بدر “زميل الفرشة” وقضايا التجمهر المغضوب عليها

حمل لي القدر في ليلتي الأخيرة بالسجن فرصة حوار ممتع ومفتوح مع زميل غرفة الاحتجاز، وكنا قد انتقلنا في الليلة السابقة إلى غرفة انفرادية – زنزانة مساحتها 2م*2م معدة لاستقبال نزيل أو اثنين فقط – وهو ما أتاح لنا أن يكون الحديث دون مخاوف من الأذان التي ظلت تلاحقنا خلال عام، وهي المدة التي قضيتها مع زميلي وصديقي بدر في سجون طرة.

بدر يونس هو شاب في مطلع العشرينات، قاده حظه العثر إلى التواجد في مركز إحدى التظاهرات التي أطلقتها جماعة الإخوان عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، كانت تلك التظاهرة بميدان رمسيس في أغسطس 2013 سببًا في قضاء بدر ما يزيد على 40 شهرًا داخل السجن.

تم القبض على بدر ضمن عشرات الأشخاص من محيط التظاهرة، وخلال ساعات وجد نفسه في النيابة متهمًا باتهامات مروعة، لم يدركه عقله القاصر حينذاك، حيث لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من عمره حتى تلك اللحظة.

خلال 3 أشهر قضاها يونس في السجن عانى من مضايقات واسعة من أنصار التيار الإسلامي، بسبب رفضه الالتزام بقواعد الإسلاميين داخل السجون، تلك القواعد التي من الممكن أن تجعل حياتك جحيمًا داخل ذلك المكان الموحش، سجن داخل السجن، كما اعتاد النزلاء تسميتها.

“كانت الأيام الأسوأ في حياتي” هكذا وصفها يونس، انتقل خلال تلك الأشهر بين عدد من مقرات الاحتجاز، والتي كان من ضمنها المؤسسة العقابية، وهي مقر احتجاز مخصص للأطفال دون 18عام.

اقرأ أيضًا:إلى صديق لم يعرفني، وأعرفه

تم إخلاء سبيل بدر بعد 12 أسبوع ضمن عدة قرارات اتخذها النائب العام الراحل “هشام بركات”، قبل أن تغتاله جماعة مسلحة تابعة لتنظيم “حسم” الإرهابي، وكان بركات اعتاد الإفراج عن الطلاب والنساء والأطفال على ذمة القضايا المتهمين فيها.

بعد تلك التجربة الصعبة، أعاد بدر اكتشاف ذاته. ” قررت أغير حياتي بالكامل.. الألم سرع من عملية نضجي”، أتذكر جيدًا الابتسامة الحزينة التي ارتسمت على وجه بدر بعد تلك الجملة ثم ألحقها ” مكنتش أعرف أن القضية شغالة ومكملة.. الناس قالولي قضايا السياسة بتقعد 3 شهور وتروح.. كانوا فاكرين انها اعتقال من بتاع زمان مش قضية شغالة”.

وعدت صديقي حينها أن أوثق ليلتنا هذه، كنت قد بُلغت بأن خروجي من السجن سيحدث خلال يوم أو يومين، وهو ما جعل حديثنا أكثر صدقًا وعمقًا.

حكى زميل الزنزانة عن عدد من المبادرات التي عمل عليها ليحقق ذاته بعيدًا عن دراسة الهندسة التي لم يعد راغبًا في استكمالها، أسس في البداية مبادرة للملابس الجاهزة بدون رأس مال، فقط فكرة أن يشتري “تي شيرتات” بالبيع الآجل ثم طباعة عبارات صممها بنفسه عليها، وإعادة بيعها “أونلاين”.

تتالت أفكاره بعد تحقيق ربح معقول من مبادرته الأولى، فأسس مكتب للتوصيل عبر خط ساخن، بالتعاون مع عدد من مبادرات البيع الإلكتروني للملابس، ممن تعرف عليهم.

خلال تلك المدة أتقن بدر عدة لغات عبر دروس أونلاين، مما دفعه لمحاولة العمل بالسياحة، تحرك صديقي بين محافظات مصر بكاميرا اشتراها خصيصًا وتعلم التصوير بها، وثق لقطات أحبها للشعب المصري ومجتمعاته بالريف والحضر، سوِق عن طريق تلك الصور للسياحة بمصر عبر منصات اجتماعية مختلفة.

“كنت بتفسح وبستضيف أجانب أفسحهم في مصر.. كنت بقولهم اللي عايز يشوف جمال مصر بجد أنا هوريهاله”، حكى السجين بشغف قلما تراه في عين شخص في هذا المكان، ساعده اتقانه للغات الإنجليزية والاسبانية والألمانية على تواصله مع شباب من جنسيات مختلفة، شجعه نجاحه على السفر إلى عدد من دول العالم للترويج للسياحة بمصر.

عندما بلغ هذا الحد استوقفته، كيف لشخص عانى من تجربة كهذه أن يعود إلى مصر بعد أن وصل أوروبا؟

وقد أجابني فورًا: “عمري ما تخيلت اني أعيش في بلد تانية غير مصر”

في إحدى جولاته تعرف على “ايلينا” وهي زوجته الحالية وأم ابنته “أمينة”، تقدم للزواج منها سريعًا في بلدها بالنمسا، وعاد بها إلى مصر ليعيشا معًا في بلده ويستكمل عمله بالسياحة.

بدر وايلينا
بدر وايلينا

خلال لقائي بزوجته بعد خروجي من السجن، سألتها عن نيتها البقاء بمصر بعد أن يخرج زوجها من محبسه، فأجابتني: ” لا أعرف مكانًا أفضل من مصر من الممكن أن أعيش فيه”.

بعد شهور من زواجه وكان في انتظار مولودته الجميلة، كانا على موعد للإفطار مع أسرته في رمضان عام 2020، حيث ألقت قوات الأمن القبض عليه من منزل والده، بهدف تنفيذ حكم قضائي صادر ضده بالحبس 5 أعوام بتهمة التجمهر ضمن القضية المعروفة إعلاميًا بـ “أحداث مسجد الفتح”.

خلال شهور طويلة من حبسه، لاتزال زوجته تداوم على زياراته الدورية، وتتمسك بالعيش في مصر، وخلف أسوار مركز الإصلاح والتأهيل ببدر تلتقيه ابنته التي تظن أن أباها يعمل في هذا المكان، بعد أن ولدت لتجده يرتدي سترة السجن الزرقاء.

حكاية بدر ليست القصة الوحيدة التي سمعناها داخل السجون، ولكن هناك ألاف القصص، خلف كل سجين سلسلة طويلة من الأحداث والأشخاص، روايات كاملة تعيش بين الخرسانة والحديد.

رغم تحركات الدولة قبيل الحوار الوطني وأثناءه في ملف سجناء الرأي، إلا أن قضايا التجمهر مثل أحداث رابعة والنهضة ورمسيس وغيرها لازالت تقابل بالاستنكار حين طرحها كقضايا من الممكن أن يشمل متهميها قرارات العفو الرئاسي.

وصمة “قضايا الاخوان” تلاحق مئات من الأبرياء مثل بدر، بعضهم تواجد بالصدفة في أماكن التظاهر، وأخرون تحركوا تعاطفاً مع ألة الجماعة الإعلامية، ولكن كثير منهم لم يكن يدرك أبعاد الاشتباك السياسي الحادث، ولو عاد به الزمن ألف مرة ما تواجد أبداً هناك.

أكثر من 10 سنوات مرت على تلك الأحداث، أغلبنا نسيها، فقط يتذكرها ويعيشها هؤلاء الذين تضيع أعمارهم بسببها. شباب مثل صاحبنا لديهم أفكار وأحلام وطموحات وقدرات جبارة تدفنها الدولة في غياهب الزنازين.

اقرأ أيضًا:شريف الروبي.. سجين رأي دائم الاستهداف ينتظره العفو

خلال العامين الماضيين خرج إلى النور أكثر من ألف مسجون – كنت أحدهم – لم يضر الدولة أو النظام خروج أي مسجون، بالعكس فقد استفادت الدولة من أدوارهم الاجتماعية والسياسية والفكرية.

خلال أيام تبدأ الانتخابات الرئاسية، والتي من المنتظر أن تتلوها فترة رئاسية عنوانها “الجمهورية الجديدة”، نتمنى من تلك الجمهورية أن تفتح قلبها وعقلها لمن غيبتهم الجمهورية القديمة بين دهاليز المحاضر والتحريات.

أتمنى أن نفتح قريبًا ملف قضايا التجمهر، المسكوت عنها ونزع وصمة العنف عن المئات ممن أدينوا فقط بتهمة التجمهر، دون أن يتورطوا في اتهامات بالعنف.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة