصاديةِ الراهنة، أو يتكهَّنوا بدوافعها ومراميها، ناهيكَ عن نتائجها.
لكن المؤكَّدَ أن ثمَّةَ حكمةً مخبوءة، سنعرفها في النهاية، وحسبُنا أن الحكومة تقول إن هناك بعد ما نكابد من شظف العيش، خاتمةً سعيدة، ومُقرَّمشة من الخارج وطريَّة من الداخل.. خاتمة نصل فيها إلى العبارة القرآنية: “وبشّر الصابرين”، أو “إن للمتقين عند ربهم جنَّاتِ النعيم”، فتنهمر من مآقينا دموعُ الفرحِ بعد الترح.. وربنا يحسن خاتمة الجميع.
صحيحٌ، أننا نتوجس خوفًا من المستقبل، إذ نرى الحاضر غامقًا كريش الغُراب، ونرصد الحراكَ الطبقيَّ في اتجاهٍ نازل على الدوام، أو بالأحرى مُتدحرّجٌ إلى القيعان، لكن هذه المخاوف ترجع إلى عدم إلمامنا بالصورة الكاملة، ولعلنا متسرعون متعجلون، وهذه طبائع البشر، لا يصبرون على ما لا يُحاطوا به خُبرا.
إن الإنسان يخشى ما يجهله، وهذه قاعدة سيكولوجية راسخة، غير أن علينا أن نقر عينًا و”نبطل هري”، فالذين يديرون الدفة في هذه المرحلة العصيبة، أكفاء خارقو الذكاء، أقوى جهاز كل حاجة.
أزمتنا نحن البسطاء غير المطلعين على الخبايا، تكمن في أننا ننظر تحت أقدامنا، فلا نُبصر أن هناك مشروعات تقدمية نهضوية تنموية عبقرية، ستنقل العباد والبلاد من العوَّزِ إلى البحبوحة، كما “يتبحبَّح” على الفضائيات مقدمو “التوك شو”، من رموز إعلام المرحلة.
الحكومة تفكر في الأجيال المقبلة، ليس مهمًا ما تبقى من حياتنا، وليس مهمًا ما راح هدرًا منها، عليه العوض ومنه العوض، ما دام هناك تخطيط بعيد المدى، سيجني ثماره الآتون بعدنا بعام أو عقدٍ أو قرنٍ أو قرنين، ثم إن حبنا لهذا الوطن، يقتضي أن نكبح حاجاتنا الثانوية.. والأساسية بالمرة، فنفديه بالروح والدم، حتى يحيا ثلاث مرَّات، ومن ثمَّ يعيش أبناؤنا أو أحفادنا، أو أحفاد أحفادنا بعدئذٍ في “تبات ونبات”.
التشكيك في برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تسميه الحكومة بالطَموح، مُروقٌ عن الإجماع الوطني الجارف، ذاك الذي تجلّى في الانتخابات الرئاسية؛ العرس الديمقراطي الذي لم تشهد البشرية منذ عرفت حق الاقتراع، مثله في النزاهة، قمة النزاهة، والنعمة نزاهة، والعيش والملح نزاهة.
الحكومة تقول وعلينا التصديق، وإذا طلبت أن نبصم بالعشرة على بياض، يجب أن نردد: “روحي.. روحي.. روحي”، ليس لكوننا منساقين قطيعًا، كأتباع جماعة الإخوان الذين قلنا مع القائلين، في وصفهم إنهم خرفان، بل نُصدِّق الحكومة انطلاقًا من الثقة في رأس السلطة، فالرجل “صادق جدًا، وأمين جدًا، إن شاء الله” كما يقول واصفًا نفسه.
الغلاء حالة مؤقتة، وكل مرٍّ سيمر، والأوضاع في العالم مضطربة، والدليل أن حياتنا قبل جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، ومن بعدهما طوفان الأقصى، كان “لونها بمبي”، كانت كنافة بالفستق الحلبي واللوز الأمريكي، كنا نفطر سيمون فيميه نرويجيًا، ونُمزِّمز الكافيار القزويني الأبيض والأسود والأحمر، ونُحلّي بالفواكه الاستوائية.
الدولار الهائجُ الذي يغتصب مع الجنيه، اللقمة بغير غموسٍ من الأفواه، سيصبح كرمال صحراء الربع الخالي في وفرتها، وهناك خطط لجذب استثمارات بلا حساب ولا عدد، ذهبًا وياقوت ومرجانْ، أحمدك يا رب، ألم يكن الدولار الأمريكي “مرطرّطًا” قبل الأزمات الاقتصادية العالمية؟ ثم إن البلاد في مرحلة تعافٍ من اضطرابات داخلية أسقطت مثيلاتُها بعض الدول المجاورة، فما حدث في الخامس والعشرين من يناير، رغم نص الدستور على أنه يوم ثورة قد أضر بالبلاد، وأعادنا قرونًا إلى الوراء، لقد جنى الشعب المصري على نفسه، كما جنت على نفسها براقش.
وبعدُ.. ما دخل المواطن في الخطط الاقتصادية؟ مَنْ أعطاه الحق في معرفتها ثم مناقشتها مع القائمين عليها؟ أيفهم أكثر من الحكومة؟
خسيء المتنطعون، لا أحد يفهم أكثر من الحكومة، التي تصل الليل بالنهار، وتحفر صخور الواقع الصلدة بأظافرها، حتى توفر لأكثر من مائة مليون، هذا الرغيف العظيم الكبير الشهي، بجنيه وخمسين قرشًا فقط لا غير، ناهيك عن الرغيف المُدَّعم الأرخص والأشهى، في حين لا تجد بعض الدول سُنبلةَ قمحٍ، بعد تضرر سلاسل إمدادات الغذاء إثر الحرب.
صحابة الرسول أكلوا ورق الشجر، وصبروا بثبات حتى رُفع عنهم البلاء، أما نحن فلا نحمد الله على نعمه الظاهرة والباطنة.. منا لله صحيح.
مؤسفٌ أن المواطن الشكَّاك لا ينظر إلا إلى نصف الكوب الفارغ من الماء، هذا الماء الذي تحلم إثيوبيا بالتحكم فيه، لكن هيهات ثم هيهات، والويل لأديس أبابا والثبور وعظائم الأمور، فمصر عندها حُزمة خطط بديلة لتوفير قطرات الحياة، وأي كلام عن فشل مشروع تبطين الترع مثلًا، لا يجب أن يشوّش تفكيرنا، هذا كذب وافتراء، إذ أننا لا نعرف الهدف الفني والاستراتيجي من التبطين، فربما كان عملية تمويه محكمة، و”خالتي بتسلم عليك”.
أما انقطاع الكهرباء الذي كان مبرره “الرسمي”، تخفيف الأحمال صيفًا، فتحوّل إلى روتين يومي له ميقاتٌ معلوم في “عز طُوبة”، فواردٌ أن هناك تبريرًا له، وضجرُ الناس من احتراق مُحرّكات الثلاجات ليس مقبولًا، فذاك على الأرجح عَرضٌ جانبي لخطة بالغة الذكاء، وقد تبهرنا الحكومة، في وقت ما، بأن ما وفرته من استهلاكنا للطاقة، جرى تصديره في زجاجات مياه معدنية، أو “برطمانات جبنة قديمة” لدولة اسكندنافية، فحصلت البلد على مليارات، ولا الحاجة لصندوق النقد، الذي سيصير الجنيه معه أرخص من “الساسونا”.
الساسونا.. هل هذه عُملة منهارة لبلد ما؟
في حلقة من برنامج الكاميرا الخفية “زكية زكريا”، للراحل ثقيل الوزن والموهبة، إبراهيم نصر، تقمَّص بائعة خضراوات في زقاق شعبي، فإذا امرأة تقصده فتبتاع وتنتقي، فاستقرت بعد تقليبٍ و”تفعيصٍ” على ما راق لها، فحسبت ووزنت، فقدَمت الثمن، فردّت زكية لها الباقي بعملة اسمها “الساسونا”.
وطبيعي أن تأبى المرأة البسيطة، كما تقرر هيئتها، قبول هذه النقود التي لم ترها من ذي قبل، فتبدأ المناقشات مع زكية عقلانيةً هادئةً، فإذا بمشترٍ يدلف المتجر فيشتري فيقدم للبائعة الثمن “عدة ساسونات” فإذا بالمرأة تذهل غير مصدقة، فيحمى وطيس النقاش، من دون أن يخلو من عبارات إبراهيم نصر الهزلية، على نحو “اوعَ الجمبري يعضك”، أو “انفخ البلالين عشان عيد الميلاد”، يكررها للمرة الألف، فنضحك ملءَ أشداقنا للمرة الألف.
وتستمر المشادة الكلامية بوتيرة متصاعدة، فيما يتوالى تدفقُ زبائن الخضار، يبتاعون مما يشتهون، والتعاملات المالية جميعها بـ”الساسونا”، وزكية تحاجج المرأة بغية إقناعها بأن هذه عملة جديدة، أغرقت مصلحة سك العملات البلاد بإصداراتها، وهي تأبى التصديق بإصرار ذي بأسٍ، حتى يفيض الكيل فتطلب الرجوع في البيعة بأسرها: “خذي خضارك وهاتي فلوسي”، والبائعة الجسيمة المتينة، ترفض وتؤشر إلى لوحة جدارية عليها عبارة: البضاعة المباعة لا تُرد ولا تُستبدل، مع إيماءات جسدية فيها تهديد ووعيد، وصوت خشن كالرعود.
أخيرًا.. يئست المسكينة من النقاش، ففوَّضت أمرها إلى صاحب الأمر، فمضت إلى سبيلها، تجرُّ رجليّ الخيبة، وبين يديها “حفنة ساسونات”.
المشهد المضحك ذكَّرني بما تفعله الحكومة، لعله الشيطانُ، لعنةُ الله عليه، قد سوّل لي السوء، أو لأني كما أقررتُ واعترفتُ بكامل إرادتي وكامل قواي العقلية، ومن دون ضغط أو إكراه سابقًا، بأن تفكيري محدود، ومعارفي الاقتصادية لا تؤهلني لعمل دراسة جدوى لتحضير صحن فول بالطحينة، ومن ثم يُستغلق عليَّ استيعاب الحكمة من قرارات الحكومة، الحكمة التي ستجعل معشر الجن يتعجّبون، مما يرونه بمصر، إن لم يكونوا قد تعجَّبوا بالفعل.
عزيزي المواطن الشكّاك، ثِقْ في حكومتك ورجالاتها الأوفياء، فالحكومة حلوة، تهتم بك كالأم بأبنائها.. ولا تنسَ أبدًا أن ماما حلوة.
جميل جداً